قبل قرن من الزمان صاغ رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق ثيودور روزفلت (1858-1919) عبارة muckraker"" التي تعني "الذي يشهّر في قضايا الفساد"، وقد دخلت العبارة منذئذ معجم اللغة الإنجليزية.
كان روزفلت يصف الدور الجديد الذي تؤديه الصحافة في المجتمع الأميركي، فقد شهدت تلك الفترة ولادة وسائل الإعلام، حيث كانت الصحف والمجلات تُباع في زوايا الشوارع ويقرؤها بشغف الأغنياء والفقراء على حد سواء.
وبالإضافة إلى تقديمهم الأخبار للجمهور، سلط الصحفيون الضوء على الظلم والاستغلال بشجاعة وبأساليب مبتكرة، فوصف الروائي والصحفي الأميركي آبتن سنكلير في روايته "الغابة"، واقع ظروف العمل الحقيقية في مصانع تعليب اللحوم بشيكاغو. كما نشرت مجلة شعبية سلسلة مقالات كتبتها الصحفية الأميركية إيدا تاربيل، تفضح فيها الاحتكار الذي كانت تمارسه شركة "ستاندرد أويل" النفطية التي أسسها جون روكفلر. وقد أدت مقالاتها في وقت لاحق إلى تفكك إمبراطورية روكفلر النفطية. وقد عُرفت تاربيل بأنها من كبار الصحفيين "الكاشفين للفضائح".
كانت للبوادر الأولى لما نسميها اليوم "صحافة استقصائية" تأثير شديد على الديمقراطية. وبدأ "الصحفيون المشهِّرون" يتحدون بجرأة وبلا مواربة كل الذين يديرون دفة السلطة، ولم يكن هدفهم إحداث توازن بين آراء القوى المتسلطة وتلك الضعيفة في المجتمع، بل الكشف عن الحقائق المستجدة حول الانتهاكات التي يرتكبها السياسيون والصناعيون الأثرياء، مدفوعين بالإحساس ببشاعة الظلم ومتحركين بوحي من بوصلة أخلاقية واضحة المعالم نحو العالم من حولهم.
وكان لدى الصحفيين المشهرين صحفٌ لها صداها الواسع في السنوات الأولى من القرن العشرين. وفي عالم ما بعد الحربين العالميتين، ظهرت شركات العلاقات العامة وتعلمت الحكومات كيف تتعامل مع "وسيلة اليوم".. الصحافة.
شهد القرن الأول من الديمقراطية في الغرب معركة مستمرة بين الصحافة الاستقصائية والمجموعات المتنفذة التي حاولت أن تدير الكيفية التي تصل بها المعلومات إلى الجمهور. لكن وسائل الإعلام تغيرت، وكانت وتيرة بعض الحكومات في اللحاق بالتغيرات الجديدة بطيئة، وتطورت الكاميرات الصغيرة المحمولة باليد في الستينيات، مما أتاح للعديد من صانعي الأفلام الدخول إلى فيتنام، لينقلوا -للمرة الأولى- حقائق الصراع إلى بيوت الأميركيين. عندها، تعلمت حكومة الولايات المتحدة الدرس، وأدرجت الصحافة كجزء لا يتجزأ ضمن أعمالها خلال حرب الخليج عام 1991، في ما عرف بالصحافة المرافقة للآلات العسكرية “Embedded journalism” بهدف الإشراف على التقارير المرسلة من أرض المعركة.
ومع دخول شبكة الإنترنت كوسيلة إعلام جديدة واسعة، تمكنت مختلف الشرائح الاجتماعية من نشر وجهات نظرهاحول مختلف القضايا، باعتبار هذه الشبكة منبرا يمكن الوصول إليه من أي مكان على كوكبنا.
لقد قلّصت تقنية الاتصالات من حجم العالم، وجلب الانبهارُ باللقطات الحية الحروبَ إلى بيوت الناس في بث مباشر، كما وُلدت نشرات أخبار تُبثُّ على مدار 24 ساعة، وأصبحت المعلومات المتضاربة متاحة في الهواتف الذكية.
مع هذا، فقد خبا بريق الاعتقاد الأولي بأن "ديمقراطية المعلومات" التي وفّرتها التقنية الجديدة ستعمل على تمكين الجمهور، وبدا غريبا أن العلاقة بين المتنفذين والمحكومين وبين الأغنياء والمستغَلين لا تتزعزع.
كانت الصحافة الاستقصائية إحدى ضحايا ثورة الاتصالات، إذ أغلقت وسائل الإعلام القديمة من مطبوعة ومتلفزة أقسام الاستقصاء بها بسبب فقدانها للجماهير. وكان ثمة شعورٌ متزايد باليأس من أن القيام بالبحث المضني الضروري لاستقصاء عمل شركات متعددة الجنسيات -كتلك التي قام بها صحفيون من أمثال إيدا تاربيل حول شركة ستاندرد أويل قبل قرن من الزمان- لن يصبح ممكنا، بل إن اثنتين من أكبر قصص العقد الأول من هذا القرن لم ترصدا من قبل وسائل الإعلام التقليدية ولا الحديثة، هما: دوافع ونتائج ما أطلقت عليه الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، والأزمة المالية العالمية عام 2008.
