”ليلة طيبة وحظا سعيدا“ للصحفيين

في واحدة من أكثر الفترات قلقا في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر (بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 والحرب على العراق)، عرض فيلم "ليلة طيبة وحظا سعيدا" للمخرج جورج كلوني الذي قام بالتمثيل فيه إلى جانب كتابة نصه مع غرانت هيسلوف. يروي هذا الفيلم قصة صراع الصحفي إدوارد مورو مع جوزيف مكارثي، أشرس عضو يميني في الكونغرس الأميركي في الفترة ما بين عامي 1947 و1957، وهو الذي قاد حملات واسعة للتخلص من خصومه السياسيين فراح يتهمهم بموالاة الشيوعية. كان من أبرز ضحايا هذه السياسة المكارثية جمهور واسع من الصحفيين والكتاب والإعلاميين والمثقفين. يمكن القول إن الفيلم -مع أنه في ظاهره كان سيرة ذاتية- قد فتح أحد أهم الملفات الشائكة في الصحافة.. وهو علاقة الإعلام بالسلطة.

مكارثي الذي جاء في طليعة المحافظين مطلع خمسينيات القرن الماضي، وجد بيئة خصبة لتحقيق طموحاته الشخصية إبان الحرب الباردة. فالظروف السياسية المحيطة بالولايات المتحدة مع تفشّي حالة "الرعب الأحمر" من تمدد الاتحاد السوفياتي، أو التخوّف من ضربات نووية في بلد لم يتعافَ بعدُ من تبعات "الكساد الكبير"، شكّل كل ذلك حاضنة لتحقيق المآرب السياسية، حيث أصبح مكارثي المُخلّص المنتظر من شرّ الشيوعيين وأفعالهم، مما أكسبه تعاطفا شعبيا واسعا، ودعما سلطويا نافذا ضرب به كل أعدائه وحاصر به جلّ الحريات، خاصة الصحفية منها.

اعتمد مكارثي في سياسته المقيدة للصحافة على صناعة الرعب وتزوير الحقائق والتشهير بالمعارضين وشيطنة كل الآراء المناهضة له تحت تهمة "معاداة أميركا" والتواطؤ مع الاتحاد السوفياتي. وتعاظمت الملاحقات الأمنية للجنة مكارثي حتى سميت تلك الحقبة باسمه (المكارثية)، ومن هنا أضيف هذا المصطلح إلى قاموس السياسة والإعلام لتوصيف أي عمل يقوم به شخص ما أو جهة بعينها لترهيب الآخرين ثقافيا أو ملاحقة من يعتنق فكرا مناوئا للسلطة.. أفعال من شأنها اغتيال الخصوم السياسيين معنويا. ومن أبرز ضحايا المكارثية آنذاك الكتاب الصحفيون والمثقفون من أمثال الممثل والمخرج شارلي شابلن، والموسيقار السينمائي ألمر برنشتاين، وعالم الفيزياء ألبرت آينشتاين، والروائي هوارد فاست، وغيرهم.

 

السيناتور جوزيف مكارثي – غيتي إميجيز
السيناتور جوزيف مكارثي – غيتي إميجيز

الصحافة المناهضة للمكارثية موضوع فيلم "ليلة طيبة وحظا سعيدا". إدوارد مورو صحفي بارع حاول استئصال السرطان المتفشي في كبد الصحافة بسبب السياسات التضليلية التي انتهجت آنذاك، خاطر مع مجموعة من الصحفيين المحترفين بمستقبلهم المهني لمواجهة الاستبداد المكارثي، إذ أقدم مورو ومن معه بعرض خبر لاذع ينتقد القائمة السوداء التي فرضها مكارثي على المواطنين الأميركيين. وقد اعتبرت خطوة مورو هجوما غير مسبوق، حتى إن رئيس محطة "سي.بي.أس" آنذاك وليام بالي أخبره بوضوح بأن "عملك بالأساس هو قراءة الأخبار، وليس من شأنك صناعتها"، إلا أن مورو بحسّه الصحفي ووعيه الكبير كان يؤمن بدور أكبر يحتم عليه الحراك في حال تلمس الخطأ.

من هنا بدأت ملحمة الصراع بين الصحفي والسلطة. الفيلم الذي عرض باللونين الأبيض والأسود سيعيدك إلى فترة الخمسينيات مباشرة، لكنه لن يدعك تفلت دون عقد مقارنة مع واقع الصحافة اليوم، وما آلت إليه في الإعلام الأميركي أو في إعلام المنطقة العربية، خاصة في الفترات الحرجة التي صاحبت موسم الهجرة إلى الثورات.

"نحن الآن أثرياء مرتاحون وراضون، ولكن لدينا حساسية ضد المعلومة غير السارة أو المقلقة.. إعلامنا الجماهيري الاستهلاكي يستغل هذا بشكل رئيسي لصرف انتباهنا وتضليلنا وتسليتنا وعزلنا.. إن التلفاز وأولئك الذين يمولونه ويشاهدونه ويعملون فيه، سيرون الحقيقة مختلفة كليا بعد فوات الأوان". بدأ الفيلم بهذه الكلمات الحاسمة التي غلب عليها الهدوء على لسان مورو في حفل تكريم له نهاية العام 1958 بعد معركته الطويلة مع جوزيف مكارثي.

يقول "نحن لسنا منحدرين من سلالة رجال جبناء خائفين، خائفين من الكتابة، خائفين من المشاركة، خائفين من الكلام ومن الدفاع عن القضايا التي آمنوا بها.. لم يعد هناك مجال للسكوت". كأن مورو بخطابه يلقي وصية المقاتل فيما اعتقد أنه الدور الذي يجب على الصحافة تأديته، سلطة تكشف الحقائق أمام زيف الأكاذيب المدمرة.

اختفى ذكر السيناتور اليميني، لكن المكارثية لم تغب.. يمكننا تلمس تنامي هذه الظاهرة من خلال نتائجها المنعكسة على أرض الواقع، خاصة مع تصاعد اليمين لدى المحافظين الجدد في ظلّ فراغ سياسي ملموس، ورواج واسع لنزعات التطرف المتعاظمة مع موجات الاحتراب الممتدة في مختلف أنحاء العالم.

 

المزيد من المقالات

صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024
في تغطية الحرب على غزة.. صحفية وأُمًّا ونازحة

كيف يمكن أن تكوني أما وصحفية ونازحة وزوجة لصحفي في نفس الوقت؟ ما الذي يهم أكثر: توفير الغذاء للولد الجائع أم توفير تغطية مهنية عن حرب الإبادة الجماعية؟ الصحفية مرح الوادية تروي قصتها مع الطفل، النزوح، الهواجس النفسية، والصراع المستمر لإيجاد مكان آمن في قطاع غير آمن.

مرح الوادية نشرت في: 20 مايو, 2024
كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
آليات الإعلام البريطاني السائد في تأطير الحرب الإسرائيلية على غزّة

كيف استخدم الإعلام البريطاني السائد إستراتيجيات التأطير لتكوين الرأي العام بشأن مجريات الحرب على غزّة وما الذي يكشفه تقرير مركز الرقابة على الإعلام عن تبعات ذلك وتأثيره على شكل الرواية؟

مجلة الصحافة نشرت في: 19 مارس, 2024