في بداية العمل الصحفي تعلمنا أن نترك مسافة بين الرأي والخبر، وألا نخلط بين مواقفنا الشخصية والعمل المهني أثناء التغطية الصحفية، رغم أننا في ذات الوقت لسنا سذجا لنحلم بصحافة موضوعية بصورة مطلقة.
لكن حالتي الانقسام والاستقطاب الشديدتين جعلتا الكثير من الصحفيين ينزلقون إلى الزج بمواقفهم وآرائهم في عملهم الصحفي بصورة واضحة جدا تتجاوز كل المعايير، بل وممارسة التحريض والانتصار لتوجه سياسي ضد آخر، وفي بعض الأحيان تحولت المؤسسات الصحفية إلى طرف واضح ومعلن مع الثورة أو النظام في هذا البلد أو ذاك.
لا يمكن لوم بعض الصحفيين الذين وقعوا خطأً في فخ الانحياز، لأنهم فقدوا بوصلتهم التحريرية في ضوء الاستقطاب الشديد الذي تختلط فيه الأمور، وتتلاشى أو تكاد معه المسافة بين الرأي والخبر.
من الطبيعي أن تضيق هذه المسافة أو تتسع، لأن كل صحفي عربي له تحيزاته وربما انتماءاته، لكن القدرة على التجرد وحفظ مسافة كافية تتفاوت في حالة الفوضى اليوم.
سأعود إلى التاريخ القريب مرة أخرى في محاولة لفهم ممارسات الصحفيين في العالم العربي، فالصحافة هنا ما زالت ناشئة بكل المقاييس، ورغم أن العديد من الصحف بدأت في وقت مبكر من القرن التاسع عشر فإنها لم تعمر طويلا كالصحف الغربية، وأذكر على سبيل المثال صحيفتي واشنطن بوست وذي غارديان الحائزتين على جائزة البوليتزر للصحافة.
في عام 1875 أسس الأخوان اللبنانيان بشار وسليم تقلا في مدينة الإسكندرية صحيفة الأهرام المعروفة، ولم تلبث أن تحولت الصحيفة الأسبوعية إلى صحيفة يومية وانتقلت إلى العاصمة العربية الأكبر.. القاهرة.
عرف عن الصحيفة آنذاك رصانتها ودقتها في نقل الخبر، واعتمادها أسلوبا مختلفا في الكتابة عن السائد في زمانها، وكنا نشهد ولادة مدرسة صحفية عربية جديدة، لكن صحيفة الأهرام التي سلكت هذا الطريق في البدايات يتم تعريفها اليوم على أنها صحيفة قومية.
كان التطور الطبيعي يحتِّم في مهنة الصحافة إرساء دعائم المهنية، لكن التجربة العربية الأبرز تنتهي إلى صحيفة تختلط فيها الصحافة بالأيدولوجيا، لا سيما مع المد القومي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وانتهاء بتمترسها اليوم في خندق المؤسسة الرسمية.. وينطبق على صحيفة الأهرام المقولة الدارجة "نجحت العملية ولكن توفي الجنين!".
في الغرب استطاعت المؤسسات الصحفية رغم التحولات السياسية الكبرى كالحربين العالميتين الأولى والثانية، أن تضع تقاليد راسخة في العمل الصحفي وأن تؤسس لمدارس عالمية، في حين كان العديد من الصحف في العالم العربي أقرب إلى السلطة أو غير بعيدة عن سطوتها، وظلت معظم الصحف في وقت مبكر، ثم وسائل الإعلام المختلفة كالراديو والتلفزيون في وقت لاحق، أسيرة مراكز القوى: المال والسياسة.
ولو ألقينا نظرة سريعة على المشهد الصحفي في العالم العربي اليوم لأدركنا أن المؤسسات الصحفية تتبع إما نظاما سياسيا ما، أو رجل أعمال ما، أو الاثنين معا.. ومعظم الصحف -وهذا ليس سرا- ناطق باسم النظام أو الحزب الحاكم، وفي بعض الأحيان يمتلك الحزب الحاكم أكثر من صحيفة، كما هو الحال في سوريا على سبيل المثال.
