التمويل الأجنبي للصحافة العربية.. مداخل للفهم

التمويل الأجنبي للصحافة العربية.. مداخل للفهم

كانت المساعدات الأميركية المُعلنة لوسائل الإعلام والصحفيين خارج الولايات المتحدة لا تكاد تُذكر عندما قرّر توماس وينشب مع جيم إيوينغ وجورج كريمسكي عام 1984، تأسيس "المركز الدولي للصحفيين" (ICFJ) ومؤسسة "ألفريد فريندلي" غير الربحية لخدمة الصحفيين، وإتاحة دورات تطوير أداء وزمالات حول العالم.

قبل ذلك التاريخ، كان لوزارة الخارجية الأميركية مثلاً برنامجٌ تستقدم من خلاله صحفيين إلى واشنطن للتدريب، لكن لم تكن هناك أي جهة -حكومية أو خاصة- تُكرّس جهودها تماما -وبشكل علني- لدعم الصحافة الدولية.

أتى العام 1989 ليشكل محطة مفصلية في مجال الاستثمار في المشاريع الصحفية حول العالم. تزامن ذلك مع سقوط "الستار الحديدي" (جدار برلين)، ومن ثم تفكّك الاتحاد السوفياتي، حيث ظهر الإعلام كعنصر فاعل في المجتمعات التي كانت تُعيد بلورة قواها السياسية وديناميات قوتها.

"هرع الأميركيون والأوروبيون لتشجيع الديمقراطية من خلال دعم الصحافة الحرة، إلى أن أصبح تطوير الصحافة المستقلة حول العالم التزامًا بملايين الدولارات تنخرط فيه مئات المنظمات الأميركية والأوروبية"، مثلما وصفت ذلك إيلين هيوم في بحث أجرته عام 2004 بعنوان "البعثات (التبشيرية) الإعلامية" (Media Missionaries)، والذي كان بدوره مدعومًا من منظمات تُعنى بمشاريع التطوير الإعلامي حول العالم.

حكت هيوم عن "600 مليون دولار وربما أكثر بكثير وظّفتها جهات أميركية لدعم الصحافة المستقلة حول العالم بين عامي 1994 و2004". ومن هذه الجهات "الوكالة الأميركية للتنمية" (USAID) التي صرفت خلال 10 سنوات 275 مليون دولار لهذه الغاية، و"المجتمع المفتوح" (Open Society) التي استثمرت سنويًّا 20 مليون دولار على الأقل لمساعدة الصحفيين. هذه أرقام عمرها 16 عاما، وقد تطورت خلال الأعوام القليلة الماضية.

كما استثمر الأوروبيون -بشكل موازٍ- في التدريب وتأمين المعدات وتقديم النصائح القانونية لصحفيين حول العالم. ومن الجهات التي ذكرتها هيوم "الوكالة الدانماركية للتنمية الدولية"، و"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" (OSCE)، والحكومة الهولندية من خلال "الصحافة الآن" (PRESS NOW)، و"الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي" (SIDA)، و"الوكالة الكندية للتنمية الدولية"، ومنظمات ألمانية عدة مثل "فريدريتش إيبرت".

عند متابعة المسار الذي سلكته معظم هذه الوكالات والمنظمات، يظهر أنها ركزت في كل حقبة -لا سيما في الفترات المفصلية- على منطقة بعينها، بينما بدأ اهتمامها بالمنطقة العربية يزداد بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأصبح أكثر وضوحًا وانخراطًا مع بدء الربيع العربي عام 2011.

في مرحلة ما بعد 2011، لعبت المبادرات الإعلامية المستقلة والمنصات التي خرجت من صلب الحراكات الاجتماعية؛ دورًا بارزًا في طرح القضايا الحقوقية والثقافية والاجتماعية، وتقديمها كمسائل تتقاطع بشكل عضوي مع الشأن السياسي.

