منذ تصاعد حرب الإبادة على قطاع غزة في أكتوبر /تشرين الأول 2023، بدت التغطيات الإعلامية الغربية - ولا سيما في المؤسسات الصحفية الأمريكية الكبرى - متأرجحة بين مهنيّة ظاهرية وانحياز بنيوي للرواية الإسرائيلية؛ فقد كشفت المقارنة بين التغطيات الصحفية للاستهدافات الإسرائيلية في غزة وتغطيات الأحداث التي كانت إسرائيل فيها الطرف المستهدف عن نمط لغوي وتحريري منهجي يُعيد إنتاج صياغات منحازة، ويمنح إسرائيل قدرًا أكبر من التعاطف والمشروعية.
ولعل صحيفة واشنطن بوست تشكل المثال الأوضح على هذا الانحياز التحريري؛ إذ يظهر جليًّا كيف تتبدّل مفرداتها ومصطلحاتها التحريرية وفقًا لهوية الفاعل والضحية، فحين قصفت إسرائيل مستشفيات في غزة استخدمت الصحيفة عبارات محايدة أو مشككة، بينما استخدمتْ الصحيفةُ عند الحديث عن قصف إيران لمستشفى إسرائيلي لغة قاطعة ونبرة إدانة صريحة من دون أي تحفظ تحريري أو تدقيق لغوي. هذا التفاوت لا يُعد مجرد اختيارات لغوية عشوائية، بل هو عملية انتقاء تحريرية ولغوية واعية تعبر عن آليات التأطير الإعلامي التي تُوجّه الرأي العام وتصوغ مواقف الجمهور تجاه القضايا الدولية الحساسة خاصة حرب الإبادة الجماعية الجارية الآن.
لقد تجلى هذا التأطير التحريري على نحو أوضح في تعاطي جانب من وسائل الإعلام الغربية الكبرى مع خبر قصف إيران مستشفى "سوروكا" في مدينة بئر السبع المحتلة جنوب إسرائيل، في 19 يونيو/حزيران 2025، حيث سارعت إلى تسليط الضوء على الحدث باعتباره اعتداءً مباشرًا على مرفق مدني، واستخدمت في ذلك لغة إدانة صارمة؛ ففي التقرير الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست بعنوان "ضربة صاروخية إيرانية تستهدف مستشفى، وإسرائيل تهدد بالرد" ، وصفت فيه القصف الإيراني بأنه "ضربة مباشرة لمستشفى"، وأوردت على لسان مسؤولين إسرائيليين أن الهجوم يمثل "استهدافًا متعمدًا للمدنيين" و "خرقًا فاضحًا للقانون الدولي".
حين قصفت إسرائيل مستشفيات في غزة استخدمت واشنطن بوست عبارات محايدة أو مشككة، بينما استخدمتْ الصحيفةُ عند الحديث عن قصف إيران لمستشفى إسرائيلي لغة قاطعة ونبرة إدانة صريحة من دون أي تحفظ تحريري أو تدقيق لغوي.
كما أفاد التقرير أن الهجوم تسبب في "أضرار جسيمة" داخل قسم الجراحة، وأدى إلى إصابة ما لا يقلّ عن 80 شخصًا معظمهم إصابات طفيفة. واللافت في هذه التغطية أن الصحيفة وظفت لغة مباشرة وغير مترددة، مثل: "ضربة صاروخية" و"ضربة مباشرة للمستشفى"، دون أي تحفظات لغوية أو تحليلات تقنية، أو تأخير في نسب الفعل إلى إيران، وهو ما يوضح موقفا تحريريا حاسما في توصيف الحدث، وتحديد المسؤول حين تكون إسرائيل الجهة المستهدفة.
في المقابل، حين يتعلق الأمر بالقصف الإسرائيلي المتكرر على مستشفيات قطاع غزة فإن النبرة تتغيّر جذريًا، وتتبنى الصحيفة خطابا يوظف مصطلحات تحفّظية مثل "انفجار" و"أدلّة غير واضحة" و"لا يوجد دليل قاطع"، وهو ما يعكس ميلًا واضحًا نحو تأجيل الإدانة أو التشكيك في السياق، بدلًا من تسميته بدقة.
