بقي مثال فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أشهر الأمثلة على قوة الصحافة الاستقصائية في التأثيرعلى الحياة العامة وإظهار الحقائق، بيدَ أن قضية أخرى كانت هي الأخرى على قدر واسع من الأهمية لم تنل حظها من الحديث رغم تأثيرها الواسع على جزء من المجتمع الأميركي واتهامها للمخابرات الأميركية بدعم بيع المخدرات ببعض مناطق الولايات المتحدة، إنها قضية "التحالف الأسود" التي نشرها الصحفي "غاري ويب" في كتاب حمل الاسم ذاته.
تعدّ قضية "التحالف الأسود" من أشهر القضايا التي خلقت نقاشا واسعا في المجال الصحفي، ليس فقط لأنها كشفت تورطا رسميا في التنسيق بين المخابرات وتجار المخدرات، بل للارتباط الخفي بين وسائل الإعلام والمخابرات الأميركية، إذ تعرّض ويب لحملة تشهير واسعة، وأجبر على تغيير مقرّ عمله في جريدة "سان خوسيه ميركوري نيوز"، وأغلقت في وجهه الكثير من المنافذ قبل أن ينتحر وفق ما تقوله الرواية الرسمية.
وقد تكون هذه الأسباب هي التي دفعت بيتر لاندسمان إلى كتابة سيناريو فيلم "اقتل الرسول" (Kill the messenger)، ومايكل كوستا إلى إخراجه، وجيرمي رينر إلى أداء دوره الرئيسي، إذ يعدّ هذا الفيلم العمل السينمائي الوحيد الذي يلقي الضوء على قضية "غاري ويب"، لا سيما وأن تقريرا خاصًا بوكالة "سي آي أي"، اعترف بعد خروج التحقيق ببعض الحقائق، دون أن يتحدّث أيّ عمل سينمائي طوال 14عاما عن القضية، في بلد يبحث فيه صناع السينما عن أيّ قصة تصلح لنقلها إلى الشاشة وتحقيق إيرادات قوية.
قضية "التحالف الأسود" تعود إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما التقى ويب بشاهدة أعطته نسخة من تقرير سري للنائب العام الذي يشرف على محاكمات تجار المخدرات، حيث يحضر دائما اسم تاجر مخدرات كبير من نيكارغوا كشاهد، ليكتشف ويب أن هناك خيطا رفيعا بين هذا الرجل والمخابرات، وبعدها تبدأ قصة الاستقصاء المثير.
بحث ونتيجة
بعد سفره إلى نيكاراغوا، وصل ويب لبعض النتائج فكتب في الجريدة التي يعمل بها أن المخابرات الأميركية سمحت لعصابات الكوكايين، خلال فترة حكم الرئيس دونالد ريجان، بتهريب هذا المخدر إلى داخل الولايات المتحدة، وبيعه في منطقة يقطنها الأميركيون السود. وفي المقابل، يُستخدم جزء من عائدات أرباح هذه التجارة في تمويل حركات "الكونترا" المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا.
حاول ويب إثبات أن الولايات المتحدة، موّلت بطرق غير شرعية الحركات المسلحة الهادفة إلى إسقاط الأنظمة الشيوعية، خاصة وأن الكونغرس الأميركي كان قد رفض تمويل حركة "الكونترا". وقد أراد ويب، عبر هذا التحقيق، أن يضيف أكثر ممّا اعترف به تقرير من مجلس الشيوخ الأميركي عام 1989، وقد تضمن التقرير معلومات تفيد بمعرفة الحكومة بوجود دعم من عصابات بيع المخدرات في الولايات المتحدة للجماعات المسلحة.
ليس في ذكر التفاصيل الكبرى للقضية إخلالا بالتشويق المطلوب احترامه للمشاهد، لأن الفيلم المذكور تمثيل سينمائي لقصة واقعية يعرفها الكثيرون، لهذا ربما لم ينتظر الكثير من الناس، الذين يعرفون قصة ويب أن يأتي لهم الفيلم بجديد في المعلومات، لكنهم انتظروا أن يروا كيف ستظهر القصة في السينما، وكيف سينجح الفن السابع في تسليط الضوء على قضية لم تنل حظها من الاهتمام، بسبب تزامنها مع قضية غراميات الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وكذا مدى اختلاف الفيلم عن حقيقة القصة.
أتى الفيلم في أقل من ساعتين، بحيث لا يترك أمام المتلّقي فرصة لإضاعة أيّ مشهد، كل المشاهد مليئة بالأحداث المثيرة والمشوّقة، بل يمكن القول، إن مخرج الفيلم استطاع أن يقتل أيّ لحظة ملل يمكن أن تتسرّب إلى "اقتل الرسول"، بحيث كانت القصة مركزة للغاية حول الصحفي وما يصل إليه من نتائج.. صحيح أن قصة ويب استحوذت على الفيلم وجعلته أقرب إلى التأريخ لما حدث له، لكن الفيلم تميز بإخراج ذي إيقاع جميل برع فيه مايكل كوستا.
ومن أهم ما يُحسب لكوستا، أنه لم يرّكز على جدل وفاة ويب عام 2004 وإن كان الأمر يتعلّق بانتحار أو باغتيال، لأن التركيز على هذه الوفاة قد يُبعد المتلقي عن جوهر القصة وهي قضية تنسيق عصابات الكوكايين مع الـ"سي آي أي"، خاصة وأن ويب لم يعد يشكّل خطرا كبيرا على المخابرات الأميركية قبل وفاته، إذ غرق في الديون وتفرغ لحياته الخاصة، وربما لم يكن لأحد مصلحة في اغتياله.
