في قلب المغرب الشرقي، وتحديدا في مدينة "قلعة مكونة" التقيت "تودة".. امرأة خمسينية بسيطة وسمحة المحيا، كانت تجلس وراء طاولة مرتبة بعناية تعرض فوقها مجموعة من المنتجات المصنوعة من الورود التي تُعرف المنطقة بزراعتها. قدمت "تودة" من قرية "أيت واسيف" النائية للمشاركة في أحد المعارض، وفاجأتني وأنا بصدد تسجيل حوار إذاعي معها حول منتوجاتها المعروضة للبيع بمعرفتها الدقيقة للإذاعة ولأسماء طاقمها فردا فردا، بل حدثتني عن باقي الإذاعات وما تحب الاستماع إليه من البرامج المقدمة في كل واحدة منها، رغم أنها شكت من انقطاع بث بعضها بشكل متواتر.
في العديد من المناطق المنسية والقرى النائية عبر جهات المغرب المختلفة، ظل المذياع منذ سنوات طويلة أنيس الكثيرين وصندوقهم السحري الذي يجلب لهم الأخبار والموسيقى والحكايا، ويعرفهم على ما يجري بعيدا عن قراهم، مشكلا نافذتهم على العالم الخارجي. و"تودة" التي تعتبر نفسها مستمعة قديمة للإذاعة، رددت مرارا "لقد تعلمت الكثير منها"، قبل أن تسألني بدهشة شخص لا يصدق: "هل حقا سيبث صوتي عبر الأثير؟".
الارتباط والشغف بالإذاعة أو "الراديو" لدى تودة تتقاسمه معها نساء كثيرات التقيت بهن خلال مهمة عمل أخذتني إلى مناطق المغرب الشرقي النائية، وأكدن أن يومهن لا يمر دون أن يتخلل أنشطته الاستماع "للراديو" رغم الأشغال الكثيرة التي عليهن القيام بها داخل البيت وخارجه.
الراديو يكسر العزلة عن القرية
ربما يمكن القول إن ارتباط سكان القرى والدواوير بالراديو نابع من احتلاله الصدارة كوسيلة إعلامية، أكثر من باقي الوسائل الأخرى كالتلفاز أو الجريدة، وهو ارتباط قديم قدم انطلاق البث الإذاعي في المغرب. ويرجع الصحفي والإذاعي المغربي يونس الشيخ أسباب شعبية الإذاعة وكونها الوسيلة الإعلامية الأكثر تداولا وانتشارا في الوسط القروي، إلى لغتها البسيطة والمفهومة، بالإضافة إلى كونها أقل وسائل الإعلام تكلفة بالنسبة للجمهور. كما أن الراديو بشكل خاص يمكن أن تصغي إليه بينما تلتفت لقضاء أشغال أخرى في نفس الوقت، "إذ ليس مطلوبا منك أن تركز نظرك على الشاشة مثلا أو على الصحيفة لقراءة سطورها"، وهذه العناصر مجتمعة ساهمت –برأيه- في زيادة شغف الناس في العالم القروي بالإذاعة واعتمادهم عليها كمصدر للأخبار والترفيه والاستئناس والخدمات أحيانا.
ويمكن القول إن الإذاعة ساهمت في فك العزلة ولو رمزيا عن كثير من سكان القرى والمناطق البعيدة الذين أضحوا أكثر قربا من المعلومة واطلاعا على ما يجري في محيطهم. لكن ارتباط سكان القرى بالإذاعة قد تكون له أسباب أكثر عمقا من كونها مجرد وسيلة إعلامية متاحة للجميع، فكثير منهم وجدوا فيها خلال مناسبات عديدة وسيلة لإسماع أصواتهم والتعبير عن احتياجاتهم وانتظاراتهم. يقول يونس إن الإذاعة كشفت معاناة أهالي القرى بسبب ضعف الخدمات الاجتماعية المقدمة لهم وقلة المراكز الصحية والأطر التعليمية، بالإضافة إلى رداءة البنى التحتية، كما كانت الإذاعات أقرب وسائل الإعلام إلى سكان العالم القروي خلال حوادث كثيرة مثل الفيضانات وباقي الأحداث التي عاشوها، وقد أسهمت الإذاعة بشكل مباشر في إسماع صوتهم للمسؤولين عبر أمواجها، مؤكدا أنه عندما كان يشرف على إعداد وتقديم نشرات الأخبار كان يحرص دائما على أن تتضمن أخبارا حول العالم القروي، خصوصا القضايا التي تهم المرأة القروية.
دور أكبر للإذاعة في حياة القرويين
قبل سنوات قليلة كانت الإذاعة في المغرب تختزل في الإذاعة الوطنية الرسمية، وبعدها إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية، وهما الإذاعتان الرائدتان في البلاد، قبل أن تتم عملية ما يسمى تحرير القطاع السمعي التي تم بموجبها منح تراخيص البث لمجموعة من الإذاعات الخاصة. خطوة ترافقت مع التطور التقني الذي سمح بالاستغناء عن المذياع كجهاز.. يقول محمد الذي ينحدر من قرية "أولاد زراد" القريبة من مدينة قلعة السراغنة، وهو واحد من المستمعين الأوفياء للإذاعة، إنه كان يحمل معه جهاز الراديو أينما ذهب، سواء أكان في البيت أو في الحقل، أما الآن فقد بات الأمر سهلا مع الهواتف المحمولة التي باتت توفر خدمة الاستماع لأي إذاعة شئت.