ولأن تمويل هذا النوع من المبادرات لم يكن يمر بالقنوات الرسمية التي اعتادت عليها سلطات هذه الدول، ولأن القضايا التي طرحتها منصات حديثة بدا سقفها أكثر ارتفاعًا من المعتاد والمسموح به (رسميًّا)، بدأ النقاش يتخذ منحى "مؤامراتيًّا"، حتى تحوّل "التمويل الأجنبي" إلى تهمة تصل حدَّ الملاحقة القانونية في بعض الدول.

ولأن الصحافة التي حاولت منصات عدة خرجت من صلب الربيع العربي تكريسها والعمل على أساسها؛ بدت مكلفة بدون أن تكون مربحة، لكونها عملت على رفع سقف النقاش حول الأزمات المزمنة ومساءلة الجهات المسؤولة عنها، وبالتالي تهديد مصالح مسؤولين كثر، فإن العلاقة التقليدية لوسائل إعلامية عديدة مع الشركات وأسواق الإعلانات (المرتبطة عادة بالقوى الحاكمة) لم تكن ممكنة، فكانت الحاجة إلى موارد مستقلة تؤمّن الانطلاقة والاستمرارية.

منصات عديدة بنت شراكات مع جهات صحفية حول العالم ساعدتها في تطوير محتواها أو تأمين محتوى مجاني، في وقت بدت فيه المنظمات العالمية المعنية بدعم الإعلام وتمويل مشاريعه بابًا آمنًا لتلك المنصات، بحيث يحفظ لها هامشًا واسعًا من الاستقلالية، ويساعدها في طرح قضايا بدت الشوارع "الثائرة" أكثر انفتاحًا على نقاشها.

تشترك معظم المنظمات الدولية التي تدعم المنصات الإعلامية في التأكيد على مبدأي "الديمقراطية" و"الشفافية المالية". وقد ساهم ذلك في تكريس ثقافة جديدة لدى المنصات الإعلامية الحديثة، لم تكن سائدة وفق ديناميات التمويل السياسي والتبرعات التقليدية.

ومع أن التمويل في ذاته ليس جريمة، ولا يوجد في القانون ما يمنعه، فإن خروجه عن القنوات التقليدية التي يمكن للسلطة السيطرة عليها، أدخله في شق مؤامراتي وسلسلة اتهامات عززتها لدى المتلقي العادي كلُّ المخاوف المتراكمة لديه من "الأجندات الخارجية" والدور السلبي الذي لعبته حكومات أجنبية في مسار التغيير الذي شهدته بلدان عربية عدة.

لكن، بعيدًا عن الشق المؤامراتي المُكرّر في النقاش حول التمويل الأجنبي، ثمة شقٌّ آخر على جانب من الأهمية قد يكون أشد تأثيرًا من فرض المموّل الأجنبي لأجندته ومن إشكالية "استقلال الصحافة"، وهو المرتبط "بحدود العمل الصحفي" أو الطرق التي تقارب بها المؤسسات الصحفية عملها وتنتقي وفقها زوايا اهتماماتها.

2
تشترك معظم المنظمات الدولية التي تدعم المنصات الإعلامية في التأكيد على مبدأي "الديمقراطية" و"الشفافية المالية" (نصوير:يحيى أرهب - إ ب أ).

 

أنواع التمويل

"نعلم أن الموسيقى الكلاسيكية كانت يومًا ما موسيقى شعبية، لكنها لم تعد كذلك، وباتت تحتاج إلى دعم خيري للصمود.. نحتاج أن نشرح للناس أن تحوّلا مشابهًا حدث للصحافة". هكذا يفسّر رئيس منظمة "بروبوبليكا" (ProPublica) الأميركية للصحافة الاستقصائية ريتشارد توفل الحاجة إلى التمويل.

قد تحمل مقاربة توفل بعضًا من المغالاة، لكنها تعكس جانبًا كبيرًا مما آلت إليه الحال.   

وبينما أظهرت جهات صحفية مرموقة مثل "الغارديان" إمكانية الاعتماد على دعم القراء وتمويل الأفراد من خلال عامل ثقة بين القارئ والمنصة الإعلامية يرتكز على المحتوى الجيد والحصري، لم تتمكن منصات إعلامية عربية مستقلة من الاعتماد عليه، فعامل الثقة لم يتحقق لأسباب عدة، وبقيت المنظمات الدولية والجهات المانحة الرافعةَ الأساسية لاستمرار الكثير من المشاريع.

