المهمّة الأساسية لصناعة الأخبار هي إخبار متابعينا بما حدث في يومهم، ولكن هناك مهمّة أخرى للصحافة هي أيضا أساسية، تتمثّل في جعل العالم أفضلَ مما هو عليه اليوم، وهذا يعني الانتقال من مجرّد نقل الحقائق إلى إصلاح ما هو خاطئ، والدفاع عمّا هو صحيح وعادل. ويظهر أن هاتين المهمّتين اليوم بينهما تنافرٌ تقف وراءه تيارات عميقة . و تسعى هذه المقالة إلى وصف بعض هذه التيارات المؤثرة، كما تقترح طريقاً يتيح للمراسلين ومنتجي الأخبار الخروج من هذه المعضلة.
يروق للمراسلين أن يقولوا إنّهم ينقلون الحقائق إلى المشاهد، ثم يرجع الأمر إلى هذا المشاهد لتحديد ما تعنيه هذه الحقائق وكيفية التصرّف تجاهها والتفاعل معها. ولكن هناك تياران أساسيان على الأقلّ في عالم الصحافة؛ ينظران نظرة مختلفة إلى هذه المهمّة.
أحد هذه التيارات بدأ مع ظهور الحركات الثورية البيوريتانية في القرن السابع عشر، إذ كانت صحفهم معدّة لبناء حركة سياسية وتنظيمها وتعزيز وجودها، كما فعل الثوار الأميركيون الأمر ذاته في القرن الثامن عشر، ومن بعدهم الثوار الروس في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. وتعد إذاعة "روزنة" -صوت الثورة السورية في باريس- مثالاً واضحاً على هذا التيار.
ثمة تيار آخر إصلاحيّ وليس ثوريّا بدأ في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة نهاية القرن التاسع عشر، وبات يُعرف في الآونة الأخيرة بالصحافة الاستقصائية. هذا النوع من العمل الصحفي يكشف الستار عن بعض الأسرار أو بعض الحقائق المُغفلة بهدف الدفع نحو التغيير. وقد يكون هذا التغيير إجبار مسؤول فاسد على ترك منصبه، أو الدفع نحو تعديلات قانونية، أو زيادة الاستثمار والدعم لبعض المصالح العامّة.
صحيحٌ أنّه ليس كل صحفي استقصائي يتحول بالضرورة إلى ناشط يدعو للإصلاح، ولكنّهم جميعاً يُقيّمون -في نظر زملائهم على الأقل- بناءً على ما أدّى إليه العمل الصحفي الاستقصائي الذي قاموا به من تغيير.
نجد في المقابل أن النقل "الموضوعي" للأخبار ليس سوى بدعة حديثة، فقد جرى تعديل المعايير المهنية في الولايات المتحدة لجعل الموضوعية -بمعنى الإنصاف وعدم التحيّز والدقة العالية- سمةً أساسيّة، ولم يجر ذلك إلا في عشرينيات القرن الماضي، وذلك بعد أن كشف الصحفي الاستقصائي أبتون سنكلير عن الفساد العريض في عالم الصحافة في ذلك الوقت.
لقد كان استخدام وسائل الإعلام وسيلةً للبروغاندا والقمع في ألمانيا النازية أمراً مرعباً لمعاصري تلك الحقبة، لذا حاول مديرو الأخبار بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية النأيَ بأنفسهم عن ذلك النموذج. أمّا في الستينيات فقد نبّهت القدرة المذهلة للتلفاز على التأثير في الرأي العام النخبَ السياسية إلى ضرورة الضغط لجعل وسائل الإعلام تتقيّد بنقل "المعلومات" والحقائق ولا شيء سوى ذلك. لم يخلُ الأمر بالتأكيد من نقاش حول نوع الحقائق التي يجدر الحديث عنها، ولكن لم يعد الكثيرون يختلفون على أن مهمّة المراسل لا تشتمل على تقديم تفسيره لتلك الحقائق. إن جميع قرّاء هذه المقالة قد تلقّوا على الأغلب تدريباً على أن ينقلوا المعلومات ويتركوا مهمّة التعليق عليها لكتاب المقالات والضيوف في البرامج الحوارية.
