"حورية" المراسل الصحفي في المخيم

أجواءُ العمل داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن على امتداد انتشارها، لا تقلُّ صعوبة عن أجواء العمل في أماكن الحروب والكوارث الطبيعية، فالمخيم لا يعدو كونه كارثة إنسانية خلَّفتها الحروب ونسيتها -أو تناستها- المنظمات الدولية لفترات طويلة، مما حوَّلها إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة.

كرَّست مأساة المخيمات الفلسطينية على مدى عقود نمطاً داخلها جعل منها بيئة غير مثالية لممارسة العمل الصحفي. أما تجربتي في أزقة وشوارع المخيمات، فقد رسخت لديّ قناعة بأن العمل داخل المخيمات دون دراية بكينونة هذه البيئة، يشبه من يحمل جذوة نار ويقترب بها رويدا رويدا من الفتيل. فهناك اعتبارات عدة لها علاقة بتكوين المخيم الديمغرافي والتنظيمي وحتى الخدماتي قد انعكست بصورة ما على ساكنيه وأزقته، الأمر الذي يجعل المراسل الصحفي حائرا أمام الحالة التي تولِّدها هذه المخيمات، خاصة بعد كمية التحذيرات التي يتلقاها مع أول كلمة تشير إلى نيته العمل داخلها.

هواجس ما قبل المهمة الأولى

لا أنسى أول طلب للتصوير تقدمت به للعمل داخل أحد هذه المخيمات وردود الأفعال على وجوه وألسنة الطاقم العامل معي آنذاك، بدءا من السائق إلى المصور إلى المنتج، حيث طلب مني الأخير التواصل مع أشخاص داخل المخيم لتسهيل مهمَّتي، بينما اشترط عليّ المصور أن نولّي هاربين مع أول تهديد قد يحيط بنا، أما السائق فاشترط بقاء سيارته خارج أزقة المخيم خوفا عليها من الضرر إن نشب خلاف ما.

بعد أن تمتمت بكلمات بيني وبين نفسي عن هذه الهواجس، اتخذت قرارا بأن ألقي كل هذه الخزعبلات -كما أسميتها في حينها- خلف ظهري، وأن أمارس مهنتي بحرفية تنجِّيني أنا ومن معي من تلك الهواجس وتبددها.

دخلنا المخيم وبدأت بوادر ما قيل لنا تظهر شيئا فشيئا في طريقنا. كانت المهمة في مخيم البقعة، أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. ومع بدء التصوير انهال علينا كمٌّ من المتطفّلين الذين اعتدنا عليهم في كل الشوارع، إلا أن الأمر أخذ منحى آخر عندما اعترضتنا مجموعة من المتضررين من تصويرنا، حيث كانت المهمة لها علاقة بمحالَّ تجارية تنوي لجنة تطوير المخيم إزالتها.

لم أكن وجها مألوفا حينها لأهل المخيم، ولم تكن الكاميرا لتوقف فضول أصحاب المحال الذين أرادوا وقف التصوير بأي شكل، اعتقادا منهم بأننا نمثل جهة مرتبطة بالأجهزة الأمنية أو المخابرات، على حد وصفهم.. حاولت جاهدا إقناعهم بأننا نمثل قناة جاءت لتحكي للعالم والمسؤولين معاناتهم، إلا أن محاولتي فشلت، وبدؤوا بوضع أيديهم على الكاميرا محاولين منعنا من التصوير بالقوة.

المنقذون ليسوا دائما أصحاب نفوذ

في لحظة سريعة أمسكت هاتفي في محاولة بائسة للبحث عن أي سبيل ينقذ الموقف، وإذا بي أمرّ على اسم أحد أصدقاء الدراسة القدامى وهو من سكان المخيم.

اتصلت به فورا، ومع كل رنة جرس كنت أدعو أن يكون هو على الطرف الآخر من المكالمة.

رفع الخط، وما إن تحققت من نبرات صوته حتى سألته بسرعة:

-        صديقي، هل تعرف أحدا في شارع العيادات في المخيم؟ فأنا أصوّر هناك وأتعرّض لمضايقات.

-        نعم، أخي يعمل في ذلك الشارع.. اسأل عن شخص يدعى "الحورية" (وهو لقب شقيق صديقي الذي يُعرف به داخل المخيم)، وأنا سأهاتفه ليساعدكم.

بدأت وقتها نبضات قلبي تهدأ شيئا ما، وبصوت مرتفع قلت: أنا من طرف "الحورية"، وإذا بشخص يهتف من بعيد والهاتف على أذنه: "الشباب معاي" أي أننا من طرفه، ومنذ تلك اللحظة انقلبت الصورة رأسا على عقب لنغدو من أشخاص غير مرغوب فيهم إلى مرحّب بهم، وقدِّمت لنا التسهيلات والضيافة في كل خطوة نخطوها.

