يعود تاريخ الصحافة الاستقصائية إلى عام 1690، مع صدور أول صحيفة في الولايات المتحدة وهي "Publick Occurrences" لمحررها بنيامين هاريس، وهو من الناشرين المثيرين للجدل في تلك الحقبة، إذ كشف عبر التحقيقات الواردة في الأعداد الأولى من الصحيفة عدة قضايا تتعلق بالفساد، واعتمدت التحقيقات على الوثائق التي تؤكد النتائج التي وصل إليها الصحفيون، وهذا أساس بناء أي تحقيق استقصائي.
في مطلع القرن العشرين، برز عدة صحفيين قادوا حملات صحفية مهمة على نطاق واسع ضد الفساد، ووصفهم الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت بالصحفيين المنقبين عن الفساد.
وبُنيت معظم التحقيقات التي نشروها بعد جمع البيانات على وثائق رسمية مدققة من قبل خبراء، فكان لهم الفضل في تحقيق إصلاحات ديمقراطية في أميركا.
ومن أكثر التحقيقات الاستقصائية المشهورة، تحقيق الصحفية أيد تاربيل التي كشفت من خلاله احتكار شركة "استاندارد" للبترول، الأمر الذي دعا الكونغرس إلى إصدار قانون شيرمان المختص بمحاربة أكثر الاحتكارات إثارة للخوف على مستوى الولايات المتحدة.
واعتمدت عدة تحقيقات استقصائية على صحافة البيانات أثناء البحث، لكن لم تُخصَّص ذاك الوقت ضمن مسمى معين، إذ لم يكن آنذاك مصطلح خاص بهذا النوع من الصحافة.
يقول مدير شبكة الصحافة الاستقصائية العالمية ديفد كابلن، أحد المخضرمين في الاستقصاء: "إن استلام ملف من مصدر رسمي ذي نفوذ وكتابته ونشره في اليوم ذاته لا يقع في خانة الصحافة الاستقصائية".
ويعتبر كابلن أن الصحافة الاستقصائية تتطلب المزيد من عمليات البحث بعمق والتركيز على استخدام التقنيات الاستقصائية المرفقة بالبيانات. وهذا لا يوجد في صحافة البيانات، إذ إن الأخيرة تتطلب أرقاماً مبعثرة تعالج موضوعاً معيناً، ويتم التأكد من صحتها لتأتي المرحلة الثانية وهي التحليل، ومن بعدها النشر عبر صورة تجمع معلومات تخص الموضوع.
تاريخ صحافة البيانات
مع عصر الثورة الرقمية التي حصلت في أنحاء العالم، وانتشار الإنترنت، إضافة إلى كمية البيانات الهائلة المرفوعة على محركات البحث، بدأت صحافة البيانات تأخذ طابعاً مستقلاً.
الصحفي الأردني المتخصص بالصحافة الاستقصائية حمود حسين يعتبر أن "البيانات المفتوحة مصدر قليل الاستخدام من قبل الصحفيين، فنسبة 90% من البيانات المفتوحة حول العالم غير مستخدمة، وفق رأي الصحفي الاستقصائي مارك هنتر".
يؤكد حسين أن تلك المشكلة شائعة في الدول العربية، حيث يعتقد معظم الصحفيين في المنطقة أن ثمة الكثير من المعلومات والبيانات مخفية ولا يمكن الحصول عليها إلا برشوة موظف أو الانتظار لمدة طويلة أمام روتين الوزارات والمؤسسات الرسمية.
ويضيف "في الوقت الذي ينتظر فيه الصحفي أمام أبواب حراس البوابات الإعلامية في الوزارات أملا في الحصول على معلومات، فإن تلك المعلومات أو الأرقام المتوفرة على الإنترنت في موقع ما من مواقع الوزارات أو المؤسسات أو مراكز الإحصاء الرسمية، أو هي متوفرة كنسخ ورقية منشورة فيما يعرف بالجريدة الرسمية أو المكتبات الحكومية العامة أو الأبحاث العلمية في الجامعات".