وبحسب "ميديا إمباكت فوندرز" (Media Impact Funders)، صرفت المؤسسات الدولية المانحة بين عامي 2011 و2015 مبالغ تزيد قيمتها عن 1.3 مليار دولار سنويًّا لوسائل الإعلام والصحافة في جميع أنحاء العالم، وشمل ذلك مثلا 250 مليون دولار كل عام لدعم تطوير وسائل الإعلام، و220 مليونا لدعم التقارير الصحفية المستقلة.

في حديث مع الناشطة النسوية ومديرة مؤسسة "أصوات" الفلسطينية غدير الشافعي حول المسألة، وهي على تماس مباشر معها لكون مؤسستها تعمل بتمويل أجنبي، تشير إلى أنه لا يمكن وضع كل مصادر التمويل الأجنبي في خانة واحدة، إذ يجب التمييز بين أنواع التمويل المتوفرة وأهدافها.

تقول غدير: "هناك التمويل الذي يهدف إلى السيطرة على الوضع الراهن وإبقائه على حاله، والتمويل الهادم الذي من شأنه أن يتسبب بضرر من خلال فرض تدخل خارجي على قضايا وسياقات داخلية حساسة، وهناك التمويل الداعم الذي يأخذ بالاعتبار خصوصية كل مجتمع وجاهزيته وسُبُله للتغيير، ويثق بخبرات وعمل ونشاط المؤسسات المتواجدة على الأرض، من أجل إحداث تغيير حقيقي".

من المهم -وفقا للناشطة- الإشارة إلى أن مصادر التمويل الكبيرة -مثل "الوكالة الأميركية للتنمية" والاتحاد الأوروبي- تفرض معاييرها وسياساتها وشروطها، لا سيما في سياقات سياسية حساسة كالسياق الفلسطيني، مما يخلق تحديات وجودية كبيرة ويشكل عبئًا على المؤسسات الصحفية والاجتماعية المحلية، إذا ما أخذنا في الاعتبار ارتباط الوعي الاجتماعي بالموقف السياسي للأفراد.

مع ذلك، تشير غدير إلى أنهم في عملهم يراعون تقاطعية القضايا، أي دعم قضايا النساء والحريات الجندرية باعتبارها أساسية في سيرورة التحرّر. وبسبب ما قالت إنه "تدفيع" ثمن مبادئ المؤسسة التي عملت مثلًا على فضح سياسات "الغسيل الوردي" الإسرائيلية، لا تقبل المؤسسة التمويل المشروط أيًّا كان مصدره.

بدورها، تحكي المسؤولة في "المؤسسة العربية للحريات والمساواة" ومديرة برنامج "النساء في الأخبار" في الشرق الأوسط ميرا عبد الله عن ثلاثة أنواع من العلاقات بين الممولين والجهات المستفيدة من التمويل.

الأول- يظهر لدى الجهات التي تسعى لأي تمويل بغض النظر عن كيفية ترجمته، وهنا نجد تشتتًا في توجهاتها والمواضيع التي تطرحها.
الثاني- هو الذي يأخذ تمويلا على مشروع محدد يتّسق مع توجهاته، وهنا قد يتدخل الممول في وضع معايير تنفيذ المشروع، كفرض "مساواة جندرية"، أي وجود 50% من النساء في مشروع ما.
الثالث- هو شراكة فعلية بين الممول والجهة المستفيدة، تتخطى فكرة مشروع بعينه إلى تعاون طويل الأمد.

 

أثر التمويل

يناقش بحث مشترك نشره العام الماضي مارتن سكوت وميل بونس وكايت رايت في "دراسات الصحافة"، أثر تمويل المنظمات غير الربحية على العمل الصحفي.