بدورها تقول "مرية" التي جاوزت الأربعين من عمرها وتقطن في دوار "العناكير" التابع لإقليم الرحامنة، إنها لم تدخل المدرسة قط ولم تتعلم، لكنها تدين للإذاعة بالشيء الكثير، فقد تعلمت من البرامج التي تقدم عبرها كيف تتحدث بلغة عربية صحيحة، كما أنها على قدر كبير من المعرفة بمجريات مختلف الشؤون الدولية والمغربية بفضل ما تعتبره "إدمانها" على الاستماع لنشرات الأخبار عبر الإذاعة، وهي عادة ما زالت وفية لها حتى بعد ربط الدوار بالكهرباء وتوفرها على جهاز تلفزيون حديث، بل إنها حاليا أصبحت تتصل بشكل منتظم بالبرامج الإذاعية التي تستمع لها لتشارك فيها مباشرة على الهواء، وتدلي برأيها أو تقترح وصفة للطبخ أو تقدم تهنئة لأحد أفراد عائلتها أو تستشير طبيبا من الأطباء الذين تتم استضافتهم، أوغير ذلك حسب طبيعة البرنامج المقدم وموضوعه.
وارتباطا بما سبق، فإن تحرير القطاع السمعي جعل الإذاعة تقتحم الحياة الشخصية للناس في المدن كما في القرى، إذ انتشرت البرامج التي تعتمد على التفاعل والاتصالات المباشرة للمستمعين وتسمح لهم بالتحدث في كل المواضيع بما فيها الشخصية أحيانا.
ومن بين القصص التي يحكيها الصحفي والإذاعي المغربي يونس الشيخ في هذا الصدد، قصة فتاة قاصر تنحدر من إحدى القرى التابعة لإقليم زاكورة، هربت من عائلتها بعدما تم إرغامها على الزواج رغم رفضها. وبعد ذلك بفترة رغبت الفتاة في العودة إلى أهلها ومصالحتهم، لكن الأسرة رفضت، فتوجهت الفتاة إلى الإذاعة وسجلت مناشدة لوالديها تم بثها عبر الأثير خلال إحدى نشرات الأخبار، وعلى إثر ذلك تضامن سكان القرية معها وتوسطوا لدى والديها اللذين تأثرا بمناشدتها أيضا فسامحاها ورحبا بعودتها إلى البيت.. "وهذا أمر أسعدني جدا لأنه عبر الإذاعة استطعنا لمّ شمل هذه الفتاة بعائلتها من جديد" يضيف يونس.
حب من طرف واحد
في مقابل المكانة التي تحظى بها الإذاعة لدى سكان العالم القروي، هل تؤخذ اهتمامات هؤلاء بعين الاعتبار ضمن برامج الإذاعات؟ سؤال يقودنا البحث عن إجابته إلى محاولة حصر البرامج الموجهة أساسا إلى سكان القرى عبر مختلف الإذاعات المغربية، التي لا يكاد يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة باحتساب البرامج أو الكبسولات الموجهة للفلاحين بشكل خاص، إذ التقطت بعض الإذاعات هذا التأثير الكبير والمباشر للإذاعة على حياة الناس في القرى، فخصصت برامج موجهة بالأساس إلى سكان العالم القروي. ومن بين البرامج التي لقيت شهرة كبيرة، برنامج "ريحة الدوار" الذي يقدم عبر إذاعة خاصة منذ أكثر من سبعة مواسم، وينتقل طاقمه عبر كل حلقة إلى منطقة من المناطق القروية حيث تتم استضافة كبار أهلها للحديث عنها وعن طبيعتها وعاداتها وتاريخها في دردشة إذاعية خفيفة وممتعة.
في المقابل ارتأت إذاعات أخرى الاكتفاء بمخاطبة سكان الحواضر دون تكييف برامجها مع احتياجات سكان القرى، وذلك بتأثير مباشر أو غير مباشر لأصحاب الإعلانات التجارية الذين لا يرى أغلبهم في المستمعين القرويين قوة شرائية. بل من الإذاعات من لم تعمل على تعزيز شبكة بثها ليصل إلى المناطق القروية النائية بشكل جيد، وهو ما يفسر الانقطاع المتكرر أو ضعف جودة البث في الكثير من أحواض الاستماع.. يقول يونس الشيخ إن برامج وخدمات الإذاعات في المغرب عموما لم تصل إلى مستوى "مساواة" القرويين بسكان المناطق الحضرية، إذ يرى أن "أغلب ما يثار حول العالم القروي في الإذاعات المغربية مجرد اجتهاد شخصي للصحفيين العاملين فيها، وليس نابعا من رؤية واضحة لدى المؤسسات الإذاعية". وهذه نقطة تطرح أكثر من سؤال حول مدى تقيد هذه الإذاعات بدفاتر الشروط التي حصلت بناء عليها على تراخيص البث، والتي تنص معظمها على تخصيص برامج موجهة إلى المناطق القروية ومخاطبة سكان القرى.
وحتى مع تباين اهتمام الإذاعات بهذه الفئة من المستمعين، فإن شغف القرويين بالإذاعة لا ينتهي ولا يتقادم، وارتباطهم بها لا يفكه شيء رغم منافسة القنوات التلفزية، ذلك أن الإذاعة تبقى شيئا ساحرا ليس فقط للمستمعين سواء أكانوا من القرية أو المدينة، بل بالنسبة لنا كصحفيين عملوا في الإذاعة وارتبطوا بالميكروفون لسنوات وأدركوا أن للصوت المبثوث عبر موجات "الميغاهيرتز" أو "الأف أم" تأثيرا وجاذبية قد تفوق الصورة أحيانا، شريطة أن يكون صادقا، لأن المستمع قادر على تمييز ذلك الصدق والتقاطه حتى لو كان قابعا في أكثر القرى النائية بعدا.