على مدى سنوات، استُهلكت أدبيات الصحافة في التنظير للتنوع في المصادر في صياغة القصص الصحفية، وعن قيمته في خِدمة الموضوعية بشكلها التقني، والمهنية بصفتها ضامنا لحماية الحقيقة من تحيزات المواقف. لكن التنظير لأهمية التنوع بين الصحفيين أنفسهم داخل غرفة الأخبار، لم يحظ بالاهتمام إلا مؤخرا.
ولأن جدلا يدور حول غياب الموضوعية في اجتماعات التحرير؛ حيث يقدم الصحفي مقترحاته للقصص بناء على ما يراه هو مهما لا على معايير موضوعية بحتة، تبرُزُ الحاجة للتنوع في اجتماعات التحرير-غرفة الأخبار، بصفته ضامنا لموضوعية الأجندة الإعلامية ككل، وتنويع زوايا معالجة القصص.
أدركت غرف الأخبار الغربية، خلال السنوات الماضية، تأثير غياب التنوع، وتجلت ضرورة استحضاره داخل غرف الأخبار: جزء منها نظر للقضية بعين تجويد مهنية التغطية، وأخرى سعت لتجميل مظهر غرف أخبارها في وجه موجات الضغط التي شنتها الحركات الحقوقية. بيد أن قناةً تجمَعُ داخل غرفة أخبارها 28 جنسية مختلفة، تجاوزت هذا الحوار الغربي.
داخل إدارة الأخبار في قناة الجزيرة، يوجد 42 جنسية، 28 منها في غرفة الأخبار فقط. هكذا يتحدث حميدي عن أهمية التنوع بأشكاله (سياسيا، ثقافيا، جندريا...)، وكيفية تأمينه، وقيمته المهنية، وأين يقف من الأخلاقيات الصحفية، وأفق توظيفه في سبل تغطية أكثر شمولا.
السياسي والصحفي
لا يمكن عزل الصحفي عن تنشئته، وهو الذي يحمل مزيجا من التجارب الأيديولوجية والاشتباكات السياسية مع الشأن العام. هذه "التَّرِكَة" حملها الصحفي إلى غرفة الأخبار، فكيف يُستفاد منها دون تضارب مع المهنية؟
المهنية عقيدة، يجيب حميدي، تؤثر بالموقف السياسي تأثير الدين في القبيلة، جاء الأول فتخلى الناس عن الأخيرة، وجاءت المهنية لتجُبّ ما قبلها من ميول سياسية وتجعل الصحفي مُكرَّسا لخدمتها فقط. وبرغم أن حميدي لا يلمس وجود ميل متعصب لأي اتجاه سياسي بين الصحفيين في غرفة أخبار الجزيرة، لكنه يدرك استحالة نزع توجهات تراكمت بفعل تجربة امتدت لسنوات؛ "سعي الصحفي للاهتمام بالسياسة، هو ما يمكّنه من أدوات الفهم، ولا يزعجنا وجود ميول سياسية لصحفيين في غرفة الأخبار".
ويرى حميدي أن "ما يطمئن الجزيرة، هو وجود مسطرة مهنية، تتضمن معايير وضوابط تضمن عدم نفاذ الموقف إلى الحرفة، إن ألزَم الصحفي ذاته بها". وهنا، تتاح الفرصة لاستثمار توجهات الصحفي، فيزود غرفة الأخبار بعلاقاته ومصادره التي يستمدها من اهتمامه السياسي، ويوسّع من قاعدة المصادر، فُيثري التغطية لتقف على مسافة واحدة من كل طرف، ولتُمنَح المساحات العادلة في التغطية لكافة المصادر المحتملة.
ما بعد السياسي
لا يقتصر التنوع، حسب حميدي، على السن والجنس والجنسية، بل يؤخذ بعين الاعتبار التنوع العرقي الذي يمكن أن يكون مثريا في الاجتماع التحريري كما على الشاشة.
وجود 28 جنسية في غرفة الأخبار فقط و48 جنسية في إدارة الأخبار أمّن للجزيرة تنوعا ثقافيا وعرقيا، جنّبها عثرات محتملة في تغطيات تستلزم وجود صحفي ملم بخصوصيتها في غرفة الأخبار. فمثلًا، عندما كان الخبر أفغانيا، استعانت الجزيرة بصحفي أفغاني في غرفة الأخبار يتقن العربية، ساعد في جعل التغطية أكثر سرعة ودقّة.
تغطية حدث "استيلاء" حركة طالبان على السلطة، لم تكن لتحقق السبق، لولا امتلاك الجزيرة لمراسل أفغاني يتقن العربية على الأرض. سمح ذلك للجزيرة بأن تنقل اللحظات الأولى لدخول مقاتلي طالبان قصر الرئاسة في كابول لحظة إعلانهم انتهاء فترة حكم الرئيس السابق أشرف غني وعودة الحركة للسلطة، في مشهد لم يخلُ من سريالية وثقّتها كاميرا الجزيرة، ثم نُقِلَت المشاهد على جل وسائل الإعلام العالمية.