تضمّن البحث حوارًا مع 74 جهة صحفية أظهرت شهاداتها أن تأثير تمويل المؤسسات يتجاوز مسألة استقلال الصحافة -لا سيما أنه "ليس من مصلحة المؤسسات المانحة أن يُنظر إليها على أنها تتدخل في السياسة التحريرية لوسائل الإعلام"- لينعكس على الآليات التي يفهم من خلالها الصحفيون عملهم ويقومون به على أرض الواقع.

وفي نقاش مع مسؤولين بمؤسسات إعلامية عربية وصحفيين يعملون معها، يتشارك كثيرون الحديث عن الجهد الكبير الذي يبذلونه في عملية "التودد" للجهات المموّلة وبناء علاقات معها تجعلهم أكثر حضورًا في المشهد الإعلامي وإحساسًا "بالأمان الاقتصادي".

ولأن التمويل لا يأتي حصرًا عندما تعلن جهة مانحة عبر موقعها الإلكتروني عن رغبتها في تمويل مشروع يناقش قضية معيّنة وتدعو المؤسسات الإعلامية إلى تقديم مخطط تنال على أساسه التمويل، فهو يتم أحياناً من خلال مسار غير رسمي.

يحكي أحد الصحفيين عن مشاركته في لقاءات ومؤتمرات -بتكليف من مؤسسته- بغرض توسيع شبكة العلاقات والتعرف على ممولين محتملين، والبحث معهم عن مصالح مشتركة. تركيز الصحفي على هذه "المهمة" الموكلة إليه في مؤتمر ما يكون أكثر من اهتمامه بالتشبيك مع صحفيين آخرين وإجراء نقاشات تصب في صلب العمل الصحفي.

ولأن المموّل يسعى كذلك نحو شريك موثوق -وهو أمر منطقي- فإن ذلك يترك أثرًا سلبيًّا في بعض الأحيان، إذ يشكو عاملون في الحقل الصحفي من أن المجموعات نفسها تحصل دائمًا على التمويل، وهذا يغلق الباب أمام مؤسسات ومبادرات جديدة ومهمة لكي تكتسب حضورًا وتأثيرًا.

في هذا السياق، تجد مؤسسات صحفية نفسها إزاء سؤال أساسي: هل نصرف جهدًا وطاقة على البحث عن المشاكل الاجتماعية الفعلية التي تهم شرائح المجتمع وتقديم محتوى يحاكيها، أم نركز على القضايا التي نعتقد أنها تهم المموّل، ونستثمر أكثر في تحسين صورة المؤسسة وقولبتها بشكل يراعي "ترندات" التمويل؟ 

من جهة ثانية، تبرز مسألة مطالبة الممول للمؤسسة الصحفية بإثبات ما حققته المشاريع الصحفية التي يدعمها. وبما أن مشاريع عديدة -حتى الضخمة منها- لا تترك أثرًا واضحًا في دول لم تعتد المساءلة والمحاسبة، فقد تهمل المؤسسات الصحفية المواضيع الشائكة التي تأخذ وقتًا أطول لصالح محتوى يُعتقد سلفًا أن تأثيره سيكون أوضح.

 

"الترند" الحقوقي والمعطى الثقافي

من بين أكثر أنواع الدعم التي تقدمها الجهات الدولية لمؤسسات صحفية عربية، هي تلك الهادفة إلى تغطية الأخبار المتعلقة بمواضيع كالتنمية وحقوق الإنسان والعنف ضد المرأة والحريات.

وبينما يتزايد الدعم المخصص لمواضيع من هذا القبيل، تبرز مخاوف من أن يأتي ذلك على حساب تغطية مواضيع في مجالات أخرى أقل جاذبية بالنسبة للأطراف المانحة، لكنها قد تشكل أولوية للمجتمعات المحلية.

تعلق الباحثة والأستاذة الجامعية نهوند القادري على التمويل الأجنبي لبلدان العالم الثالث باعتباره "من أشكال الكولونيالية، أو الاستعمار الثقافي والفكري الناعم"، وترى فيه "استغلالا للحاجة المادية من أجل العمل على مواضيع يحدد الممول سلفًا مقارباتها، من دون الأخذ في الاعتبار الحاجات الفعلية للناس والمناخ الثقافي والسياسي السائد".