مثلا، وفق تحليل بصري نشرته واشنطن بوست حول "انفجار" مستشفى الأهلي بمدينة غزة في أكتوبر/ تشرين 2023، تبنت الصحيفة خطابا تحفظيا قائمًا على تحليل الأدلة الفنية ومقاطع الفيديو. ولم تتبنَ موقفا حاسما إزاء مسؤولية إسرائيل المباشرة، كما أورد التقرير أن "الأدلة البصرية لا تظهر بشكل قاطع أن مستشفى الأهلي قد أصيب بضربة جوية إسرائيلية"، مضيفا أن "الضرر لا يتطابق مع نمط القصف الجوي".
وعليه، فإن الفرق بين "ضربة صاروخية مباشرة على مستشفى مدني" في إسرائيل، و"انفجار قيد التحقيق" في غزة، ليس مجرد فارق في اللغة، بل في المنظومة التي تقرر من هو الضحية الجديرة بالتعاطف، ومن هو الإنسان الذي يستحق أن يُمنح كامل الوصف القانوني لما تعرّض له من قصف وتجويع وموت بطيء.
تأطير الضحية
في الرابع من يوليو/تموز 2025، نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا بعنوان: "مقتل طبيب في غزة جراء ضربة إسرائيلية يُفجع المجتمع الطبي . تناول التقرير استشهاد الطبيب الفلسطيني مروان السلطان في قصف جوي إسرائيلي؛ إذ اُستهدف منزله في بلدة جباليا شمال قطاع غزة. ورغم وصف الصحيفة للسلطان بأنه أحد الأطباء البارزين في غزة، إلا أنّ التغطية تجنّبت الإشارة إلى أن الضربة تمثل انتهاكًا مباشرًا للقانون الدولي الإنساني، أو أنها تُعد استهدافًا مباشرًا لمدنيين، بل على النقيض تماما، اتّسمت لغة التقرير بالتحفظ مستخدمةً عبارات مثل: "الجيش الإسرائيلي زعم أنه كان يستهدف عنصرًا من حماس" و "يتم الآن مراجعة الخسائر بين المدنيين".
هذا النمط من الصياغة يعيد إنتاج إطار خطابي يُشكّك مسبقًا في رواية الضحية، ويُحيل مسؤولية القتل إلى ما يسمى "سياقا عملياتيا معقّدا بينما يمنح الرواية العسكرية الإسرائيلية مساحة مريحة من التبرير، حتى في غياب دليل دامغ. أما عنوان التقرير الذي يركّز على "الصدمة في المجتمع الطبي" فيمثل محاولة واضحة من الصحيفة لتجنب توصيف الحادثة بصفتها جريمة محتملة، ويظهر بوضوح محاولة تفادي استخدام المصطلحات الحقوقية الواضحة كـ "استهداف طبيب مدني" أو "ضربة غير قانونية".
هذا النمط من الصياغة يعيد إنتاج إطار خطابي يُشكّك مسبقًا في رواية الضحية، ويُحيل مسؤولية القتل إلى ما يسمى "سياقا عملياتيا معقّدا بينما يمنح الرواية العسكرية الإسرائيلية مساحة مريحة من التبرير، حتى في غياب دليل دامغ.
وفي سياق آخر أكثر دلالة، نشرت واشنطن بوست، في مايو/أيار 2024، تحقيقًا موسّعًا بعنوان: "رسم خريطة الأضرار التي لحقت بمستشفيات غزة: متضررة، ومهجورة، ومداهمة"، يُظهر حجم الدمار الذي لحق بالبنية الصحية في قطاع غزة مشيرا إلى تضرر 32 من أصل 36 مستشفى، بعضها تعرّض لهجمات مباشرة، أو اقتحامات متكررة. ومع ذلك لم يستخدم التقرير توصيفات مثل "قصف ممنهج" أو "استهداف متعمد"، بل جاءت المفردات بصيغة حيادية مثل: "اقتحمت القوات الإسرائيليّة" و "منشآت علقت في تبادل إطلاق النار" و "مبانٍ تضررت في العمليّات العسكريّة"، وهذا يمثل بوضوح انحيازا لغويا يفرّغ الحدث من مضمونه القانوني، ويحوله إلى حالة "فوضى قتالية"، ويعيد تأطيره كأضرار جانبية في سياق معركة متكافئة.