أصبح الصحفيون جزءا لا يتجزأ من ثقافة وأهداف المؤسسات التي يعملون بها، سواء أكانوا مراسلي حروب في أرض المعركة أو صحفيين اقتصاديين يستندون في معلوماتهم إلى البنوك، لكن آراءهم حيال القضايا العالمية هي أقرب إلى الهتاف منها إلى الرصد. فقد علّق مسؤول الرصد والرقابة بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية على تغطية الصحيفة للحرب على العراق، بقوله "يوجد على أكتاف المحررين نياشين رتب عسكرية".
ويعزى أحد أسباب هذا الفشل إلى المشهد الإعلامي الجديد، فانهيار نشرات الأخبار والانهماك في تقديمها على مدار 24 ساعة لم يسمحا للمراسلين بالتحقق من الأخبار التي تقدم لهم، وكثيرا ما يُسمَح لشركات العلاقات العامة والحكومات بتشكيل أسلوب قراءة الأخبار عبر تحكمها في الإعلانات وتوقيت تقديمها وعدد مرات تكرارها.
وهناك مشكلة قديمة ظلت تراوح مكانها، وهي الارتباط الهيكلي للمراسلين بالمصادر الرسمية وعدم انفكاكهم عنها، حيث إنهم يحتاجون للوصول إلى مراكز القوى والنفوذ لاستقاء الأخبار من أجل الاستمرار في تغطياتهم، فكلما أتيح لهم الوصول إلى المعلومات بانتظام، تمكنوا من التحكم في تقاريرهم.
ومما يثلج الصدر ما شهدناه من انبعاث للصحافة الاستقصائية في السنوات القليلة الماضية بعد عقود عديدة من تدهورها، وذلك بفضل المؤسسات الخيرية الغنية والمؤسسات غير الربحية بدلا من وسائل الإعلام الرئيسية. فمركز الصحافة الاستقصائية في لندن و"بروببليكا" في نيويورك، اعتمدا في تمويلهما بداية على التبرعات الخيرية القادمة من رجال أثرياء ونساء ثريات لم تعجبهم أحوال الصحافة الممولة تجاريا والعاجزة إلى حد كبير عن "قول الحقيقة للسلطة".
كمؤسسة صحفية عالمية، وقفت شبكة الجزيرة الإعلامية وحدها في ميدان الصحافة التي تواجه السلطة، وأسست وحدة التحقيقات الاستقصائية عام 2012، بعد جهود كبيرة بذلها كلايتون سويشر وفريق العمل الذي يقوده. وكانت بداية عمل الوحدة في التحقيق الإعلامي الاستقصائي بعد إجراء بحث مضنٍ في وثائق المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، ومن ثم الكشف عن أدلة دامغة تثبت وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسموما بمادة البولونيوم المشعة.
لدينا الآن فريق من 20 صحفيا متخصصا في صنع الأخبار عوضا عن نقلها. وخلال العام الماضي، كشفنا عن دور فرق الموت في كينيا، ورُشح العمل لجائزة مرموقة هي جائزة الأكاديمية البريطانية لفنون الأفلام والتلفزيون "بافتا" (BAFTA)، وهي منظمة خيرية مقرها بالمملكة المتحدة، تقدم جوائز سنوية لتكريم الأعمال المبدعة في مجال السينما والتلفزيون والمهن التلفزيونية. نشرنا مئات الصفحات عن وثائق سرية لجواسيس من مختلف أنحاء العالم، واضعين هؤلاء العملاء الحكوميين تحت المساءلة. وفي العام 2015، أشادت كبريات المؤسسات الصحفية العالمية بالعمل الاستقصائي الاحترافي الرائد لشبكة الجزيرة، من بينها صحيفة ذي غارديان بالمملكة المتحدة، وصحيفة إلباييس الإسبانية، فضلا عن مئات الأعمدة التي نشرتها الصحف والمجلات العالمية والمواقع الصحفية الإلكترونية.