وحتى عناوين حقوق الإنسان وقضايا الحريات التي يحملها المموّل الأجنبي، تُظهر -برأي الباحثة- معضلةً كبيرة مرتبطة "بازدواجية المعايير"، فقضايا الحريات "تحددها البلدان الغربية المتطورة بطريقة تتلاءم مع حاجاتها وسياساتها".

وبينما يمر طرح أي قضية شائكة في الدول المتقدمة بعدة مراحل، منها تحوّل القضية إلى إشكالية ذهنية وفكرية، ومن ثم يأتي الناشطون ويحملون رايتها، وبعد ذلك يتلقفها الإعلام ويغوص في كواليسها حتى يوصلها إلى أصحاب القرار والمؤثرين، تختلف مقاربة القضايا الشائكة في المنطقة العربية، حيث يحمل الإعلام عناوين كبرى تتماشى مع توجهات الممول دون أن تكون قد مرّت "بالمراحل المنطقية"، ودون أن تكون قد أخذت حقها من التمهيد لتجنّب طرحها دون استعراض أو استفزاز.

تبرز مسألة أخرى تحدد معالم هذا الاتجاه، وهي أن أغلبية الممولين يتكلمون الإنجليزية حصرًا، مما يشكل عائقًا أمام مبادرات محلية فعلية وحقيقية من الوصول إلى الممولين الكبار، وتنحصر الفرص في أولئك الضالعين بكواليس عالم التمويل ولغته. كما تخلق اللغة أزمة أمام الممول الذي يعجز أحيانًا عن فهم الواقع الفعلي للقضية التي يمولها، بما يشكل خسارة للجهد والوقت.

3
"هناك التمويل الذي يهدف إلى السيطرة على الوضع الراهن وإبقائه على حاله، والتمويل الهادم الذي من شأنه أن يتسبب بضرر من خلال فرض تدخل خارجي على قضايا وسياقات داخلية حساسة" (تصوير: عبد الهشلمون - إ ب أ).

 

وإذا أخذنا مثالا حول تمويل مشروع إعلامي يتضمن تغطية قضايا النساء في المناطق النائية وتدريبهن على رواية قصصهن، يرفع المموّل من سقف توقعاته بأن "يُغيّر حياة ضحايا المجتمع الذكوري"، ولا تساعده الجهة التي تستميت أحيانًا لاستقبال التمويل في خفض هذا السقف والنظر إلى الأمور بواقعية. وعند التنفيذ تبدأ المشكلات بالظهور، منها -على سبيل المثال- صعوبة الوصول إلى الكثير من النساء المستهدفات بالمشروع.

وقد يقدم المثال السابق عن النساء في المناطق النائية زاوية أخرى لمقاربة الموضوع، وهي المتعلقة باللغة الصحفية المستخدمة في هذا النوع من المشاريع، كمصطلحات "تمكين المرأة" و"العدالة الجندرية" التي تحصر أحيانًا النقاش في دوائر نخبوية ضيقة لا تصل إلى الفئة المستهدفة.

هكذا، نجد أنفسنا إزاء مروحة واسعة من المصطلحات التي جرى "استيرادها" بدل أن تخرج من أرض الواقع، فحمَلت إسقاطاتِها الغربية، وبالتالي حساسيةَ غربتها الدائمة عن محيطها المباشر.

خلال حفلٍ أُقيم لتكريمها عام 2015، سُئلت قاضية المحكمة العليا روث بادر غينسبرغ أن توجّه رسالة إلى النساء انطلاقًا من تجربتها التي امتدت لأكثر من نصف قرن كطالبة وناشطة ومحامية حقوقية وأستاذة قانون، والتي جعلتها واحدة من أيقونات النضال النسوي والحقوقي حول العالم. كان جواب غينسبرغ بجملة واحدة تمّ تداولها بكثرة في الأيام الماضية تزامنًا مع إعلان خبر وفاتها: "حارِبن من أجل القضايا التي تُؤمِنّ بها، لكن ليكن ذلك بطريقة تحمل الآخرين على الانضمام إلى صفوفكن".