لم يكن "الحورية" متنفذا سياسيا أو رجل أمن أو حتى صاحب سطوة في المخيم، لكنه كان أحد أبناء البيئة ممن يثق أهل المخيم برأيهم ولا يشكُّون في حرصه على مصالحهم.

أدركتُ بعد انتهاء المهمة بسلام أن لغة التعامل مع أهل المخيم -الذين أجبرتهم الظروف القاسية على فقدان الثقة بالغرباء- هي لغة مختلفة عن غيرها ويلزمها وسيط أو مترجم -إن صح التعبير- لتفسيرها للناس.

لاحقا، فهمتُ واقع هذه التجمعات واتضحت الصورة لديّ بأن العمل في المخيم يحتاج إلى شبكة كبيرة من العلاقات، وأن سعيك لنقل المعلومة بأمانة وتقديم هموم الناس ومشاكلهم ليس كافيا، بل يمر بكسب ودِّهم والحفاظ على مسافة واحدة مع كافة الأطراف السياسية التي تنشط هناك، واستخدام كلماتهم ومخاطبتهم بمصطلحاتهم والحرص على تفهُّم خلفياتهم عند بدء الحوار معهم.

في كثير من الأحيان، كانت المعلومة داخل المخيم تُصادَر وتحتكر لأشخاص بعينهم وذلك لقربهم من توجهات حزب أو تجمع ما، كما أن المقابلات والتصريحات من قبل الأشخاص على اختلافهم من مسؤولين ومتنفذين وعاديين بسطاء، ربما تكون أشبه بمهمة مستحيلة إن استقرؤوا على الصحفي علامات تتناقض مع توجهاتهم وقناعاتهم.

للمخيم روح تختلف عن أي مكان آخر في العالم، ومن خلال تغطيتي للأحداث على اختلاف طبيعتها داخل هذه المخيمات، أدركت ضرورة إيجاد وسيط مثل "حورية" في كل زقاق مخيم ليكون دليلا يساعد في أداه المهمة.

 

المزيد من المقالات

الوقفة أمام الكاميرا.. هوية المراسل وبصمته

ماهي أنواع الوقفات أمام الكاميرا؟ وما وظائفها في القصة التلفزيونية؟ وكيف يمكن للصحفي استخدامها لخدمة زوايا المعالجة؟ الزميل أنس بنصالح، الصحفي بقناة الجزيرة، راكم تجربة ميدانية في إنتاج القصص التلفزيونية، يسرد في هذا المقال لماذا تشكل الوقفة أمام الكاميرا جزءا أصيلا من التقارير الإخبارية والإنسانية.

أنس بن صالح نشرت في: 18 فبراير, 2025
الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا عدت إلى السودان؟

قبل أكثر من سنة من الآن كان محمد ميرغني يروي لمجلة الصحافة كيف قادته مغامرة خطرة للخروج من السودان هربا من الحرب، بينما يروي اليوم رحلة العودة لتغطية قصص المدنيين الذين مزقتهم الحرب. لم تكن الرحلة سهلة، ولا الوعود التي قدمت له بضمان تغطية مهنية "صحيحة"، لأن صوت البندقية هناك أقوى من صوت الصحفي.

محمد ميرغني نشرت في: 8 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
طلبة الصحافة في غزة.. ساحات الحرب كميدان للاختبار

مثل جميع طلاب غزة، وجد طلاب الإعلام أنفسهم يخوضون اختبارا لمعارفهم في ميادين الحرب بدلا من قاعات الدراسة. ورغم الجهود التي يبذلها الكادر التعليمي ونقابة الصحفيين لاستكمال الفصول الدراسية عن بعد، يواجه الطلاب خطر "الفراغ التعليمي" نتيجة تدمير الاحتلال للبنية التحتية.

أحمد الأغا نشرت في: 26 ديسمبر, 2024
الضربات الإسرائيلية على سوريا.. الإعلام الغربي بين التحيز والتجاهل

مرة أخرى أطر الإعلام الغربي المدنيين ضمن "الأضرار الجانبية" في سياق تغطية الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. غابت لغة القانون الدولي وحُجبت بالكامل مأساة المدنيين المتضررين من الضربات العسكرية، بينما طغت لغة التبرير وتوفير غطاء للاحتلال تحت يافطة "الحفاظ على الأمن القومي".

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 25 ديسمبر, 2024
صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

Razan Al-Hajj
رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

Lama Rajeh
لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

Iman Kamal El-Din is a Sudanese journalist and writer
إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

Linda Shalash
لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

Shaarawy Mohammed
شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024