بات في مقدور الصحفي الاستقصائي اليوم بناء تحقيقات استقصائية لا يمكن توقعها من بيانات مفتوحة حتى في الدول التي يعتقد أنها تتكتم على المعلومات، حسب حسين.
ندرة المصادر
تعتمد صحافة البيانات على التصميم وعلوم الحاسوب والإحصاء، فهي مجموعة متداخلة من الكفاءات في مجالات مختلفة. وتغطي صحافة البيانات اليوم عدة أنواع من الكتابة الصحفية، حيث تُعتمد في التقارير والتحقيقات ويستفيد منها الصحفيون، خاصة أنها تعتبر قاعدة بيانات منظمة تحمل في مضمونها أرقاماً مهمة تصلح لأن تكون أخباراً.
ومن أولى الصحف التي بدأت العمل ضمن مجال "صحافة البيانات"، كانت صحيفة الغارديان التي أطلقت عام 2009 مشروعاً خاصاً بصحافة البيانات حمل اسم "Datablog".
لكن يبدو أن قلة استخدام الصحفيين الاستقصائيين لموارد مبنية على أساس صحافة البيانات يعود سببه إلى ندرة المصادر أحياناً في المنطقة العربية.
يقول الصحفي حسين حول ذلك "حسب تجربتي، نحتاج في كثير من الحالات إلى تسجيل معين أو تقديم طلب ما أو القيام بمقارنات، وغيرها من الحواجز التي تضعها السلطات بشكل مقصود أو غير مقصود، أو عدم قدرة الصحفيين على قراءة البيانات واستنتاج قصص استقصائية منها، وهذه من أسباب ندرة المصادر".
ولحسين تجارب استقصائية معتمدة على البيانات منها كشف شركات سرية لشخصيات سياسية أو كشف شركات تحصل على عطاءات حكومية وهي ضمناً مملوكة لمسؤول أو لقريبه.
كما ساهم في إنجاز تحقيق استقصائي بالتعاون مع سبعة صحفيين أوروبيين تتبع فيه بالبيانات المفتوحة أسماء 17 باخرة تساهم في نقل اللاجئين غير الشرعيين إلى أوروبا، وفي الوقت ذاته تساهم في تهريب المخدرات والأسلحة، وقد كانت بيانات الشركات والشخصيات التي تملك هذه السفن مفتوحة، لكنها تحتاج إلى معرفة كيفية الوصول إليها في دول أفريقية.
وكانت مسارات السفن معروفة عبر بيانات مفتوحة من مراكز تتبع حركة السفن حول العالم، ومع تتبع الشحنات والسفن تم القبض عليها والكشف في هذا التحقيق عمن يقف وراءها والدول التي سهلت مرورها أو لم تكشف ذلك.
أهمية صحافة البيانات
استخدمت صحافة البيانات في بعض التحقيقات بشكل رئيسي، خاصة إن تضمن التحقيق وثائق كثيرة تحتوي على أرقام تحتاج لمقاطعة من أجل الوصول إلى نتائج جديدة مثل "وثائق بنما".
وتعتبر "وثائق بنما" من أكبر التحقيقات التي ضجت على مستوى العالم، سيما أنها تضمنت 11.5 مليون وثيقة مفصلة تكشف عن عمليات غسل أموال تقدر حجمها بالمليارات.. تسربت الوثائق عن طريق شركة محاماة ووصلت إلى الاتحاد الدولي للصحفيين المحققين، وعملت على تحليلها 107 وسيلة إعلامية دولية متنوعة.
واعتمد تحليل الوثائق على صحافة البيانات، خصوصا أنها كانت تتضمن أرقاماً تعود لـ210 ألف شركة ظلت تتخفى في 21 بلداً وولاية حول العالم، من أجل تحقيق التهرب الضريبي.
وفي النهاية تكلل جهد الصحفيين الذين عملوا على إنجاز مشروع "وثائق بنما" بالفوز بجائزة "تحقيق العام" عام 2016، ضمن سلسلة جوائز صحافة البيانات "Data Journalism Awards" في فيينا.
