"مجلة التايم تختار حركة أنا أيضا (Me Too) كشخصية سنة 2017" كان هذا العنوان من بين عناوين أخرى قرأتها، خلال تقديمي لنشرة الأخبار يوم السادس ديسمبر من العام الماضي، بدا الخبر للوهلة الأولى مستغربا، فالمجلة الأميركية الشهيرة تحيد بهذا الاختيار عن عرف ابتدعـتـه لعقود، حرصت من خلاله وبعناية وحساسية بالغتين على انتقاء شخصيات أثرت في العالم وطبعت السنة بإنجاز مميز، لكن الحدث الذي أطاح بسياسيين وإعلاميين وعمالقة الإنتاج في هوليود، جعل الاختيار مختلفا واستحق أن يكون شخصية السنة بامتياز.
هذا الاحتفاء الإعلامي بحركة "أنا أيضا"، قد يجد سنده في مبررات ومصوغات عدة؛ فوسائل الإعلام كانت المنصة الحقيقية التي منحت الحركة قوتها، ومدتهـا بالزخم الضروري لتتحول إلى حملة عالمية، ومارست كل الضغط الرمزي الممنوح للصحافة كسلطة رابعة، ونجحت في تسليط الضوء على قضايا تحرش كان أبطالها، نجوما في عوالم الفن والسينما والسياسة، كالمنتج الأميركي هارفي واينشتاين، والنجم الأميركي كيفن سبيسي، كما نجحت في دفع الحملة إلى مدى غير مسبوق، بلغ حد استقالة وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون.
فكيف تلقفت وسائل الإعلام هذه الحملة، من وسائل التواصل الاجتماعي؟ وكيف تابعتها بالتحقيق والتدقيق والتغطية اللازمة؟ وما المقاربة المعتمدة من الصحف والقنوات العالمية في التعامل مع الضحايا من جهة ومع المتهمين بالتحرش من جهة ثانية؟ وكيف كرست هذه الحركة الاختلاف في معالجة الملفات العالمية بين الصحافة الأنجلوسكسونية (البريطانية والأميركية) والصحافة الفرانكفونية؟
التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام.. جدلية التفاعل
أظهرت حملة (Me Too)، درجة التفاعل بين مواقع التواصل الاجتماعي، بمختلف منصاتها، ووسائل الإعلام، المرئي منها والمقروء، لكن هذه المرة شكلت وسائل الإعلام الاستثناء، فإن تمكنت مواقع التواصل الاجتماعي من التغول على العمل الصحفي المهني وتحجيم أدواره في أحايين كثيرة، لدرجة باتت وسائل الإعلام مضطرة، لمساير إيقاع هذه المواقع، وتدخلت منصات التواصل الاجتماعي في طريقة أداء وسائل الإعلام لعملها الصحفي، ودفعتها لتغيير منظومة اشتغالها، لتتلاءم مع متطلبات هذه المنصات، فإن الأمر بدا مختلفا تماما في حملة "أنا أيضا".
فهاشتاغ "Me Too"، ليس وليد الأشهر الماضية، بل أُطلِق قبل عشر سنوات، لإدانة العنصرية والتحرش، ومع ذلك فقد اقتصر استعماله على سرد قصص نساء تعرضن للتحرش، قبل أن تدخل الصحف الأميركية، على الخط، وخصوصا صحيفة نيويورك تايمز، وتعطي للحملة القوة اللازمة، بنشر تحقيقها، حول تعرض عدد من الممثلات للتحرش من طرف المنتج الأميركي الشهير، هارفي واينشتاين، وبعدها سيزيد تحقيق صحيفة "نيويوركر"، حول نفس الشخصية، من زخم الحملة.
وبهذا سيفتح الباب على مصراعيه أمام تحقيقات صحفية عدة عبر العالم، تكشف عن تورط شخصية عامة لامعة في مجالات عدة، في قضايا تحرش جنسي، ولعل ما يهم رجل الإعلام في هذه الواقعة، هو استلام الصحف العالمية لزمام المبادرة من يد مواقع التواصل الاجتماعي، وبرزت شخصية الصحافة المهنية، باعتمادها على صحافة التحقيق، التي تعتبر أرقى الأجناس الصحفية.
