من منا لا يتذكر القصص التي رواها لنا آباؤنا وأجدادنا في الصغر؟ لقد رسخت لدينا هذه القصص والأساطير بفعل قدرتها الخارقة على التصوير، وتحريك مشاعرنا وشد أنفاسنا.
الميديا اليوم، ومن بينها المسموعة وحتى في مجال التسويق والسوشيال ميديا، انتبهت لقدرة القصة على إيصال المعلومة وترسيخها في ذهن المتلقي، وتفوقها في ذلك على جل أساليب الإلقاء والتفاعل الأخرى ووظفتها بشكل جيد.
تقديم البرامج الإذاعية اليوم يشبه أخذ المستمعين في رحلة، تستوجب الكثير من الاستعدادات والتحضيرات والقدرة على شد الانتباه والتركيز، حتى يوليها المستمع أذنه بالكامل، ويخرج منها وهو يشعر بالانبهار والاستفادة. وسواء تعلق الأمر ببرنامج تثقيفي أو برنامج بيانات أو منوعات أو أي نوع من البرامج، فإن أفضل طريقة لإيصال المعلومات وايجاد التفاعل الضروري من المستمعين تكمن في تغليف المادة التي نرغب في إيصالها داخل قصة أو شكل سردي معين، فقد اتضح أن هذه الطريقة هي الأكثر قدرة على ترسيخ المعلومات وتحفيز الذاكرة وشد الانتباه، وأصبحت تتبع في إلقاء الخطابات من قبل السياسيين والمؤثرين. فلو أنك أبلغت أحدههم بعشر معلومات ثم طلبت منه بعد وقت وجيز أن يسردها عليك، لن يكون بوسعه تذكر نصفها أو أقل بكثير، لكن لو حكيت له هذه المعلومات داخل قالب قصصي أو سردي، فإن قدرته على التذكر تكون أفضل بكثير. السبب في ذلك يعود لعاملين مهمين: الأول هو قرب الحكاية أو القصة من الصورة البصرية، إذ أن الإنسان يتخيل ما يراه وهو يستمع إلى قصة، عكس المعلومات أو البيانات التي لا يمكنه أن يراها في شكل صورة. وكما نعرف فإن الذاكرة البصرية أقوى من السمعية، فالأذن تعتبر عضوا كسولا ومتأخرا وظائفيا مقارنة بباقي وسائل التلقي والتواصل لدى الإنسان. أما العامل الثاني فهو الانبهار التقليدي للبشر بالأبطال والأحداث والعقد والزمن والتصاعد والسرد والحبكة القصصية والتراجيديا والملاحم والأساطير.
فيما يلي بعض أساليب حبكة قصصية جيدة:
1- بنية البطل الأسطوري: هي بنية تأخذ شكل قصة من الخيال الشعبي أو الأساطير، يخرج فيها البطل منفردا في رحلة مجهولة تقوده من مكان مألوف وآمن إلى مكان مجهول ومليء بالتجارب والمخاطر، ثم يعود البطل غانما سالما إلى النقطة التي انطلق منها بعد مروره بمصاعب ومشاق وعراقيل كثيرة. يُعتمد هذا البناء القصصي اليوم في الكثير من الأفلام والمنتجات التلفزيونية، وهو أسلوب شيق يساعد على شد الانتباه واستخلاص العبر. يستطيع مقدم البرامج أن يعتمد نفس البنية القصصية عندما ينوي أخذ مستمعيه في رحلة ذهنية أو حسية ما لينقلهم من قناعة إلى قناعة أخرى، أو من وجهة نظر خاطئة إلى أخرى صحيحة، كما يمكنه أن يستعمله عندما يرغب في إبراز أهمية ركوب المخاطر أحيانا من أجل بلوغ الهدف، وكيفية التعلم من الأخطاء وجني الحكمة والمعارف. وقد تحدث جوزيف كمبال، في كتابه "البطل ذو الألف وجه" عن هذه البنية القصصية وأهميتها في الإعلام اليوم. (1)
مثال: مقدم برامج شاب يتحدث على إذاعة خاصة بتونس عن الاحتجاجات التي شهدتها البلاد وانتشرت في أكثر من مدينة تونسية وأدخلت البلاد في الفوضى والمجهول. يقول المذيع إن من حق الشباب في تونس أن يعبروا عن مطالبهم وحقهم في الشغل والتعليم وفرص متساوية، متبعا أسلوب البطل الأسطوري وهو يروي هذه الأحداث، فيشير الى أن البلاد (البطل الأسطوري) خرجت في رحلة البحث عن الديمقراطية والمساواة.. ودخلت في دائرة مخاطر كبيرة، وتحديات لا حصر لها، لكنها ستخرج غانمة وتعود منتصرة وقد جنت الديمقراطية وأسست لدولة الحقوق والحريات. لن يحدث ذلك دون كثير من الحكمة والتروي من أبناء هذا البلد، بحيث يطالبون بحقهم، دون المس بهذا البطل (المقدس دائما) الذي ينتظر الكل عودته منتصرا.