لا شكّ أنه يستحيل أن يكون المرء موضوعياً بشكل مطلق. لقد اشتكى مؤسس شبكة "سي.بي.أس" ( CBS ) الأميركية وليام أس. بيلي من أن مذيعي الأخبار في الشبكة دائماً ما ينتهي الأمر بهم إلى التعبير عن آرائهم الشخصية، ممّا يؤثر على تفسير الأخبار. ولكن ليست هذه هي القضيّة، لأن ما يعنينا هنا هو الكشف عن القوى التي تحرك القنوات الإخبارية في كل مكان، ابتداءً من دعاة الموضوعيّة، وصولاً إلى التيّار الإصلاحي، ومعرفة كيف يمكننا التعامل بأفضل شكل مع هذا التنازع.
ولنتفق أولاً على أن الحالة تنطوي حقّاً على تنازع، ففي عام 1990 كتب المراسل الذي انتقل للعمل الأكاديمي روبرت ميراندي كتاباً يعبّر عنوانه عن هذه الأزمة "الموضوعية والصحافة الاستقصائية.. تقاليد الصحافة المتصادمة". يجادل ميراندي في كتابه أن نقل الحقائق دون دوافع خفيّة -رغم أنّه أمرٌ حسن في ذاته- يبقى معياراً غير كافٍ إن كان المراسل أمام حالة من الظلم الواقع على الآخرين. وقبيل نهاية التسعينيات انتقلت هذه القضيّة إلى بؤرة صناعة الأخبار، وكان الدافع في ذلك الدكتاتور الصربي سلوبودان ميلوسوفتش الذي غزا جيرانه من دول البلقان بعد انهيار الجمهورية اليوغسلافية. فقد كان الصحفيون الذين نالوا شهرتهم الصحفية من تغطيتهم لتلك الحرب -ومن أشهرهم كريستيان أمانبور من محطة "سي.أن.أن"، لا يخفون رأيهم في أن الصرب قد مارسوا قدراً كبيراً من الوحشيّة في اعتداءاتهم، وأنه لا بدّ من فعل شيء لإيقافهم (وقد تحدّثت أمانبور في موقف مشهور أمام بيل كلينتون وانتقدته دون مواربة لعدم اتخاذ موقف حاسم تجاه ذلك).
مقابلة أمنابور مع الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون عام 1994 (يوتيوب)
هناك تحدّ آخر أمام معيار الموضوعيّة يرِد من خارج ميدان صناعة الأخبار، ولاعبٌ أساسيّ يتمثّل في منظمة "السلام الأخضر" (غرينبيس) التي أعلنت في تقريرها السنوي عام 1995 أنّها ستعمل -بالإضافة إلى كونها منظمة بيئية نشِطة- على إنتاج موادّ إعلاميّة. وفي ذلك العام اقتحم ناشطو المنظمة منصةً لإنتاج النفط في حقل برينت سبار ببحر الشمال وهم يحملون كاميرات فيديو. وهكذا ساعدت تلك الصور على نقل رسالة المنظمة مباشرةً إلى الشبكات الإخبارية، فتضاعف الأثر المترتّب عليها. في الفترة ذاتها كانت الجماعات المسيحية الأصولية في أميركا تحشد جهودها في شبكات الإذاعة والتلفاز التابعة لها لمواجهة ما اعتبروه التحيّز اليساريّ للإعلام الأميركي (وقناة فوكس نيوز التي تدّعي بكلّ صفاقة أنّها "منصفة ومتوازنة"، ليست إلا سليلة مباشرة لهذه الشبكات).
