"أصبح القراء الفطناء مهددين بالانقراض بشكل متزايد، وبات تحدي الصحافة الأعظم في زمن التكنولوجيا لا يكمن في مهَّمة الإعلام، بل في أن تظلَّ صحفيا حاذقا".. هذا ما قاله لي "باكو إغناسيو تايبو إي" (1924-2008) خلال لقاء عن التصوير الصحفي في مدينة خيخون-أستورياس بإسبانيا. و"إي" هو صحفي إسباني، واسم بارز في تاريخ الصحافة بالمكسيك التي نفي إليها عام 1959.
أما "فرناندو مارتينس لايينيس"، وهو اسم آخر بارز في تاريخ الصحافة بإسبانيا، فقد سمعته مرة يتحدث عن مسؤولية الصحفيين في ضياع ذاكرة البلدان التاريخية، إذ يرى أن من واجب الصحافة مراجعة الماضي بشكل عميق، كي لا تكرر الأمم الأخطاء نفسها التي قادتها في طريق التعصب والفاشية، ويقول "يتم تحليل الأحداث بطريقة سطحية جدا.. أصبحت اللغة الصحفية فقيرة جدا، وما يهمها هو تحقيق تواصل أفضل مع القارئ، وكأننا نكتب لجيل بعقلية رجعية".
أما "بابلو كوميتز"، وهو صحفي في وكالة دوتش الألمانية، فكان يرى أن الضرر الذي قد تسببه الصحافة الإلكترونية ضد الجودة التحليلية التي وصلت إليها الصحافة في القرن العشرين؛ ناشئ عن المعايير الصارمة التي باتت تحدّد مساحة ووسائل الكتابة الصحفية، إضافة إلى الطرق السهلة التي تود الوسيلة الإعلامية الوصول بها إلى الجمهور، مع صعوبة تحديد الوسيلة الإعلامية أو وكالة الأنباء التي أعدَّت الأخبار.
وبناء على آراء هؤلاء الصحفيين البارزين الثلاثة في اللغة الإسبانية، نثير بضعة أسئلة:
هل تختزل مهمة الصحفي ببساطة في نقل الأخبار، أم أن عليه أن يحرص على دمغ العمل بطابعه الإبداعي؟ وهل على الصحفي أن يضحي بأسلوبه ويلتزم بالمعايير التحريرية للوسيلة الصحفية التي يعمل لها؟ وهل عليه أن يقبل بتسطيح هذا الأسلوب كي يفهمه "الجمهور العريض"؟ وأخيرا، هل علينا أن نجعل الأخبار موجهة لهدف وحيد هو الإخبار أو الإعلام، أم علينا توظيف أدواتنا الإبداعية وتكويننا المهني ومعلوماتنا في خدمة القراء "الفطناء" لحثهم على التفكير؟
حينما طرحت هذه المعضلات أمام مسؤولين وأصحاب وسائل إعلامية وصحفيين ذوي مناصب إدارية، كانت الإجابة واحدة وهي أن الصحافة عمل أيضا، وأنهم يهتمون ببيع "المنتج" من خلال كسب القرَّاء.. والقرَّاء اليوم ليس لديهم وقت للقراءة.
لكن حين تحدثت إلى زملاء لديهم شغف بالمهنة، فعدا عن وجوههم التي يبدو عليها اليأس فقد أسدوني نصيحة: "إن كنت تعمل في أي صحيفة، فعليك أن تتقيد بالقواعد التحريرية الصارمة حتى وإن حدَّت من تطوير أسلوبك الخاص. أما إن كنت تسعى للتطور المهني فبإمكانك تأليف كتب توسع فيها مساحة صوتك ومعاييرك واكتشافاتك الصحفية حول قضية معينة".
من المؤكد اليوم أن الشبكات الإعلامية الكبرى تولي المعلومات أهمية أكثر من التحليل، ويبدو أنها تبذل جهودا أكثر "لتكون مع التيار"، وأن تحرص على أن يبقى القارئ مطلعا على آخر الأخبار أكثر من حمله على التفكير. وقد زادت هذه المعايير في هذه الأوقات التي نعرف بها ما يحدث من حولنا من خلال وسائل تقنية تفرض على الصحافة قوانين جديدة.