من جهة أخرى، استعانت عدة تحقيقات استقصائية نشرت على موقع "أريج" المختص بإعداد التحقيقات الاستقصائية؛ بصحافة البيانات، حيث حلل الصحفيون الأرقام التي تمكنوا من الحصول عليها ضمن المواضيع التي تتناولها تحقيقاتهم الاستقصائية.
ولعل من أبرز الأمثلة التي يمكن أن نجد فيها استخداماً لصحافة البيانات، تحقيق "الطريق السالكة إلى تونس لغسل الأموال المشبوهة"، وتحقيق "مؤسسات مقيمة في الإمارات العربية المتحدة تتورط بالمغسلة الروسية"، وتحقيقات عديدة أخرى.
الفساد وصحافة البيانات
لعل أكثر الميادين التي تدخل فيها صحافة البيانات، هي القضايا الاقتصادية التي تتضمن أرقاماً كثيرة مبعثرة تحتاج إلى تنظيم وتحليل. وتبرز أهمية الاستعانة بصحافة البيانات أثناء تناول مثل هذه القضايا في النتائج التي سيتم الوصول إليها، كحجم الأموال المسروقة أو عدد الوثائق المخفية أو عدد الشخصيات المتأثرة.. إلخ.
وحول مدى صعوبة الوصول إلى مصادر البيانات بالنسبة للصحفيين الاستقصائيين، يجيب الصحفي الخبير بمجال صحافة البيانات عمرو العراقي لمجلة "الصحافة": "لا يوجد شيء اسمه مستحيل أو صعب فيما يخص البحث للوصول إلى البيانات، حيث يمكن للصحفي أن ينشئ قاعدة بيانات خاصة به من خلال مشاهداته وملاحظاته، فإما أن يذهب الصحفي إلى المصادر الحكومية ويطلب الحصول على البيانات، أو يعتمد في ذلك على الأخبار".
ويتابع "تتميز القصص الصحفية المدفوعة بصحافة البيانات أنه يمكن بناؤها دون الاستعانة بمصدر، فيمكن مثلا رصد مخالفات مالية للمسؤولين دون أن أذهب إليهم وأطلب الحصول على بيانات متعلقة بالموضوع".
ومن وجهة نظر العراقي فإن دور صحافة البيانات مرتبط بمجال الصحافة الاستقصائية ويعتمد على طبيعة الموضوع المتناول.. "فالصحفي دائماً يسأل لماذا حصل ذلك، ويبدأ ببناء تقاريره على أساس عدة أسئلة، بينما في صحافة البيانات يعتمد العمل على جمع البيانات وتدقيقها ومن ثم تحليلها، فهي مجموعة أدوات ومهارات يمكن للصحفي تعلمها".
ويوضح "فيما يخص العلاقة بين الاختصاصيْن، لا يتطلَّب العمل الصحفي أن يكون هناك اختصاصات، فالصحفي الشامل لا بد أن يتعلم جميع المهارات، كضوابط العمل ومهاراته وإيجاد فرضية والتحقق منها، والتعامل مع الأرقام والبيانات المتوفرة، وأنا لا أميل إلى التمييز بين التخصصين".
يمكننا القول اليوم بأن صحافة البيانات تتناول مواضيع أكثر من الصحافة الاستقصائية، فليست كل قضية تدخل في مضمار الصحافة الاستقصائية حتى وإن كانت ملفات صادرة من جهات رسمية وتمت إعادة كتابتها ونشرها.
ورغم ارتباط هذين النوعين من الصحافة ببعضهما البعض وأهمية تحويل الأرقام والبيانات الصادرة عن التحقيق الاستقصائي إلى صور رقمية ورسومات بيانية، تبقى صحافة البيانات أشمل وأوسع من الصحافة الاستقصائية التي تحتاج إلى فرضية وإثباتها، فالبيانات موجودة بين أيدينا وما علينا إلا البحث المعمّق عنها للوصول إليها وتحويلها إلى طريقة عرض بصرية متميزة.