فن التعليق الصوتي للفيلم الوثائقي

الصوت في الفيلم الوثائقيّ لا يقلّ أهمية عن الصورة، فمن خلال توظيف الصوت بالشكل المناسب تُعزَّز الصورة، وفي كثير من الأحيان يمكن للصوت أن يرفع من قيمة التأثير البصريّ للفيلم الوثائقي. وهناك ستّة أنواع للأصوات الموظّفة في الفيلم الوثائقيّ (1)، يأتي في مقدمتها ما يُعرف بـ"التعليق الصوتيّ" أو "التعليق السردي"، وهو أحد الأنواع الصوتيّة الاختيارية في الفيلم الوثائقي، ونستطيع القول بأنّ الأفلام الوثائقيّة التي تستعين بالتعليق الصوتيّ هي الأكثر شيوعاً (2). ويقع في ظنّي بأنّ التعليق الصوتيّ يعتمد على عوامل أربعة تساهم في تحديد هويته ومستوى فعاليته في الفيلم الوثائقيّ:

1- صياغة نصّ التعليق الصوتيّ: يستطيع المخرج أو مساعد المخرج أو الباحث والمعدّ الرئيسيّ للفيلم صياغة التعليق الصوتيّ، ويُراعى في كتابة التعليق جانب إثراء الصورة وليس الوقوف على وصفها أو تكرار ما جاء على ألسنة المتحدثين في الفيلم، بالإضافة إلى استخدام اللغة المناسبة لطبيعة الفيلم.. وكلما كانت اللغة سلسة ولا تعاني من ثقل في معناها أو في لفظها، كان استقبال المشاهد لها أسرع وفهمه لمضمونها أدقّ، كما أن النص المكتوب للتعليق الصوتيّ ليس نصّاً أدبيّاً بحتاً  كما الشعر والرواية، فجانب رصد الواقع هو الطاغي في تعليق الفيلم الوثائقي. من المهم ألّا تُصاغ فقرات التعليق كأجزاء منفصلة وكأنّ المشاهد يتنقّل بين عدّة "كليبات"، بل إنّ طبيعة تعليق الفيلم الوثائقي تعتمد على خاصيّة الاستلام والتسليم ضمن منظومة واحدة، حتى وإن كانت هناك عدّة ملفات يناقشها الفيلم لابدّ من إيجاد مسار واحد أو خيط يربطها جميعاً لتحقيق التّناسق. ومن الأسباب الرئيسيّة لفقدان التّناسق في صياغة التعليق هو استخدام الكاتب لأسلوب أينما وُجد الفراغ وُجد التعليق.. هذه الطريقة تجعل مهمّة التعليق هي الحشو، إذ يجب أن يأتي التعليق لو كان هناك حاجة له فقط.

وفيما يتعلق بصياغة التعليق للأفلام الوثائقيّة التحقيقيّة، نلحظ مشكلتين تعاني منها بعض نصوص هذه الأفلام.. الأولى، هي كشف النّص لنتيجة التحقيق مبكراً وحرق الفيلم. والمشكلة الثانية، هي تكثيف استخدام عبارات التهويل للعمل التحقيقيّ وخلق حالة اضطراب دائمة في الفيلم من خلال تلك العبارات.. فلا يعني أنّ الفيلم تحقيقيّ ضرورة ملازمة الفيلم لوضعية "الآكشن" ففي النهاية هذا فيلم وثائقيّ وعليه إيصال المشاهد بتلقائية مُنسجمة مع القيمة الحقيقيّة للمعلومة التي يقدّمها الفيلم إلى نتيجة التحقيق.

2-  تدقيق ومراجعة النّص: وهنا ليس المقصود فقط ضبط الجانب النّحويّ وسلامة اللّغة، بل يتعداه إلى المساهمة في إعادة صياغة بعض الجمل التي قد تكون طويلة فيتمّ اختصارها، أو يكون تركيبها ثقيلا ويمكن الاستعاضة عنها بجمل أكثر أريحيّة لِسَمع المشاهد، كما أنّ مِن مهام المدقّق لنصّ الفيلم الوثائقي حذف الأفكار المكرّرة، وإعادة لملمة النّص بحيث يصبح جسداً واحداً لا نشاز فيها.

3-   أداء المعلّق الصوتي: قد يكون راوي التعليق الصوتي هو مخرج الفيلم أو أحد أعضاء فريق صناعة الفيلم كالمحقّق في الفيلم الوثائقي التحقيقي، وقد يكون أحد متحدثي الفيلم الرئيسيين ممّن تجتمع عنده أبرز محاور الفيلم، وقد يكون أحد معلقي الأفلام الوثائقيّة.. وهنا يجب مراعاة خامة الصوت والقدرة على التقمّص الصوتي لحالة النص المقروء، بحيث لا تكون كافة فقرات النص بذات النَّفَسْ ودرجة الانفعال، والموازنة بين الوصل والوقف في الجملة الواحدة، والاعتناء بالنّطق السليم لمخارج الحروف وعدم إضمار بعض الحروف خاصة في نهاية الكلمات.

وفي الفيلم الوثائقي، قد ترفص الأذنُ الفيلمَ قبل العين أحياناً لعدم استساغة صوت المعلّق، أو في بعض الحالات لكثرة تكرار اللجوء لمعلّق بعينه، الأمر الذي يصيب المشاهد بالملل. ولضمان أداء عال للمعلّق، يُستحسن حضور كاتب النّص لجلسة التسجيل لمساعدة المعلّق على الشعور بروح النّص وشرح بعض التفاصيل المتعلقة بمغزى هذه الجمل ليعطيها المعلّق حقّها، كما يُفترض أن يتجنّب الراوي الأداء الدعائي أو الأداء الشعري في قراءة النّص.

4-   توزيع التعليق الصوتي على الفيلم أو العكس: يرى البعض بأنّ نص التعليق الصوتي هو المرشد للفيلم وهو الذي يدير عملية ظهور المتحدثين والأرشيف وكذلك توظيف الموسيقى الخلفية للفيلم، والبعض الآخر يرى أنّ نص التعليق الصوتيّ هو عنصر مُتضمَّن داخل الفيلم بحسب الحاجة، وأنّ جسد الفيلم هو المقابلات، أمّا الأرشيف والغرافيك والوثائق والتعليق وغيرها، فهي عناصر مكمّلة تسير وفقاً لتلك المقابلات. وفي كلا الحالتين توزيع التعليق يجب أن ينسكب داخل الفيلم متلائماً مع المقابلات، وألّا تطول المساحات التي يُترك فيها الكلام للراوي.

 

 

 

هوامش

 

(1)  Das,Trisha, How to write a documentary script, New Delhi : Public Service Broadcasting Trust, (2007).

(2) Sheila Curran Bernard. “Documentary Storytelling for Video and Filmmakers”Focal Press Publications (2004).

 

المزيد من المقالات

صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024
كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
آليات الإعلام البريطاني السائد في تأطير الحرب الإسرائيلية على غزّة

كيف استخدم الإعلام البريطاني السائد إستراتيجيات التأطير لتكوين الرأي العام بشأن مجريات الحرب على غزّة وما الذي يكشفه تقرير مركز الرقابة على الإعلام عن تبعات ذلك وتأثيره على شكل الرواية؟

مجلة الصحافة نشرت في: 19 مارس, 2024