ثمة حالة أخرى يتذكرها حميدي، وهي الهجمات التي وقعت في كردستان العراق. الأخبار العاجلة كانت ترد على مواقع التواصل الاجتماعي باللغة الكردية، فكان امتلاك غرفة أخبار الجزيرة لصحفي كردي مسهلا لمهمة متابعة الأخبار بشكل آني، وأمّن فهما أشمل للصورة بشكل سريع، قبل اللجوء لأي مصادر أخرى.
بناء على هذه الوقائع، فإن التنوع حسب حميدي دائما "أسهم في تسريع عملية نقل الأخبار وجعلنا أكثر ثقة بمنتوجنا التحريري الذي نقدمه للجمهور".
وسيلة إعلام محلية في كل خبر
يرى حميدي أن فائدة التنوع لا تقتصر على تحقيق السبق أو ضمان توسيع قاعدة التغطية، بل تتعداها لتصير التغطية أكثر قربا من المتأثرين بالحدث: حيرة في لفظ اسم قرية في الجزائر، أو اسم قبيلة في أفغانستان، تغطية قصة سقطت من الشاشات الأخرى، أو معالجة خالية من سوء فهم السياق المحلي، كلها قضايا تُحلّ بسهولة في حضور التنوع.
إن تحول الجزيرة من وسيلة إعلام عالمية، إلى قناة محلية في الدول التي تغطي منها، وضع مسؤولية كبيرة عليها؛ فعندما يخرج المراسل السوداني من قلب السودان ليُغطي الأحداث الجارية هناك، فإنه يضفي على التغطية ألفة ومصداقية أكثر للمشاهد، ويضمن لنا المهنية ويبعدنا عن مغبة سوء فهم السياق؛ "يقربنا من المشاهد ويقربه لنا" يقول حميدي.
هل سعت الجزيرة لهذا التنوع؟
يبرز حميدي أن الجزيرة لم تواجه تحدي غياب التنوع في غرف أخبارها لتسعى لتحقيقه؛ فالقناة منذ يومها الأول، ضمت صحفيين من جنسيات وخلفيات سياسية وثقافية وعرقية مختلفة. وتحقيق التنوع، وفق رؤيته، سيكون تحصيل حاصل إن سعت الوسيلة الإعلامية لتوسيع نطاق بحثها عن الصحفيين وضمان فرص متكافئة لهم، شريطة أن يُنظر للصحفيين جميعا بمعيار المهنية والاحترافية لا غير، ويُقيَّمون وفقه.
توسيع نطاق البحث في الجزيرة كان من خلال السعي للوصول للصحفيين في بلدانهم أو بلدان قريبة منهم، بإجراء امتحانات التوظيف فيها، ولم تجر هذه الامتحانات في الدول العربية فقط، بل تعدتها للوصول إلى دول أوروبا والأمريكيتين للوصول للصحفيين العرب في المهجر كذلك.
عام 2018، عقدت غرفة أخبار الجزيرة حملة توظيف في عدد من التخصصات المطلوبة لديها، وتلقت أكثر من ألفي طلب توظيف من قرابة 40 جنسية. كان المعيار الأساسي للتقييم هو تطابق السيرة الذاتية للمتقدم مع الوظيفة التي تقدم لها. وخلاصة هذا النهج، المطبّق منذ سنوات، كما وصفه حميدي، تمثّل بحجم التنوع الحالي الذي تشهده القناة، وبضمانة أن يكون جميع مَن في غرفة الأخبار على درجة عالية من الحرفية والمهنية، مهما كانت جنسياتهم.
إلا أن حميدي يرى أن التنوع في الجنسيات ليس هو الضامن الرئيس للمهنية، "هناك وسائل إعلام محلية يكون جميع العاملين فيها من جنسية واحدة، وبرغم ذلك تستطيع تقديم تغطية مهنية ومتوازنة بسبب استنادهم للمعايير المهنية".
التنوع الجندري
تشكل النساء نسبة 28% من العاملين في إدارة الأخبار، وهي نسبة يقول حميدي إنها جاءت تلقائيا نتيجة المنافسة العادلة على الوظائف، ولو ارتفعت خلال السنوات القادمة فلن تكون سوى تلقائية كذلك؛ لأن المعيار الوحيد الذي يُنظر له هو الكفاءة والمهنية. ويرى أن هذا الرقم ربما هو انعكاس لواقع الوسط الصحفي العربي؛ "ظروف الحرفة شاقة، وهي أكثر صعوبة على الصحفيات، وهذا ربما يجعلها مهنة منفرّة للنساء".
ويؤكد حميدي أن وجود الصحفيات في اجتماعات التحرير ساعد في تجويد التغطية الصحفية، لا سيما في توسيع زوايا المعالجة والأجندة الإخبارية اليومية، خصوصا في القضايا المتعلقة بالمرأة.
ثمّة قول شائع: "الصحفيون يكتبون المسودة الأولى من التاريخ"، وثمّة مدرسة تاريخية عريقة تسمى المدرسة الوضعانية، تنتهج أسلوب توثيق الروايات من مصادر مختلفة للتحقق من حقيقة الحدث التاريخي. يمكننا تخيّل تحقيق التنوع في المصادر وزوايا المعالجة في القصص الصحفية بصفته عاملا يسهّل عمل المؤرخين مستقبلا لتوثيق هذه الحقبة الزمنية، وهل من سبيل أفضل لتحقيق التنوع في القصة من التنوع في غرف الأخبار؟