بعد فترة قصيرة فقط من موت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، نشرت شبكة بي بي سي البريطانية نعيا مطولا يؤرخ لأهم اللحظات في مسارها. كان النعي مبرمجا ضمن خطة واسعة للشبكة لمتابعة خبر موت الملكة، سُمّيت "جسر لندن".
تشكل أخبار الوفيات جزءا أساسيا من مضامين صناعة الإعلام عبر التاريخ، لكن معالجتها تطورت شكلا ومضمونا وفق تحولات الصحافة تقنيا وفنيا وأسلوبيا، وكذلك وفق اهتمامات وأولويات الجمهور في مختلف الأزمنة والأمكنة والسياقات الثقافية والسياسية.
وفي أولى التجارب الصحفية المرتبطة باختراع المطبعة بألمانيا في القرن الرابع عشر، كان للوفيات حيزها بشكل موجز للغاية، قبل أن تتطور في القرون اللاحقة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى شكل إعلانات موجزة.
وفي خضم الثورة الصناعية وما رافقها من تقدم علمي وتحولات اقتصادية وسياسية، بدأت الصحف في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تولي الموضوع اهتماما أكبر وأصبحت تنشر - إضافة لإعلانات الوفاة الموجزة - مواد نعي بشكل أوسع، تتضمن معلومات أوفر عن الشخص الراحل وعن تشييع جنازته.
وزادت أهمية أخبار الوفيات في الولايات المتحدة على إيقاع الحرب الأهلية (1861-1865) ضمن الحاجة لإخبار الناس عن أقاربهم الذين قتلوا في المعارك.
وشكلت تلك المرحلة منعطفا نحو اكتساح أخبار الوفيات مساحة أوسع في الممارسة الصحفية وبدأت تتحول تدريجيا من مادة إعلانية إلى مادة صحفية متكاملة، قبل أن تترسخ في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
تجارب حديثة
وفي تجليات النعي في الصحافة المعاصرة، تفرض جريدة نيويورك تايمز الأميركية نفسها ضمن أولى المنابر التي أفردت حيزا خاصا لهذا الفن الصحفي منذ انطلاقتها في منتصف القرن التاسع عشر.
وطورت الصحيفة ذلك النهج إلى أن بات لها قسم خاص يشرف عليه محرر متمرس يضم صحفيين ذوي خبرات واسعة وتجارب طويلة.
وتحرص الصحيفة في ممارستها على التمييز بين إشعار الوفاة (نص معلوماتي قصير غالبا ما يكون مأجورا باعتباره مادة ترويجية) والنعي الذي يدخل ضمن اختصاص قسم الوفيات وفق ضوابط تحريرية وموضوعية وأسلوبية متفق عليها في إطار الخط التحريري العام للصحيفة، وتوجهاتها وخلفياتها السياسية والإيديولوجية.
كما تحرص الصحيفة على التمييز بين النعي وبين الرثاء. ويرى وليام ماكدونالد رئيس قسم الوفيات في نيويورك تايمز منذ عام 2006 في مقال توضيحي خاص أن مواد النعي يكتبها صحفيون متخصصون في شأن النعي (obituarists) لتسليط الضوء على "أهمية الشخص الراحل وما خلّفه من أثر والقصة التي يجسدها".
حرصت نيويورك تايمز في ممارستها على التمييز بين إشعار الوفاة كنص معلوماتي قصير غالبا ما يكون مأجورا باعتباره مادة ترويجية والنعي الذي يدخل ضمن اختصاص قسم الوفيات وفق ضوابط تحريرية وموضوعية وأسلوبية متفق عليها في إطار الخط التحريري العام للصحيفة، وتوجهاتها وخلفياتها السياسية والإيديولوجية
نعي أم رثاء؟
على هذا النحو فإن تكريم الموتى ورثاؤهم متروك لمن يصفهم وليام ماكدونالد بالرثّائين أو كُتّاب المرثيات (eulogists)، وهم عادة مقربون من الراحل عائليا أو فكريا أو إيديولوجيا. وغالبا ما تركز مواد الرثاء على مناقب الراحل وخصاله وتكون ذات طبيعة ذاتية وفيها أحيانا نفس أدبي، وقد تكون من باب العرفان والوفاء للشخص الفقيد.
ومن أصل عشرات آلاف الأشخاص الذين يتوفون يوميا، لا تنشر صحيفة نيويورك تايمز تقريبا سوى ثلاث مواد "نعي" يوميا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الآلية المعتمدة لانتقاء من يستحقون "النعي" وما الهدف من "النعي" أصلا؟
في هذا السياق يقول وليام ماكدونالد إنه ليس من اختصاص الصحيفة أن تصدر الأحكام - لا إيجابا ولا سلبا - على المتوفين ممن يستحقون النعي، وإنما يكون التركيز في الغالب على منجزهم بغض النظر عن الموقف الأخلاقي منهم، اعتمادا على القيمة الإخبارية للشخص المعني.