وهكذا لم يقتصر دور الإعلام هذه المرة على المتابعة والمواكبة، لحدث انطلق من منصات التواصل الاجتماعي، بل تحولت وسائل الإعلام إلى منتج لمضمون صحفي، تتوفر فيه كل شروط الخبر والمعلومة، من توثيق وتدقيق وموضوعية.. صفات تنتفي في الكثير من الأحيان في المعلومات المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويحسب للصُّحف الإعلامية، التي كانت سباقة للكشف عن قضايا التحرش في العالم، أنها أخرجت حالات التحرش من صفحات الحوادث، إلى تصدُّر الصفحات الأولى لكل الصحف، وعناوين الأخبار في القنوات العالمية. وهكذا يُمكن أن يُحسب للصحافة العالمية أنها حولت حملة "أنا أيضا" من حركة غير منظمة وغير مؤطرة ويغلب عليها طابع الفردانية، إلى ظاهرة اجتماعية ومنحتها الوثوقية، باعتمادها على معطيات ومعلومات موثقة، وجعلت العالم يتعامل معها بالجدية المطلوبة، وهو ما تجلى في الاستقالات والطرد وحتى السجن، الذي تعرض له المتورطون في هذه القضية.
ليصبح المشهد كالآتي: وسائل إعلام تعتمد على تقنياتها الصحفية والأجناس الصحفية الكبرى، من التحقيق إلى الحوارات وصولا للربورتاج، وتنتج مادة صحفية قادرة على إحداث التغيير والتأثير في المؤسسات والحكومات عبر العالم، بينما تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى "مستهلك" لهذه المادة الإعلامية، ومنحتها الانتشار المطلوب عبر العالم. وهنا لابدَّ من الإشارة أن الاعتماد على شعار "أنا أيضا" كان له دور في التعبئة وتطبيق قانون القرب، الذي يُعدَّ من أهم مبادئ العمل الصحفي فبفضله تتحقق التوعية، وهذه كلها أهداف تنشدها الصحافة، ولأجلها خلقت.
الإعلام الأميركي والبريطاني.. انتصار للمهنية
كان للصحف الأميركية السبق في إثارة قضايا التحرش الجنسي، ودفع الضحايا ومنهم نجمات عالميات في عالم السينما والإعلام، وكدأبها في التعامل مع الملفات الكبرى، تعمل الصحافة الأميركية بمنطق "التضامن المهني"، أولا بإعادة نشر ما انفردت به إحدى الصحف الأميركية لمنح الانتشار المطلوب، وثانيا لا تعيد عليه بل تزيد، وهذا ما ظهر من تسلسل التحقيقات الصحفية حول التحرش الجنسي في داخل المؤسسات الكبرى، وكان للصحافة المكتوبة حصة الأسد من هذه التحقيقات، وذلك راجع لبنية المشهد الإعلامي الأميركي، فالصحف الأميركية ذات ممارسات مهنية عريقة، ودائما مسكونة بهاجس السبق الصحفي.
ومثل كرة الثلج المتدحرجة، أدت التحقيقات الصحفية إلى فتح تحقيقات جنائية، وإدانة قضائية للعديد من المتورطين، وإطلاق مبادرات عالمية لمحاربة التحرش. وسط كل هذا الزخم، لم تحد الصحف الأميركية الكبرى عن مبدأ قرينة البراءة وعدم إدانة أي مشتبه به، وأيضا عدم التشهير بالضحايا، بل شجعت كثيرات على الحديث عن قصصهن، ومنحتهن كل الدعم المعنوي الضروري للإقدام على مثل هذه الخطوة، إذ ثمة خيط رفيع يفصل بين التشهير والإخبار في مثل هذه القضايا.
وانتقلت الصحافة الأميركية لمربع النقد الذاتي، وهو ما عبرت عنه صحيفة "واشنطن بوست" في إحدى افتتاحياتها، بالحديث عن ضرورة "الكنس أمام البيت"، وتقصد بذلك استغلال وسائل الإعلام الأميركية لحالة التعبئة العالمية حول هذه الظاهرة، من أجل القيام بنقد ذاتي لمظاهر التمييز بين الجنسين داخل غرف الأخبار، وتوفير حماية أكبر للعاملات في المؤسسات الإعلامية الأميركية.
أما الصحف البريطانية، فكانت زاوية معالجتها لهذه الحملة، مشابهة لتلك المتبعة من طرف الصحف الأميركية،إذ بُنيت على التحقيق والمتابعة وممارسة الضغط الإعلامي، مع تركيز على الشخصيات السياسية المتهمة بالتحرش، وهو بالفعل ما أدى لاستقالة عدد من أعضاء الحزبين الأكبر في المملكة المتحدة، المحافظين والعمال، وتوجت هذه الحملة باستقالة وزير الدفاع البريطاني السابق، مايكل فالون، الذي خرج في حوار مع قناة "بي بي سي" ليتعذر ويقدم استقالته.