والأنظمة العربية التي أدركت أنه لا يمكنها الاستمرار في خداع الجمهور، موّلت من بعيد صحفا وقنوات تلفزيونية وإذاعات تعبر عنها وتحشد الرأي العام لصالح مواقفها.
بعض التجارب التي أفلتت من هذا الطوق هي الصحافة الحزبية، وبقدر ما كان يحاول هذا النوع من الصحافة التحرر من سطوة النظام الحاكم أو رجال الأعمال فإنه ظل أسير الأفكار الأيدولوجية والحزبية التي كانت غالبا ما تطبع العمل الصحفي بطابعها.. وكثير من الصحفيين البارزين في العالم العربي جاؤوا من خلفيات حزبية أو من الصحافة الحزبية، ولم يؤسس حتى اليوم في عالمنا العربي المنقسم والمضطرب صحافة مستقلة رغم وجود تجارب جيدة هنا وهناك، ولكنها غير ناضجة أو محدودة ومحاصرة.
أستطيع القول إن الظروف التاريخية التي مرت بها الصحافة في العالم العربي جعلت السمة الأبرز هي صحافة الرأي لا صحافة الخبر والمعلومة والتحليل والبحث والاستقصاء.. العديد من رؤساء الصحف العربية نالوا شهرتهم من كتابة مقالات الرأي، لا من العمل الميداني ورواية القصص من أرض الواقع، أو من ممارسة الصحافة الاستقصائية في ظل استمرار الفساد السياسي والمالي وغياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان ووجود السجون السرية.
كما أن القيود التي فرضتها الأنظمة السياسية على الصحافة في العالم العربي وإطلاقها يد الأجهزة الأمنية للتحكم فيها، وضعت العراقيل أمام تطور مهنة الصحافة، فعندما نعلم أن ثلاث دول عربية فقط هي الأردن واليمن وتونس تسمح قوانينها بحق الحصول على المعلومة، ندرك أنه من الأسهل على الصحفي كتابة رأيه والاستغراق في السرد بعيدا عن المعلومة والتحليل الرصين.. هذا على فرض أن هذه الدول الثلاث تسمح بالفعل بهذا الحق، غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك.
هذه السمة البارزة للصحافة العربية صبغت القارئ أو المستمع أو المشاهد بما يتوافق مع أجندات الجهات الرسمية، ففي مصر -مثلا- يتابع المصريون باهتمام مقالات الرأي أو البرامج الحوارية لهذا الصحفي أو ذاك لتشكيل تصوراتهم ومواقفهم إزاء قضية ما بعيدا عن المعلومة والتحليل.. وينساق المشاهدون إلى الاستماع لتحليلات مبنية على نظريات المؤامرة تجعل من أوباما رئيسا لتنظيم الإخوان المسلمين، ومن الربيع العربي مؤامرة كونية.
في لبنان، الحال أفضل قليلا من حيث وجود صحافة مهنية، وتقاليد أرستها صحف كالنهار والسفير، رغم أنها كانت أيضا ضحية التجاذبات السياسية وتأثير رأس المال.
وفي الأردن الذي يقع على مسافة جغرافية متوسطة بين مصر ولبنان، يبقى الأمر فيه خليطا بين هذا وذاك. ومع أن مهمة الصحفي هي مراقبة السلطة، تغيب ثقافة المجتمع التي تراقبه وتحمله على الالتزام بالمهنية، وهكذا تضطرب المسافة بين الرأي والخبر.
ورغم ذلك كله تبقى المناطق العربية من أكثر المناطق الساخنة والخصبة للعمل الصحفي في ذات الوقت، وأعتقد أن الفرصة ما زالت مواتية لتأسيس صحافة حقيقية ومستقلة، تتعامل باهتمام مع المعلومة والاستقصاء، لا سيما مع انتشار المنصات الرقمية الأكثر تحررا.. وحينها سيتمكن الصحفي من العمل بمهنية بعيدا عن ضغوط الثقافة القائمة، ومراكز المال، والسياسة، والانقسام العميق، وسيتمكن في ذات الوقت من إعادة ضبط بوصلته التحريرية لتنحاز إلى الإنسان.