على هذا النحو فإن تكريم الموتى ورثاؤهم متروك لمن يصفهم وليام ماكدونالد بالرثّائين أو كُتّاب المرثيات (eulogists)، وهم عادة مقربون من الراحل عائليا أو فكريا أو إيديولوجيا. وغالبا ما تركز مواد الرثاء على مناقب الراحل وخصاله وتكون ذات طبيعة ذاتية وفيها أحيانا نفس أدبي، وقد تكون من باب العرفان والوفاء للشخص الفقيد.
النعي الاستباقي
وباتت كتابة مواد النعي في نيويورك تايمز وغيرها من المنابر الإعلامية العريقة والرصينة، تقليدا راسخا إلى درجة أنها تقوم بذلك استباقيا في بعض الأحيان وتبادر لإعداد مقالات نعي لأشخاص غادروا الفضاء العام أو اختفوا من سماء الأخبار لهذا السبب أو ذاك (إبعاد، إقصاء، تقاعد، اعتزال، مرض، تقدم في السن) وتنشرها فور وفاة صاحبها.
لكن تجهيز مواد النعي سلفا ينطوي على الكثير من المخاطر التحريرية؛ إذ يحصل أحيانا أنّ تلك المواد قد ترى طريقها للنشر بالخطأ فتكون النتيجة عكسية وكارثية بالمقاييس الخبرية (نشر خبر غير صحيح) والتحريرية (نشر مادة غير مكتملة الصياغة والتحرير).
وتشير إحصائية لصحيفة نيويورك تايمز أن الموقع الإلكتروني لإذاعة فرنسا الدولية نشر عن طريق الخطأ نحو 100 نعي مكتوب مسبقًا لشخصيات بارزة.
لكن الحالة الأكثر تعبيرا عن أخطار تهيئة مواد النعي مسبقا هو بث تلفزيون بي بي سي بالخطأ خبر وفاة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا قبل رحيلها، وذلك من فرط الإعداد المتواصل منذ عدة عقود (ضمن خطة داخلية بعنوان "عملية جسر لندن") لتغطية وفاتها عندما تحصل فعليا.
أما في حال التخطيط الجديد والمحكم، فإن إعداد مود النعي سلفا يكون ذا جدوى مهنية عالية؛ إذ يوفر للمتلقي بسرعة مادة عميقة وثرية عن الشخصية الراحلة وإنجازاتها سلبا أو إيجابا.
ووفقا لويليام ماكدونالد فإن صحيفة نيويورك تايمز أعدت سلفا 1850 مادة نعي في حين تحتفظ صحيفة واشنطن بوست بنحو 900 منها، وفقا لمحرر النعي آدم بيرنشتاين.
لكن الحالة الأكثر تعبيرا عن أخطار تهيئة مواد النعي مسبقا هو بث تلفزيون بي بي سي بالخطأ خبر وفاة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا قبل رحيلها، وذلك من فرط الإعداد المتواصل منذ عدة عقود (ضمن خطة داخلية بعنوان "عملية جسر لندن") لتغطية وفاتها عندما تحصل فعليا.
وعلى سبيل المثال فقد نشرت نيويورك تايمز يوم 23 مارس 2022 على موقعها الإلكتروني نعيا مطولا لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، بعد دقائق قليلة من إعلان وفاتها.
وتشير الكثير من القرائن إلى أن النعي كان شبه جاهز؛ من قبيل حجمه (حوالي 3000 كلمة) وإشارات في متن المقال إلى أن العديد من الشهادات في حق الراحلة أخذت مسبقا للنشر في هذه المناسبة.
وحمل ذلك النعي توقيع روبيرت ماكفادن الذي اشتغل في الصحيفة 63 عاما، وجاء في نبذة عنه بموقع الجريدة بأنه "في العقد الأخير قبل تقاعده في سبتمبر 2024، كان كاتبًا لمواد النعي الاستباقية التي يتم إعدادها للأشخاص البارزين أثناء حياتهم حتى يمكن نشرها بسرعة بعد وفاتهم".
وتضمّن نعي أولبرايت عرضا وافيا لأهم محطات حياتها وأبرزها، كما ورد في العنوان، أن الراحلة، ذات الأصول التشيكية، كانت أول امرأة تتولى وزارة الخارجية في الولايات المتحدة وكان ذلك في عام 1997 في ظل إدارة الرئيس بيل كلينتون.