وانتبهت الصحف البريطانية، إلى بعد مهم في هذه القضية، وهو إمكانية أن تصبح الحملة ضارة للنساء عوض حماية حقوقهن، سواء من خلال التشهير بهن أو استغلالهن للإثارة والرفع من المبيعات، لذلك سنجد صحيفة "الغارديان"، تخصص حوارات وملفات، تحذر من الضرر النفسي الذي تتعرض له النساء اللاتي تحدثن عن قصصهن مع التحرش بوجه مكشوف، وتنبه لحجم الهجوم العنيف الذي تعرضت له بعض النساء على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتقترح الصحيفة البريطانية، الانتباه في التعامل مع ضحايا التحرش، لأن أي مضايقة يتعرضن لها، سيجعل نساء أخريات يفكرن أكثر من مرة قبل فضح حالات التحرش، وهكذا فقد كان تعامل الصحافة البريطانية، مع الملف تعاملا "أخلاقيا"، يضع احترام الحياة الخاصة للمشتكيات وسلامتهن النفسية قبل كل شيء، بعيدا عن محاولات الإثارة واستغلال حكايات النساء مع التحرش، لرفع المبيعات، فضلا عن التأكيد على مقاربة الموضوع، بلغة متزنة لا تقع في الإسفاف، وتحترم القارئ بتقديم المعلومة، بعيدا عن أي إيحاءات مثيرة.
الإعلام الفرنسي وطارق رمضان.. الإدانة هي الأصل
الصحافة الفرنسية تخلفت عن ركب الصحف العالمية، التي انفردت بتحقيقات فضحت قضايا تحرش وهزت العالم، قبل أن تجد في الاتهامات الموجهة للمفكر الإسلامي طارق رمضان بالاعتداء الجنسي على نساء، فرصة مواتية لتدلو بدلوها في ظاهرة التحرش. وبتتبع تغطية الصحف والقنوات الفرنسية لهذا الملف، سنجد كيف أن الأمر تحول إلى تصفية حسابات مع هذا المفكر "المزعج" لأوساط عدة في فرنسا، لها ميول يمينية أو يمينية متطرفة.
وهكذا حولت صحف عدة مقالاتها إلى ساحة لمحاكمة أفكار طارق رمضان، بعيدا عن طبيعة التهم الموجهة، مع تعمد ترسيخ تلك الصورة النمطية عن الرجل المسلم، الذي يتعامل بعنف مع المرأة، وهو ما استبشعه عدد من الكتاب الفرنسيين الجادين، معتبرين أن صحفا فرنسية عدة، لم تحترم قرينة البراءة، ولا انتظرت كلمة العدالة الفرنسية، بل قفزت مباشرة لإدانة الرجل.
ولعل من غريب التغطية "الإعلامية" لطارق رمضان، هو ما كتبته صحيفة "لوموند"، عندما استغربت كيف أن الصحافة البريطانية لم تتطرق لملف طارق رمضان، رغم أنه أستاذ في جامعة أكسفورد، قبل أن تجيب بأن طارق رمضان لا يتمتع بأي شعبية في المملكة المتحدة، والحقيقة أن تفسير الصحيفة الفرنسية بعيد كل البعد عن الواقع، فالصحافة البريطانية تنضبط للقواعد المهنية، التي تقول بتجنب الإدانة قبل قول المحكمة كلمتها الأخيرة.
أما صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، فقد أضافت للملف بعدا آخر، وهو اتهام المدافعين عن براءة طارق رمضان بمعاداة السامية، مدعية بأن تعليقاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي تنم عن معاناة للسامية وتحمل أفكارا متطرفة، وهكذا فالخطاب الإعلامي الفرنسي كان خطابا مسيسا وموجها في التعامل مع القضية، ولذلك لا عجب أن تتسابق العديد من الصحف في أخذ تصريحات السياسيين المعروفين بعدائهم لطارق رمضان، كما هو الحال بالنسبة للوزير الأول الفرنسي، إيمانويل فالس، الذي صرح بأنه طالما "حذر من خطورة" طارق رمضان وطالب بمنعه من إلقاء المحاضرات في فرنسا.