ومع ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها صارت الفرصة متاحة لأي شخصٍ لا تعجبه الطريقة التي تنقل بها الشبكات الإعلامية القصص الإخبارية؛ أن يخرج بنفسه لينقل الخبر، (وليس هذا أمراً مُستغرباً بالنسبة لشبكة الجزيرة التي استفادت في تغطيتها العالمية لأحداث الربيع العربي من المتابعة الجادّة لمنصات التواصل الاجتماعي). ولا شك أن العديد مما يظهر على هذه المنصات لا يلتزم بالمعايير المهنيّة إلا ما ندر، من دون كثير اهتمامٍ بما هو صحيح أو خاطئ، ولكنّا نرى في الوقت ذاته زيادةً ملموسة في أعداد المواقع والوسائل الإعلامية المنضبطة مهنياً والتي تتمتع بتأثير واسع. وقد أطلقنا على هذه المواقع في مركز الابتكار الاجتماعي في معهد إنسيد ( INSEAD ) للاقتصاد العالمي؛ اسم "وسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدِم المعنيّ" (Stakeholder-controlled Media ). وقد قمت وزملائي بتوثيق حالات نجحت فيها وسائل الإعلام هذه في تحدّي وحدات تابعة لشركاتٍ عالميّة. كما أن لها إسهامات هامّة في جعل التغيّر المناخي قضية عالمية، بينما لم يظهر في القنوات الإخبارية أي تغطية معمقة للقضية إلا مؤخراً. ومن المؤكد أن المنظمات القيادية في مثل هذه القضايا عامل أساسي في رفع مصداقية وسائل الإعلام الجديد الناشطة في هذا المجال.
تشترك وسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدم على اختلاف منصاتها -الفيسبوك، يوتيوب، المواقع الإلكترونية، الإذاعة عبر الإنترنت وغير ذلك- بأربع سمات تميّزها عن وسائل الإعلام التقليدية كقناة الجزيرة. أولها أنها ليست موضوعية، ولكنها تلتزم بالشفافية؛ فتخبرك مباشرة بما تريد هي وتهتمّ به. والثانية أنها لا تكتفي بإخبارك بما تهتمّ هي به، وإنما تخبرك بما يجب فعله حيال الموضوع. أما الثالثة فهي أنها لا تكترث بالجمهور العام بقدر ما تكترث بالجهات والمتابعين للقضية ذاتها. والرابعة أنها تُعنى كثيراً بماضي ومستقبل القضايا التي تتناولها، بالإضافة إلى واقعها الحالي.
وسائل الإعلام الجديد هذه تؤثّر على عالم صناعة الأخبار بطرق عديدة، فهي تزوّد هذه الصنعة التي تشهد تضاؤلاً في حضورها بمصدر أساسي ألا وهو المعلومات الهامّة، إذ هناك قسم متزايد من الطاقات الصحفيّة التي تعمل في المجال الاستقصائي ينتقل إلى العمل في وسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدم. فحين بدأ المسؤولون في ولاية نيويورك الأميركية تحقيقاً بشأن شركة إكسون موبيل النفطية على خلفية اتهامات بالكذب على المساهمين فيما يتعلق بمخاطر التغيّر المناخي، كانت منظمة السلام الأخضر وموقع "إنسايد كلايمت" المتخصص في شؤون حماية البيئة، هما من حرّكا القضيّة ودفعا للاهتمام بها. والمثال المهمّ الآخر هو الفضيحة التي لحقت بشركة فولكسفاغن مؤخراً والتي أوقد شرارتها تقريرٌ أعدّته مجموعة مغمورة تدعى "المجلس الدولي للنقل النظيف". بل حتى إن نيويورك تايمز وفايننشال تايمز وواشنطن بوست باتت تنشر تحقيقات بالتعاون مع منظمات غير ربحية مثل بروببليكا (ProPublica ) ومارشال بروجكت ( Marshall Project ) ومنظمة كيسر ( Kaiser Foundation ).
الأمر الثاني هو ما نر اه من مؤشرات على أن وسائل الإعلام الجديدة هذه تسحب إليها جمهور وسائل الإعلام التقليدي، فقد أظهرت أبحاث أجريت في مركز بيو للدارسات ( Pew Research Center ) أن جمهور وسائل الإعلام المطبوع والمرئي التقليدية يتناقص في الولايات المتحدة. وليس مستغربا أن موقعاً من قبيل إنسايد كلايمِت يجذب إليه المتابعين الذين لا تعجبهم تغطية وسائل الإعلام التقليدية للقضايا البيئية.