الوصفة التي ساقتها غينسبرغ انطلقت من ضرورة ربط التغيير الاجتماعي بالعمل المنظّم، لكنها ربطت فعالية الأخير -بشكل أساسي- بقدرته على الاستقطاب ومحاكاة "الآخرين" بلغة يفهمونها، فتتوحد القوى المؤثرة في قضية بعينها في مواجهة ما يُفترض أن يكون الخصم الأساسي.

وإذا ما حملنا هذه الوصفة إلى دائرة العمل الصحفي في شقه الخبري أو المعمّق، نجد أنها تُحاكي المعضلة الأساسية التي تواجهها منصات صحفية عديدة تُعنى بقضايا حقوق الإنسان والمشاكل الاجتماعية والقضايا التي تُعتبر تابوهات في مجتمعات المنطقة، وهي غربة المقاربات الصحفية في أحيان عديدة عن الواقع الفعلي المُعاش.

يمكن ربط هذه المشكلة بتركيز جهات صحفية عديدة على لغة المموّل وثقافته أكثر من بذل الجهد لمخاطبة شرائح المجتمع المعنية بالمواضيع التي تطرحها، فيتحول الأمر إلى دائرة "بزنس" مغلقة بين الصحفيين والممولين، غريبة عن الحاجات الفعلية للفئات المستهدفة بالمشاريع.

في المقابل، برز وعي متزايد في السنوات القليلة الماضية لدى بعض الجهات المُموِّلة حول هذه الإشكاليات، وقد بدأت بمراجعة إستراتيجيتها التمويلية، فضلا عن تعزيز فكرة "المانح الوسيط" الذي يموّل مشاريع صغيرة من تمويل كبير حصل عليه، والذي يكون عادة على تماس أكبر مع المجتمعات المحلية.

وفي حديث مع مسؤولة عن مراجعة مشاريع تمويل، تتعاون مع جهتين مختلفتين، تشير إلى أن "الإستراتيجيات يتم تعديلها كل فترة، وقد تعلمت الجهات الممولة مع الوقت الكثير من التعقيدات المرتبطة بالعمل الصحفي في المنطقة العربية، وهي تُطوّر آليات دعمها على هذا الأساس".

لا يمكن الجزم بأن التغييرات التي يشهدها العمل الصحفي بفعل التمويل الأجنبي كلها إيجابية أو سلبية، إذ أظهر تسليط الضوء على مواضيع حقوقية إشكاليةٍ محددة -بفضل هذا التمويل- أثرًا إيجابيًّا على رفع الوعي الاجتماعي وتعزيز منطق المحاسبة، في مقابل انتقادات طالت هذا التوجه الذي قد يؤدي إلى تهميش مواضيع إشكالية أو شرائح اجتماعية لا تُلائم "الترند".

قد يختصر ما كتبه سكوت وزميلاه في خاتمة بحثهم دوافع القلق الأساسي من هذا النوع من التمويل، على أهميته، إذ يقولون إن "ما يثير قلقنا خصوصًا هو أن تشهد طبيعة الصحافة والدور الذي تلعبه في المسار الديمقراطي والحقوقي؛ تغييرات على يد مجموعة من المؤسسات المانحة، لا على يد الصحفيين أنفسهم".

 

More Articles

Daughters of Data: African Female Journalists Using Data to Reveal Hidden Truths

A growing network of African women journalists, data scientists, and tech experts is amplifying female voices and highlighting underreported stories across the continent by producing data-driven projects and leveraging digital technologies in storytelling.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 23 Jul, 2024
Are Podcasts the Future of African Broadcasting?

The surge of podcasts across Africa is a burgeoning trend, encompassing a wide array of themes and subjects, and swiftly expanding across various nations.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 11 Jul, 2024
Video Volunteers: How India’s Marginalised Groups Tell Their Own Stories

Video creators like Rohini Pawar and Shabnam Begum have transcended societal challenges by producing influential videos with Video Volunteers, highlighting social issues within marginalized communities. Their work exemplifies the transformative power of storytelling in fostering grassroots change and empowerment across India.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Jul, 2024
Climate Journalism in Vietnam's Censored Landscape

In Vietnam, climate journalists face challenges due to censorship and restrictions on press freedom, making it difficult to report environmental issues accurately. Despite these obstacles, there are still journalists working to cover climate stories creatively and effectively, highlighting the importance of climate journalism in addressing environmental concerns.