2- بنية الهضبة: هي القصة التي تأخذ شكلا تصاعديا متأنيا، لتصل إلى أعلى الحدث، تختلف عن البنية السابقة في كونها لا تضمن نهاية سعيدة، ولا تؤمن الرجوع. تُعتمد هذه الطريقة لإيصال معلومات بشكل تدريجي متأن، وربما قلب بعض الحقائق. يستوجب ذلك التوقف أحيانا والتقاط الأنفاس أو للوصول إلى نتيجة مغايرة لما يتوقعه المستمع. وهي بنية مساعدة لإظهار كيفية التغلب على التحديات، وبناء خط توتر تصاعدي تدريجي والوصول إلى نتائج واعية يفرضها سير الأحداث وترابطها، سواء كانت النهاية جيدة أم لا. تركز هذه البنية على الطريقة وليس الهدف، أي أنها تؤسس لمنهج هادىء ومنطقي في تفسير الأشياء والأحداث والأفكار وفق خط سيره التصاعدي، ووفق المعطيات المحيطة بها، وتعلم طريقة التحليل والحوار الجيد.
مثال: قصة الشابين المصريين اللذين قاما بتصوير فيديو، وهما يوزعان واقيات ذكرية على رجال الشرطة في مصر بوصفها بالونات، احتفالا بعيد الشرطة. أثار هذا الفيديو الكثير من الضجة وردود الأفعال وأدى إلى توقيف الشابين وطردهما من العمل، وارتفاع الأصوات المطالبة بمحاكمتهما، إضافة إلى كمية لا حد لها من الشتائم والنعوت التي طالت الشابين وأهلهما.
بقليل من التروي والتأمل، يستطيع مقدم برنامج أن يتوخى بنية الهضبة، في التدليل تدريجيا وبهدوءوعبر خط تصاعدي متأن، على أن الشباب في مصر محبط ولا يجد طريقة للتعبير عن رأيه سوى السخرية، وهو أسلوب احتجاجي بديل، لا بد أن نتوقف عنده ونتأمل دوافعه ومبرراته. في الأثناء يمكنه أن يتوقف ليستنتج أن ما قام به الشابان قد يكون فعلا منافيا للأخلاق أو به تجاوز، لكن من الواضح أنهما يرغبان في التعبير عن رفضهما لواقع جيلهما ورغبتهما في التغيير، سواء اتفقنا معهما أم لا. عبر هذا الأسلوب التدريجي والتحليل الهادىء يأخذ مقدم البرنامج مستمعيه من منطقة التهجم والرفض والمغالاة إلى منطقة التفكير الهادىء و?الاستنتاج الواقعي الرصين المبني على حجج وبراهين.
3- الإسقاط المفاجىء: وهي بنية قصصية مشوقة جدا، حيث يعمد مقدم البرنامج إلى إلقاء حدث أو معلومة أو استنتاج مفاجىء على المستمعين ومن ثم يعود الى أول الحكاية ليروي تفاصيلها. الإسقاط المفاجىء بهذا الشكل من شأنه أن يشد انتباه المستمع لمعرفة كيفية وقوع الحدث. تكون هذه البنية مفيدة عندما يرغب مقدم البرامج في إحداث أثر لدى المستمع منذ الوهلة الأولى، فيشد انتباهه ويضمن متابعته. الحدث أو الاستنتاج في هذه الحالة طُعمٌ يلقي به مقدم البرنامج، يكون بعده مطالبا بتفسيره وإعطائه التبريرات اللازمة، وهو ما نراه غالبا في البرامج الإخبارية.
مثال: يقول المحاور فجأة إنه لم يعد يثق في وجود سياسي محنك في البلاد.. معلومة واستنتاج مفاجىء يجعل المستمع ينتظر التبريرات والعوامل التي أدت إليه، من ثم يتوسع مقدم البرامج تدريجيا ساردا الأحداث والقصص والشهادات، بمعنى أنه يبرر هذا الاستنتاج بالوسائل والقصص المتاحة له. غير أن اللافت في هذه البنية أن تبريرات وحجج التدليل على الاستنتاج، وإن كانت ضئيلة أو غير مقنعة، إلا أنها لا تنفي أثر "الصدمة" التي أحدثها إسقاط المعلومة بهذا الشكل المفاجىء. نلحظ هذا الأسلوب القصصي بكثرة في البرامج الحوارية وبرامج التوك شو وغيرها.
هناك مقولة معروفة لمعد البرامج الأميركي جاي أليسون (Jay Allison)يقول فيها "?في صناعة الراديو.. إمضاؤك هو القصة التي تتركها خلفك"، وهو بالتأكيد ما يعني أن معد البرامج الحديث مطالب برواية الكثير من القصص، مع الحرص على أن تكون قصصا حقيقية ومترابطة.
هامش
(1) http://www.amazon.co.uk/Thousand Faces-Collected-Joseph-Campbell/dp/1577315936