أما في واقعة إطلاق النار على المدنيين عند نقطة توزيع المساعدات في شمال غزة – التي أكدت وزارة الصحة الفلسطينية أنها أسفرت عن مقتل 31 مدنيًا – فقد نشرت واشنطن بوست تقريرًا أوليًا نقل هذه المعطيات، لكنها سرعان ما تراجعت عنه وأعقبته بتقرير لاحق يُشير إلى أن "المقال الأصلي منح مصداقية زائدة لمزاعم لم يتم التحقق منها بالكامل".وقد نشرت الصحيفة اعتذارا عبر منصة إكس بدأته بعنوان: " التصحيح: لقد حذفنا المنشور أدناه لأنّه، إلى جانب النسخ الحديثة من المقال، لم يلتزم بمعايير الإنصاف المعتمدة في صحيفة واشنطن بوست." وتكشف إعادة التحرير هذه مدى تردد الصحيفة في اعتماد الرواية الفلسطينية، مع أن الأمر يتعلق بضحايا مدنيين وسياقات ميدانية موثقة ومتكررة، في مقابل جاهزيتها الدائمة إلى مراجعة السرد حين يتعارض مع الرواية الرسمية الإسرائيلية، أو حين لا تتوفر "أدلة تقنية" مستقلة.
في الحالة الفلسطينية، يفضي الامتناع عن استخدام توصيفات مثل "جريمة" و"استهداف المدنيين" و"ضربات غير قانونيّة" إلى إضعاف وزن الحدث أخلاقيًا وقانونيا ويبرر الفعل ويحيده ضمنيا بينما يؤدي استخدام ذات المفردات إلى تعزيز “الضحية الديمقراطية" في مواجهة "المعتدي الإرهابي" في الحالة الإسرائيلية.
كما يؤثر هذا الانحياز على استجابة الجمهور وردات فعله تجاه الحدث ويوجهها؛ فالمفردات الحاسمة قد تقود إلى استنفار الرأي العام والتعاطف والخروج في مسيرات غاضبة تطالب بمحاسبة الجناة وقد تدفع الحكومات إلى تغيير أو تعديل مواقفها، بينما تؤدي اللغة التحفظية الغامضة إلى تشويش السردية وتقليص حجم المسؤولية الأخلاقية والقانونية. من هنا تصبح الصحافة جزءًا من صناعة الوعي، ليس بوصفها ناقلة للحدث، بل بصفتها فاعلا مؤطرا له يتحكم في الطريقة التي يُفهم بها الحدث ويُحاسب من أجله أو يُعفى منه المتسبب به.
إن هذا النوع من الانحياز المهني لا يمكن فصله عن علاقة المؤسسات الإعلامية الكبرى – مثل واشنطن بوست – بمراكز النفوذ السياسي في الولايات المتحدة، حيث يُشكّل الإعلام امتدادًا ناعمًا للقرار السياسي، أكثر مما يُمثّل سلطة مستقلة تضع الحقيقة فوق الحسابات الجيوسياسية.
إن تحليل التغطيات الإعلامية لـواشنطن بوست خلال الحرب الإسرائيلية على غزة يكشف عن خلل جوهري يتجاوز التفاصيل التحريرية إلى بناء السردية الإعلامية ذاتها؛ فقد أظهرت التغطية مفارقة صارخة في اللغة المستخدمة بين استهداف إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين – خصوصًا في المستشفيات والملاجئ ومراكز توزيع المساعدات – وبين تغطية الصحيفة لاستهداف إيراني مماثل (أو أقل تدميرًا) لمرفق إسرائيلي كما في حالة مستشفى سوروكا. وفي غياب مراجعة نقدية لآليات العمل ستظل هذه المؤسسات تعيد نفس الخطاب.