إن من واجب التطور التقني أن يساعد الصحافة لا أن يعطلها، ونحن نعيش في عالم به الكثير من الأجهزة التقنية كي نصبح أكثر اطلاعا على ما اطلع عليه من عاشوا في القرن العشرين. وفي عدة مؤتمرات أدبية وصحفية دولية ناقشنا مؤشرات مستوى القراءة، وكانت النتيجة تقول بأن سوق الكتب والتقنية تُظهر أن القليل من القراء يتجاوزون قراءة الألف كلمة، ومعظمهم يفضل النصوص ذات الـ300 كلمة مع الكثير من الصور والفيديوهات القصيرة التي توجز الموضوع.
مما لا شك فيه أننا نقرأ اليوم بنسبة أقل.. قليلون يريدون قراءة مواضيع تدعو للتفكير في مشاكل رئيسية في حياتنا، كما أن المستوى الثقافي للأفراد في انخفاض. ونضرب مثالا على ذلك بالشباب الذين باتوا اليوم يستخدمون بكثرةٍ التقنيات المتوفرة في الإنترنت والتطبيقات الموجودة على الهواتف النقالة التي يفترض أنّها تمكنهم من امتلاك ثقافة أكبر بسبب سهولة الوصول إلى المعلومات. بيد أنه انتشرت فيديوهات على الإنترنت يُسأل فيها الشباب الأميركي والأوروبي حول قضايا أساسية تتعلق بالتاريخ المعاصر كسقوط جدار برلين و"الربيع العربي" أو مرض إيبولا في أفريقيا. وأظهرت الإجابات جهلا تاما بهذه القضايا، لكن أكثر الإجابات إثارة للسخرية كانت لطالب إدارة أعمال شاب سئل عن الربيع العربي فأجاب: "لم أذهب يوما إلى أرابيا" (يقصد العالم العربي)، لكن لا بد أن يكون جميلا الذهاب هناك في الربيع وركوب الجمل ورؤية الأزهار تنمو بين الأهرامات".. شيء من هذا تؤكده نبوءة ألبرت آينشتاين: "أخشى اليوم الذي تتجاوز فيه التقنية إنسانيتنا.. حينها سيملأ العالمَ جيل من الحمقى".
والصحافة -رغم أن البعض يرفض فهمها كذلك- ليست فقط مسألة "إعلام" أو تجارة مرتبطة ببيع الصحيفة أو المجلة، ولا يمكن لها أن تكون مهنة الحصول على جمهور أكبر وبالتالي دعايات أغلى ثمنا وأرباحا أكثر، بل نشأت الصحافة بسبب حاجة الكائن الآدمي إلى التفكير يوميا في الأحداث الأكثر أهمية في الحياة اليومية. مع هذا، ترغب بعض القوى العالمية في أن نهجر -نحن الصحفيين- مسؤولياتنا كمحفزين على التفكير، وأن نقيد أنفسنا بنقل الأخبار والتعليق عليها بطريقة سطحية. فعلى سبيل المثال: قد يقول أحدهم "تقاتل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من أجل حقوق الإنسان"، فإذا لم نمارس مسؤوليتنا في أن نناقش ذلك، وأن نحفز الجمهور على التفكير، فلن يستطيع أحد معرفة مدى النزوح والدمار الذي تسببه ما تسمى "الحروب العادلة" على ملايين البشر.
بكلمات بسيطة، رغم أننا -نحن الصحفيين- لم نلمس فلسا أحمر من الأموال التي نهبتها بعض الدول العظمى وبعض رجال الساسة، ورغم أننا لسنا نحن من يقطع رؤوس من يخالفنا الرأي أو نسجنهم، ورغم أننا لسنا من يلقي بالقنابل على المدنيين الأبرياء، فإننا إن لم نتحمل مسؤوليتنا في حث الناس على التفكير وتحليل الأحداث، فسنكون جزءا من المساهمين في تلك المجازر والمظالم والإبادات والكوارث الاجتماعية والسياسية التي تهز فظاعتها العالم.