AJR Contributor Published on: 26 Jun, 2024
Challenges of Investigating Subculture Stories in Japan as a Foreign Correspondent

Japan's vibrant subcultures and feminist activists challenge the reductive narratives often portrayed in Western media. To understand this dynamic society authentically, journalists must approach their reporting with patience, commitment, and empathy, shedding preconceptions and engaging deeply with the nuances of Japanese culture.

Johann Fleuri
Johann Fleuri Published on: 24 Jun, 2024
Covering the War on Gaza: As a Journalist, Mother, and Displaced Person

What takes precedence: feeding a hungry child or providing professional coverage of a genocidal war? Journalist Marah Al Wadiya shares her story of balancing motherhood, displacement, psychological turmoil, and the relentless struggle to find safety in an unsafe region.

Marah Al Wadiya
Marah Al Wadiya Published on: 29 May, 2024
Fighting Misinformation and Disinformation to Foster Social Governance in Africa

Experts in Africa are using various digital media tools to raise awareness and combat the increasing usage of misinformation and disinformation to manipulate social governance.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 22 May, 2024
"I Am Still Alive!": The Resilient Voices of Gaza's Journalists

The Israeli occupation has escalated from targeting journalists to intimidating and killing their families. Hisham Zaqqout, Al Jazeera's correspondent in Gaza talks about his experience covering the war and the delicate balance between family obligations and professional duty.

Hisham Zakkout Published on: 15 May, 2024
Under Fire: The Perilous Reality for Journalists in Gaza's War Zone

Journalists lack safety equipment and legal protection, highlighting the challenges faced by journalists in Gaza. While Israel denies responsibility for targeting journalists, the lack of international intervention leaves journalists in Gaza exposed to daily danger.

Linda Shalash
Linda Shalash Published on: 9 May, 2024
Elections and Misinformation – India Case Study

Realities are hidden behind memes and political satire in the battle for truth in the digital age. Explore how misinformation is influencing political decisions and impacting first-time voters, especially in India's 2024 elections, and how journalists fact-check and address fake news, revealing the true impact of misinformation and AI-generated content.

Safina
Safina Nabi Published on: 30 Apr, 2024
Amid Increasing Pressure, Journalists in India Practice More Self-Censorship

In a country where nearly 970 million people are participating in a crucial general election, the state of journalism in India is under scrutiny. Journalists face harassment, self-censorship, and attacks, especially under the current Modi-led government. Mainstream media also practices self-censorship to avoid repercussions. The future of journalism in India appears uncertain, but hope lies in the resilience of independent media outlets.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 25 Apr, 2024
The Privilege and Burden of Conflict Reporting in Nigeria: Navigating the Emotional Toll

The internal struggle and moral dilemmas faced by a conflict reporter, as they grapple with the overwhelming nature of the tragedies they witness and the sense of helplessness in the face of such immense suffering. It ultimately underscores the vital role of conflict journalism in preserving historical memory and giving a voice to the voiceless.

Hauwa Shaffii Nuhu
Hauwa Shaffii Nuhu Published on: 17 Apr, 2024
Journalism in chains in Cameroon

Investigative journalists in Cameroon sometimes use treacherous means to navigate the numerous challenges that hamper the practice of their profession: the absence of the Freedom of Information Act, the criminalisation of press offenses, and the scare of the overly-broad anti-terrorism law.

Nalova Akua
Nalova Akua Published on: 12 Apr, 2024
The Perils of Journalism and the Rise of Citizen Media in Southeast Asia

Southeast Asia's media landscape is grim, with low rankings for internet and press freedom across the region. While citizen journalism has risen to fill the gaps, journalists - both professional and citizen - face significant risks due to government crackdowns and the collusion between tech companies and authorities to enable censorship and surveillance.