إذًا، ما الذي يجعل الصحافة الاستقصائية مختلفة عن الأخبار التقليدية أو صناعة الوثائقي بالنسبة للمؤسسات الإعلامية؟ أدرج هنا ستة اختلافات بارزة:
1- المنهجية: الصحافة التقليدية تفاعلية، بمعنى أن بإمكان الصحفي تطوير القصة الإخبارية بسؤال سياسي عن رأيه في أحداث معينة. ويمكن لصحفيين آخرين استخدام ذلك الاقتباس، دون التشكيك في الحقيقة المستندة إلى التقرير الأول. بالمقابل، تستخدم الصحافة الاستقصائية "فرضية مبنية على رواية ما" تسعى لإثبات أن أي حقيقة يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئة، مثل رجل الشرطة أو النيابة الذي سيحاول جمع البراهين ليدعم فرضيته. فإذا افترض الصحفي الاستقصائي أن (ع) يكذب أو أن (ع) فاسد، ولم يتمكن من إيجاد دلائل، يُلغى التحقيق.
2- الإطار الزمني: وهو إطار يتعزز بالطريقة التي تُجمع وتنشر بها المعلومات على فترات منتظمة، سواء في نشرات أخبار الساعة أو في الصحف اليومية أو في المجلات الأسبوعية. بالنسبة لأي تحقيق، لا يمكن نشر المعلومات حتى تكون كاملة ومبنية بدقة، ويمكن أن تستغرق التحقيقات الصحفية شهورا، وفي بعض الحالات، سنوات.
3- الرؤية: يفترض أن يكون التقرير الإخباري انعكاسا دقيقا للعالم. ويُطلَق على هذه العملية "تحري الدقة والموضوعية" ونشر التقارير حول "الحقائق".لكن الصحافة الاستقصائية ترفض أن تقبل العالم كما هو، بل تعتقد أن ثمة خطأ ما في الحقائق المعطاة، وأن هدفها يتمثل في فضح الخداعوالتزييف أو سوء السلوك من أجل انتقاده وبيان زيفه.
4- التوازُن: على الصحفي أن يتقبل الرواية الرسمية للقصة حتى لو كان رأيه يناقضها، أو "يوازنها" باستخدام تصريحات من مصادر أخرى. افتراض حسن النية بالمصادر الرسمية وارد، مع هذا، يتحدى الصحفي الاستقصائي صراحة الرواية الرسمية للقصة، ويرفض مبدأ التوازن، ويقدم حكمه على القصة استنادا إلى التقييم الدقيق للأدلة.
5- الأخلاقيات: يواجه الصحفيون الاستقصائيون أسئلة سياسة التحرير وهم يضمِّنون أساليب جمع الدلائل في تقاريرهم، حيث تعد تلك الوسائل غير أخلاقية في الصحافة التقليدية. فمن المفترض عادة ألا يكذب الصحفي، لكن لو كنا بحاجة إلى توظيف تدابير تنطوي على عملية خداع ما، كالتسجيلات السرية أو انتحال شخصية ما، فعلينا أن نضمن وجود جمهور قوي مهتم بالدفاع عن أعمالنا. فمبررنا الأخلاقي لاستخدام تلك الأساليب هو أنها الطريقة الوحيدة المتبقية لفضح المخالفات.
6- صناعة الأخبار: في التقارير التقليدية، تقاس الحقيقة أو دقة القصة الإخبارية بمدى مشابهتها لقصص نشرت أو بثت في ذلك الوقت. هناك اعتقاد بأن الأخبار "صالحة" إن شارك آخرون نشرها، لكن على القصة الاستقصائية أن تتحدى الحقائق المسلَّم بصحتها، وأن تعطِّل جدول الأخبار. ونحن نضع اسم الجزيرة كمصدر للتصريحات العالمية.
ما المهارات اللازمة للعمل كصحفي استقصائي؟
ثمة متَطلّب واحد، وهو أن يستشعر الصحفي ما يحدث في العالم من خلال البحث والاستقصاء في الأدلة المجزأة المتناثرة، وأن يتحلى بحسٍّ مرهف يجعله يتأهب لمعرفة الحقيقة عندما يلاحظ عدم اتساق بعض مكونات الأخبار، وهي الحاسة السادسة التي تثير غريزتك الصحفية وتحركها باتجاهٍ تشعر معه أن هناك خطبا ما في المعلومات التي يقدمها لك الآخرون.. إنه الاحساس بأن شخصا ما يدلي بمعلومات كاذبة أو يحاول إخفاء شيء هام.
مهنة الصحافة الاستقصائية مثيرة للتوتر لا الألق. أخبرني مرة أحد أبرز الصحفيين الاستقصائيين في ذي غارديان البريطانية ديفد لاي، أن على الصحفيين الاستقصائيين أن يكونوا "مستعدين نفسيا لتحمل العداء".
أما مدير مركز الصحافة الاستقصائية في لندن غافين ماكفادين، فقال إنه لا ينبغي للصحفي الاستقصائي أن يكلف نفسه عناء التفكير في الحصول على دعوة لدخول البيت الأبيض أو مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننغ ستريت.
إن مهمتنا هي تحدي السلطة لا مغازلتها، أما إن كان هدفك أن تكون لامعا، فاعمل مراسلا في صحافة المشاهير.