فيما يخص الأداء، يمكن القول إن الممثل جيرمي رينر برع في أداء دور ويب بعيدًا عن تصنّع البطولة أو محاولة لعب دور شخصية مثالية، أضفى رينر لمسة واقعية على حياة الصحفي، فليس هو ذلك الشخص الذي يعيش بمفرده ولا حياة اجتماعية له، بل هو أب لديه أبناء ولديه عائلة، كما نجح رينر في إبراز ما عاناه ويب من ضغوط في عمله بعد نشر التحقيق، لذلك أشاد بأدائه أبناء الصحفي الراحل، واعتبروا أداءه أفضل تكريم للراحل.
إشكاليات
أما في الإشكاليات الصحفية التي قدمتها قضية ويب بشكل عام، والفيلم بشكل خاص، فيمكن تقسيمها إلى أربع إشكاليات:
الإشكالية الأولى: العلاقة الملتبسة بين الدولة ووسائل الإعلام، فإذا كان هناك صحفيون وصحفيات يبحثون عن الحقيقة ويرغبون بنشرها مهما كانت النتائج، ففي المقابل، هناك آخرون يرتبطون بشكل سلبي بالدولة بحيث يلجؤون إلى التشهير بزملائهم والتشكيك بما وصلوا إليه من معلومات، بل هناك من يربط هذا التشكيك بالمصالح العليا للوطن، ويعتبر أن توّرط الدولة في أمور غير قانونية حفظًا لمصالحها الكبرى ليس عيبا، وما يدل على ذلك هو استمرار انتقاد ويب حتى بعد اعتراف جزئي لوكالة سي آي أي بوجود تنسيق بين بعض أفرادها وجماعات الكونترا.
ويجب أن نشير إلى أن الكتابات التي انتقدت طريقة عمل ويب لم تنصب كلها على التشهير، إذ ركزت تقارير كثيرة على عدم دقة بعض المعلومات التي أوردها، وعلى وجود اتهامات متعددة دون أدلة، بل ظهرت تحقيقات بعكس نتائج ما خلص إليه ويب من دعم رسمي لتمكين عصابات المخدرات من بيعها داخل الولايات المتحدة، وادّعت أقلام صحفية أن ويب لم يعتمد على عناصر قوية لتشكيل قصته وأنه أسرف في الاتهامات.
العلاقة الثانية: لجوء الدولة إلى وسائل متعددة لإخراس الصحفي، أولا من حيث الإغراء، ثم الترهيب، ثم اللجوء إلى الصحفيين الآخرين لانتقاده، وبعدها الضغط على رئيسه كي يقوم بتسريحه، ثم التنقيب في ماضيه لإثبات أن ما يكتبه ليس له قيمة، وهي الوسائل التي تسعى لمضايقة الصحفي في عمله، حيث لا تعود المحاكمة أو الإرسال إلى السجن أو حتى الاغتيال هي وسائل الإخراس الوحيدة، بل تبحث هذه الدول عن طرق بديلة لإسكات الصحفي دون إثارة انتقادات منظمات حماية حرية التعبير.
كما أن الوثائق التي تم الكشف عنها عام 2014، والتي تحمل عنوان "التعامل مع الكابوس: مؤامرة قصة المخدرات"، أكدت استعمال وكالة سي آي أي لوسائل متعددة لإضعاف ما جاء به ويب، وكيف تم التعاون مع صحف أخرى لإبراز رأي الوكالة والتأثير في الرأي العام فلا ينشغل بما جاء في تحقيق ويب، إذ كانت كتابات الأخير بمثابة كابوس حقيقي للوكالة.
الإشكالية الثالثة: أن الصحفي ملزم بحماية نفسه أثناء العمل، فقد ارتكب ويب خطأ عندما لم يحتفظ بأي أدلة تثبت حدوث لقاءات بينه وبين مصادره التي ذكرها في التحقيق، وهو ما سهّل مهمة التشكيك في النتائج التي توصَّل إليها، إضافة إلى أن المصادر الرئيسية نفت -بسبب الضغط- أن تكون قد قدمت معلومات إلى الصحفي، وهو ما يثير إشكالية تسجيل أدلة اللقاءات، خاصة إن كان المصدر قد قرّر الحديث بهوية مكشوفة.
الإشكالية الرابعة: حرص المؤسسات الصحفية على تفادي التحقيقات الصحفية التي تثبت وجود اختلالات كبيرة على مستوى المصالح الكبرى للدولة، وهو ما يؤثر على جنس التحقيق الاستقصائي، وقد يضطر الصحفي إلى ترك عمله في الصحيفة كما وقع لويب، وإن لم يكن هذا التحقيق آخر ما قام به في حياته، إذ عمل بعد ذلك في مجموعة من المؤسسات الإعلامية الأخرى.
عمومًا، تبقى قصة ويب من القصص التي توثق للصراع القائم بين السي آي أي والصحافة في الولايات المتحدة. صحيح أن نتائج التحقيق الذي أجرته وكالة الاستخبارات المركزية لم تعترف تمامًا بوجود تورط في توزيع المخدرات داخل الولايات المتحدة، بقدر ما اعترفت بوجود تعاون بين بعض أفراد المخابرات ورجال المخدرات الذين يدعمون "الكونترا"، لكن هذا الاعتراف الجزئي هو ما جعل من تحقيق "الحلف الأسود"، أحد أفضل التحقيقات الاستقصائية الأميركية وأكثرها إثارة للجدل.