أما اللحظات الأكثر درامية، كما جاء في النعي، فهي الظروف التي غادرت فيها الطفلة مادلين بلدها تشيكوسلوفياكيا (كما كانت تسمى آنذاك) رفقة أسرتها في أجواء الحرب العالمية الثانية هربا من لهيب النازية.
ولم تكشف مادلين أولبرايت - وفق النعي - حقيقة أصولها اليهودية إلا بعد أن أصبحت وزيرة للخارجية؛ إذ إن والديها اعتنقا الكاثوليكية اتقاء شر النازيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وربّيا أطفالهما عليها دون أن يخبروهم عن أصلهم اليهودي.
"نعي" بنفس تاريخي
وبأسلوب يزاوج بين التقشف والتكثيف من جهة، والعمق والنفَس الأدبي من جهة أخرى، أفردت أسبوعية الإيكونوميست البريطانية لمواد النعي مكانا قارّا في الصفحة الأخيرة، وفق ضوابط إخراجية وبصرية وتحريرية ثابتة.
ورغم أنّ مواد النعي في الإيكونوميست - على غرار باقي المقالات الأخرى - غير موقّعة، فإن المجلة تشير في التعريف بطاقمها إلى أن آن رو التي التحقت بالمجلة عام 1976 هي من تتولى كتابة تلك المواد منذ عام 2003 بأسلوب يجمع بين النفَس الأدبي والسردي والصنعة الصحفية والهاجس التأريخي.
وعن طريقة عملها واختياراتها، تقول آن رو - وهي حاصلة على دكتوراه في التاريخ وألفت عددا من كتب السيرة الغيرية -: "كل أسبوع أروي قصة حياة استثنائية؛ موضوعها شخصية معروفة أو شخصية أقل شهرة لكنها لا تقل استثنائية".
وفي حلقة نقاشية مع القراء على إحدى الحسابات الرقمية للمجلة، تقول آن رو: "أحاول كل أسبوع أن ألتقط جوهر شخص وأروي قصة حياته".
وعلى سبيل المثال، فإن نعي الإيكونوميست لمادلين أولبرايت كان مختلفا عن مقاربة نيويورك تايمز شكلا ومضمونا؛ (8) إذ لم تحِد المجلة البريطانية عن قاعدتها بشأن الشكل والحجم (حوالي 1000 كلمة) وركزت على بصمتها النسائية وأسلوبها الخاص في قيادة الدبلوماسية الأميركية.
بأسلوب يزاوج بين التقشف والتكثيف من جهة، والعمق والنفَس الأدبي من جهة أخرى، أفردت أسبوعية الإيكونوميست البريطانية لمواد النعي مكانا قارّا في الصفحة الأخيرة، وفق ضوابط إخراجية وبصرية وتحريرية ثابتة.
وتتجه المجلة البريطانية أحيانا إلى كسر القواعد المتعارف عليها في هذا المجال؛ فقد نعت في صيف عام 2009 سمكة اسمها بنسون كانت الأشهر في إنجلترا ونفقت وعمرها 25 عامًا.
وفي الصحافة العربية، وتحديدا في الصحف العريقة (الأهرام المصرية، النهار اللبنانية..) ومواقعها الإلكترونية، لم يترسخ بعد فن النعي شكلا ومضمونا بالشكل المعمول به في كبريات الصحف العالمية.
والدارج أن تلك الصحف تتناول وفيات المشاهير من أهل السياسة والأعمال والرياضة والفنون بتغطيات متباينة باعتماد مختلف الأجناس الصحفية، إخبارا وتعليقا وتحليلا، ويتسع الأمر أحيانا إلى استقاء شهادات في حق الراحلين، والتوقف مليا عند محطات دالة أو مواقف خاصة في مسار الراحلين.
ويرى الأكاديمي المصري حسني محمد نصر في مقال عن الموضوع أن صحافة النعي "يمكن أن تمثل خطوة مهمة في اتجاه "أنسنة الصحافة"، وإعادة القراء إليها؛ إذ إن صحافة النعي الجيدة التي تمزج بين التاريخ وبين السيرة الذاتية وتثير مشاعر الحنين إلى الماضي يمكن أن تجذب عددا كبيرا من القراء".
وبخلاف "النعي" بصيغته الصحفية والتحريرية، تشترك معظم الصحف العربية مع نظيرتها في الغرب بنشر إعلانات الوفيات مقابل مبلغ مادي في إطار تجاري ربحي صرف.
