الإعلام وتصدير الأزمات

الإعلام الذي يلعب دوراً في دفع أطراف نزاعٍ ما إلى طاولة الحوار، هو ذاته الذي يزيد اشتعال النار في أطراف الدوائر التي تقف في مواجهة بعضها جرَّاء مواقف مختلفة. القضية هنا بعيداً عن أخلاقيَّتها، إنها اصطفاف أذرع إعلامية لا تقل في كارثيَّتها عن الأجنحة العسكرية التي تستخدمها جهات ما لدعم موقفها.

إنه أمرٌ دُبِّرَ بلَيل، عشية اختراق وكالة الأنباء القطرية الرسمية، فُتِحت جبهات إطلاق النار بأحرف أبجدية مدروسة، ضيوفٌ جاهزون وعناوين تحمل في تراكيبها مقولات متعددة، كان واضحاً من البداية أن الباب قد كُسِرَ تماماً أمام فتنة نائمة، صمتَ القطريون حيناً أمام تداعيات الانهيار، صمتَ المراقب لما قد يحدث –رغم النفي القطري لتصريحاتٍ لم تكن في الأصل- زادت وتيرةُ العناوين المبنية في جوهرها على ما يشبِهُ سقطةً أخلاقية لهذه القنوات ليلة فشل الانقلاب في تركيا.

تناقلوا في تلك الليلة أنباء مثيرة متسارعة عن مصادر نبتت في غرف الأخبار المظلمة، تشبه في حدَّتِها وفانتازيَّتها شخصية سعود بن ناصر التي قدَّمته صحيفة الحياة السعودية بوصفه المخلِّص الغائب الحاضر دوماً، صاحب الصولات والجولات والعلاقات الأخطبوطية في بنية الدولة في قطر، هكذا بدأت وسائل إعلام الطرف الآخر تبني أنباءها على جُمَلٍ متقطِّعة، لا يربطها إلى أرض الواقع إلا صور قيل إنها لمحلات تجارية فرغت في الدوحة نتيجة هجوم العباد على ما في البلاد!

لم يتأخر الإعلان عن تنسيقية جبهة تحرير قطر كثيراً، عبر صحيفة البيان الإماراتية نقلاً عن وسائل إعلام مصرية. جاء الخبر بصورة إعلان عام عن الإطاحة بالحكم القطري وتشكيل مجلس أعلى لإدارة البلاد.. فانتازيا التاريخ هنا تجتمع بصورة دراما رخيصة من السفَهِ بمكان الالتفات لما تقول. بدا واضحاً أن السياسات التحريرية كانت مشحونة تماماً على شكل تغطيات مفتوحة على كل الضيوف إلا من يدافِع عن قطر، برامج حوارية أُتِيَ بضيوفِها من عواصم العالم المختلفة للهجوم على الدوحة.

درسنا في الصحافة أن الخبر يجب أن يشتمل على إجابات شافية لأسئلة خمسة، أين، كيف، متى، ماذا، مَن؟.. كانت الأسئلة موجودة وإجاباتها مفتوحة الاحتمالات على تصعيد من كل اتجاه، فحضرَت أشياء عند صانعي الأخبار وغابت أشياء كثيرة، غابت قواعد وأصول العمل الصحفي الذي يقوم في جوهره على الأخلاق، ما يثير الشفقة حقاً عرضٌ شاملٌ لتواريخ ماضية شهدَت فيها قناة الجزيرة مع مطلع هذا القرن إغلاق مكاتبها في الأردن ومصر والجزائر وغيرها، عارضو هذه الأخبار وناقلوها كان أغلبهم يعمل في قناة الجزيرة في تلك الفترة، هم الذين اعتبروا إغلاق تلك المكاتب فخراً لأنها عارضت فرض الرأي الواحد على الشارع العربي، تخندقوا اليوم في أماكنَ أخرى، انتهجوا العداء فيها للمؤسسة التي منحتهم الفرصة الحلُم حينها لملايين من شباب العالم العربي.. معادلة أخلاقية بالدرجة الأولى قبل أن تتعلق بمبادئ وشرف مهنة الصحافة، نحنُ هنا لا نعلِّم الناسَ ما يكونُ وما لا يكون، لكلٍّ الحق في قول ما يريد، لكن تلك الحرية يجب أن تتوقف عند حدود شرف الأخلاق.

قبل الإعلان الرسمي عن قطع العلاقات الدبلوماسية، بدأت حملة شعواء لتصدير الأزمة خارج الخليج العربي، تصدير الأزمة يعني في علم الإعلام العام خلق مجموعات ضغط ومراكز قوى غير مفصلية في الحدث الرئيس.. هكذا انشغلت عواصم العالم أجمع بما يحدث، لتبدأ حملة أكثر عداء قامت على منح منابر لضيوف على قنوات إخبارية ناطقة بالعربية، مهمَّتهم الرئيسية في ذلك الظهور تشجيع الشعب القطري على العصيان والتمرد، مسارٌ لم يبتعد كثيراً في نقطة انطلاقِه عن السعي الحثيث لشيطنة الدوحة من خلال ربطها بحركات المقاومة والإسلام السياسي.

هكذا بدأت لعبة صناعة الخبر وترويجه وتصديره تدخل وتخرج في ذات الوقت من دوائر صغيرة مبنية في أصلها على التلويح بالعصا الخارجية لترسيخ الصورة المتخيلة ونبذ الصورة الحقيقية القائمة على انحياز قطر لثورات الربيع العربي ودفاعها عنها، العلاقة هنا بين المنظومة الإعلامية ومنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية علاقة متداخلة، على اعتبار أن وسائل الاعلام هي الناقل لأنماط التفكير والمعرفة والقيم، وبالتالي فهي تساهم في إيجاد جانب كبير من الثقافة الاجتماعية، وهو ما يعطيها أحقيتها كسلطة إعلامية في إدارة وتوجيه المجتمع على ألا تكذب أو تزوِّر، فالتعبئة الشعبية التي قامت بها أجهزة إعلامية تابعةٌ لخالقي الأزمة في الخليج العربي دفَعَت بأجهزةٍ رسمية أخرى في ذات الدُول المعنية بالإعلان عن عقوبات تصل للسجن والغرامة المالية لمَن يتعاطف مع قطر، وكأنَّ الدوحة هي مَن تحتلُّ جُزراً ثلاثاً في مياه الخليج، وهي ذاتها من تدعم فلول أنظمة ديكتاتورية سقَطَت بإرادة شعبية!.

المزيد من المقالات

صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024
كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
آليات الإعلام البريطاني السائد في تأطير الحرب الإسرائيلية على غزّة

كيف استخدم الإعلام البريطاني السائد إستراتيجيات التأطير لتكوين الرأي العام بشأن مجريات الحرب على غزّة وما الذي يكشفه تقرير مركز الرقابة على الإعلام عن تبعات ذلك وتأثيره على شكل الرواية؟

مجلة الصحافة نشرت في: 19 مارس, 2024