AJR Contributor Published on: 6 Apr, 2024
Silenced Voices: The Battle for Free Expression Amid India’s Farmer’s Protest

The Indian government's use of legal mechanisms to suppress dissenting voices and news reports raises questions about transparency and freedom of expression. The challenges faced by independent media in India indicate a broader narrative of controlling the narrative and stifling dissenting voices.

Suvrat Arora
Suvrat Arora Published on: 17 Mar, 2024
Targeting Truth: Assault on Female Journalists in Gaza

For female journalists in Palestine, celebrating international women's rights this year must take a backseat, as they continue facing the harsh realities of conflict. March 8th will carry little celebration for them, as they grapple with the severe risks of violence, mass displacement, and the vulnerability of abandonment amidst an ongoing humanitarian crisis. Their focus remains on bearing witness to human suffering and sharing stories of resilience from the frontlines, despite the personal dangers involved in their work.

Fatima Bashir
Fatima Bashir Published on: 14 Mar, 2024
A Woman's Journey Reporting on Pakistan's Thrilling Cholistan Desert Jeep Rally

A Woman's Voice in the Desert: Navigating the Spotlight

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 8 Mar, 2024
Breaking Barriers: The Rise of Citizen Journalists in India's Fight for Media Inclusion

Grassroots journalists from marginalized communities in India, including Dalits and Muslims, are challenging mainstream media narratives and bringing attention to underreported issues through digital outlets like The Mooknayak.

Hanan Zaffa
Hanan Zaffar, Jyoti Thakur Published on: 3 Mar, 2024
Why Journalists are Speaking out Against Western Media Bias in Reporting on Israel-Palestine

Over 1500 journalists from various US news organizations have signed an open letter criticizing the Western media's coverage of Israel's actions against Palestinians. They accuse newsrooms of dehumanizing rhetoric, bias, and the use of inflammatory language that reinforces stereotypes, lack of context, misinformation, biased language, and the focus on certain perspectives while diminishing others. They call for more accurate and critical coverage, the use of well-defined terms like "apartheid" and "ethnic cleansing," and the inclusion of Palestinian voices in reporting.

Belle de Jong journalist
Belle de Jong Published on: 26 Feb, 2024
Silenced Voices and Digital Resilience: The Case of Quds Network

Unrecognized journalists in conflict zones face serious risks to their safety and lack of support. The Quds Network, a Palestinian media outlet, has been targeted and censored, but they continue to report on the ground in Gaza. Recognition and support for independent journalists are crucial.

Yousef Abu Watfe يوسف أبو وطفة
Yousef Abu Watfeh Published on: 21 Feb, 2024
Artificial Intelligence's Potentials and Challenges in the African Media Landscape

How has the proliferation of Artificial Intelligence impacted newsroom operations, job security and regulation in the African media landscape? And how are journalists in Africa adapting to these changes?

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 18 Feb, 2024
Media Blackout on Imran Khan and PTI: Analysing Pakistan's Election Press Restrictions

Implications and response to media censorship and the deliberate absence of coverage for the popular former Prime Minister, Imran Khan, and his party, Pakistan Tehreek-e-Insaf (PTI), in the media during the 2024 elections in Pakistan.

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 14 Feb, 2024
Digital Battlegrounds: The New Broadcasting Bill and Independent Journalism in India

New legislation in India threatens the freedom of independent journalism. The draft Broadcasting Services (Regulation) Bill, 2023 grants the government extensive power to regulate and censor content, potentially suppressing news critical of government policies.

Safina
Safina Nabi Published on: 11 Feb, 2024
Pegasus Spyware: A Grave Threat to Journalists in Southeast Asia

The widespread deployment of spyware such as Pegasus in Southeast Asia, used by governments to target opposition leaders, activists, and journalists, presents significant challenges in countering digital surveillance. This is due to its clandestine operations and the political intricacies involved. The situation underscores the urgent need for international cooperation and heightened public awareness to address these human rights infringements.

AJR Contributor Published on: 5 Feb, 2024