وتفتح صحيفة الأهرام - على غرار صحف ومواقع عربية كثيرة - صفحاتها وموقعها الإلكتروني لمواد النعي من خلال وكيل إعلاني رسمي للجريدة يساعد المعنيين بالموضوع على نشر خبر نعي أو تعزية مقابل مصاريف معينة.
ويطرح تطور أخبار الوفيات من مواد ذات طابع إعلاني وتجاري صرف إلى مادة صحفية قائمة بذاتها السؤال الأكاديمي التالي: هل النعي فن صحفي أو نوع/جنس صحفي مكتمل الأركان على غرار باقي الأنواع/ الأجناس الأخرى من افتتاحية وتحقيق وروبرتاج وعمود ومقال، وبروفايل (صورة قلمية) وغيرها؟
في كتابه المرجعي بعنوان "الأجناس الصحفية - مفتاح الإعلام المهني" ، يصنف الأكاديمي المغربي عبد الوهاب الرامي إعلانات الوفيات إلى جانب إعلانات الولادات والزواج ضمن ما يسميه الأجناس غير الصحفية وتحديدا في مجال الإشهار والتسويق والترويج. ولم يشر الخبير الإعلامي المغربي بشكل واضح وصريح إلى "النعي" باعتباره جنسا قائما بذاته، ولم يصنفه حتى ضمن الأجناس غير الصحفية.
لكن النوع الأقرب إلى "النعي" ضمن الأجناس الصحفية المتعارف عليها مهنيا وأكاديميا هو البورتريه (صورة قلمية) بما يتطلبه من مهارات تتمثل - حسب نفس الكتاب - في "القدرة على التقاط الجزئيات الدالة وتعقب المسارات، وامتلاك أدوات القراءة النفسية والنفس-اجتماعية، والتمتّع بمؤهلات أسلوبية".
ويكمن الفارق بين البورتريه والنعي في أن الأول موضوعه شخص على قيد الحياة ويركز على الكثير من ملامحه وإنجازاته ومواقفه ومناطق الظل والضوء في حياته بما يتطلبه ذلك من وصف، وسرد وتركيب وتجميع. أما النعي فيكون التركيز فيه منصبا في الغالب على مناقب الراحل ومنجزه وما سيتركه من أثر مادي ومعنوي، سواء كان إيجابيا أو سلبيا.
ومن ناحية المضمون، يضع الأكاديمي المصري حسني محمد نصر مواد النعي ضمن "الصحافة الإنسانية التي تولي الإنسان اهتماما أكبر في حياته وعند وفاته".
ويعتقد محمد نصر في مقال عن الموضوع أن صحافة النعي "إذا قُدمت بشكل جيد وجاذب يمكن أن تسهم في عودة القراء إلى الصحافة بمنصاتها المختلفة"، داعيا الصحافة العربية إلى الاهتمام بأن تكون "أكثر إنسانية، عبر الاهتمام بصفحات نعي الموتى من المشاهير وغير المشاهير من أفراد المجتمع، وعدم تجاهل من رحلوا عن عالمنا".
قريبا من الأدب
وبتتبع مكانة مواد النعي في العديد من كبريات الصحف العالمية الناطقة بالإنجليزية والفرنسية وغيرها وبالنظر إلى التطور التحريري المتصل بالاهتمام بمواد النعي وما يحظى به الموضوع من عناية واهتمام في إطار هيكلة المؤسسات، يمكن القول إن "النعي" يتجه إلى أن يصبح شبه نوع/ جنس صحفي.
أما في حال إمعان النظر في أسلوب وصياغة ولغة وبناء بعض مواد النعي عندما تحمل توقيع صحفيين مخضرمين يتمتعون بتجربة كبيرة، لا يسع المهتم أو القارئ إلا أن يعتبر تلك "المقالات" نوعا صحفيا مستقلا له خصائصه الأسلوبية والتركيبية والسردية.
وإذا شئنا توسيع مجال المقارنة بين النعي وفنون أخرى من الكتابة والإبداع، فإن ما يتبادر للذهن هو أوجه التشابه الكثيرة بين النعي وفن السيرة الغيرية (biography) باعتبارها "مسار حياة" وفق التعريف الكلاسيكي للسيرة بمفهومها الأدبي.
ويجد هذا التشابه جزءا من صدقيته المهنية في كون الكثير من كتاب السير الغيرية هم في أحيان كثيرة صحفيون تخصصوا في مجالات معينة وأصبحوا مقربين بطريقة أو بأخرى من شخصيات متميزة في ذلك المجال وحولوا ذلك القرب إلى مدخل لكتابة سيرها بعد رحيلها أو قبل مماتها أحيانا.