الأمر الثالث والأكثر أهميّة ربّما، أن وسائل الإعلام الجديدة هذه باتت تغيّر الأساليب المتبعة في وسائل الإعلام التقليدية في تغطية الأخبار، فبما أن وسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدم تسعى إلى التأثير في المستقبَل، فإنها تقترح حلولاً للمشاكل التي تتناولها. ويمكن هنا أن نعبّر عن الحل بكلمة "الأمل"، فالناس في كل مكان يتوقون إلى آمال يتعلقون بها. وعليه فإن بعض مديري وسائل الإعلام أدركوا في الآونة الأخيرة أن "الأخبار الإيجابية" أو "صحافة الحُلول" ( Solutions Journalism ) هي مشاريع ممكنة وذات جدوى. وأعتقد أن على أي مؤسسة إخبارية تحرص على النمو أن تستثمر في هذا الجانب، وأن تنخرط في شراكات مع جهات تمتلك الخبرة فيه.
كيف يمكن للجزيرة -أو لأي مؤسسة إخبارية أخرى- أن تفيد من هذه التوجّهات بما يتجاوز منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدم كمصادر للمعلومات؟ أولاً علينا أن نقرّ بأن هذه التوجهات تدل على طلب عالميّ لوسائل الإعلام التي لا تكتفي بنقل أخبار العالم، بل تساعد في جعله مكاناً أفضل للعيش. يمكننا أن نحافظ على موضوعيتنا بطريقة مهمّة وحيدة: أن نأخذ في الاعتبار جميع الحقائق المحيطة بالقضيّة، سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا. وسيتطلّب هذا مزيداً من الاستثمار لتحسين المهارات الاستقصائية لدى المراسلين، ولكنّ هذا سيعود علينا بأفضليّة تنافسيّة تميّزنا عن بعض الوسائل التابعة لأجندات معيّنة مثل قناة "روسيا اليوم".
ثم إن علينا أن نكون مبتكِرين في علاقاتنا مع وسائل الإعلام الموجّهة من قبل المستخدم، ذلك أن هذه الوسائل تتمتع بأحدث القدرات التي قد تغيب عن كثير من المؤسسات الإخبارية. وقد حاولت "سي.أن.أن" فعل ذلك مع منظمة فريدم بروجكت ( Freedom Project ) التي تعتمد بشكل كبير على منظمات معنيّة بمكافحة الاتجار بالبشر. مع أن السي.أن.أن توحي بأنها اكتشفت القضيّة بنفسها وأنها الرائدة في تسليط الضوء عليها ورفع الوعي بها، وهذا ليس بالنموذج المثالي الذي نبغيه.
لقد تقدمنا مؤخراً بمقترحٍ للبي.بي.سي يمكن للجزيرة أيضاً أن تأخذ به، مفاده أنه بدل الاقتباس من صانعي الأخبار الأفراد أو إتاحة المجال لهم لفعل ما يريدونه، تنشئ الشبكة مساحة تمكّن الأفراد صانعي الأخبار من عرض المعلومات المختلفة بأشكالها المختلفة وفق معيار محدّد من الجودة، فتكون هذه المساحة بمثابة سوق أخبار. ويمكن للجزيرة مثلاً أن تضع قواعدها في هذه السوق بما يخدم الصالح العام: "تجنب الترويج للذات على حساب الحقيقة أو الإنصاف. قدّم الدليل على ما تقول، ولا تهمل أي حقيقة حتى لو لم ترق لك. أخبرنا سبب اهتمامك بإخبارنا هذه المعلومات. هل هناك من قدّم لك نقوداً لتخبرنا بها، ومن هو؟ إن كنت لا تستطيع أن تكون موضوعياً فعليك أن تلتزم بالشفافية بشكل كامل". وبعبارة أخرى يمكن للمجموعات المعنيّة بالإعلام التي تلتزم بمعايير عالية في عملها، أن تصبح شريكة بعلاماتها الخاصّة مع المؤسسات الإخبارية المرموقة.
إن مستقبل المؤسسات الإخبارية سيعتمد بطريقة أو بأخرى على بناء المصادر القادرة على تحسين حياة المشاهدين، ويبدو أن معظم هذه المؤسسات لم تقبل هذه المسؤولية بعد، أو أنها على الأقل تتظاهر بأنها تكترث بذلك. أمّا المشاهدون فلا سبيل لخداعهم، فهم يعرفون جيّداً ما يريدون، وبإمكاننا أن نعطيهم ذلك وأن نحافظ في الوقت ذاته على الوفاء والاحترام لمهنتنا ورسالتنا.