في مسيرة العمل الصحفي يواجه العديد من الصحفيين لحظات فارقة؛ يدركون خلالها الطبيعة الحقيقية لدورهم في صناعة الأخبار. هل ينقلونها بصورتها الموضوعية أم ينجرون نحو تلوينها وتوجيهها بما يخدم أجندات معينة. لكن السؤال الجوهري الذي يجب طرحه: هل يدرك الصحفي أنه يمارس البروباغندا حين يكتب؟ أم أنه يتبناها دون وعي؟ وهل يمتلك حق الرفض حين يُطلب منه الانحياز؟ أم عليه أن يدفن "الضمير المهني" تحت سقف التوجيه التحريري وسياسات المؤسسة؟
في هذا العالم الإعلامي المعقد، لم يعد "الأخ الأكبر" يرتدي زيا عسكريا ولا يلوح بملصقاته الدعائية الكبيرة كما صوّرته رواية 1984 لجورج أورويل؛ بل أصبح حضوره أكثر "نعومة وخفاء"؛ إذ يتسلل إلى غرف التحرير عبر التمويل الموجه والتعليمات غير المعلنة، ذلك أن السيطرة ليست بحاجة إلى قمع مباشر كما في السابق، وباتت تمارس عبر ترتيب الحقائق وانتقاء الزوايا وإعادة صياغة العناوين بحيث تصنع نسخة مقبولة من "الحقيقة" تتوافق مع ما تريده المؤسسة، أو مع ما تسمح به السلطة.
بين "التوجيه" والضمير
هكذا وجد أحمد -الصحفي الذي يعمل في مؤسسة إعلامية عربية في الأردن- نفسه جزءا من هذا المشهد، بدأ عمله معتقدا أنه مجرد ناقل للأحداث، لكن بعد أحداث السابع من أكتوبر تغيّر كل شيء. أدرك أحمد أن بوصلة التغطية حادت عن الحقيقة لتتماهى مع مصالح المؤسسة وخطها السياسي.
يقول أحمد: "في البداية كنت أحرر الأخبار رغم أنني غير مقتنع بالمادة، لكن بعد فترة أدركت أن كل مادة تمر بمراجعة دقيقة تختلف حسب موقفها من القضية الفلسطينية. كانت هناك ضغوط واضحة علينا لتغيير صياغة الأخبار، وهذا الصراع بين ضميري المهني وواقع العمل جعلني أتساءل: هل أنا مجرد ناقل للحقائق أم مجرد بوق ينفذ ما يملى عليه؟"
يتسلل "الأخ الأكبر" إلى غرف التحرير عبر التمويل الموجه والتعليمات غير المعلنة، ذلك أن السيطرة ليست بحاجة إلى قمع مباشر كما في السابق، وباتت تمارس عبر ترتيب الحقائق وانتقاء الزوايا وإعادة صياغة العناوين بحيث تصنع نسخة مقبولة من "الحقيقة" تتوافق مع ما تريده المؤسسة، أو مع ما تسمح به السلطة.
تمثل تجربة منار (اسم مستعار) مواجهة جريئة مع هذه الصناعة الإعلامية؛ حيث طلب منها مدير التحرير تعديل تقريرها الصحفي ليخدم توجهًا معينًا يتعارض مع مضمون القصة الأصلية ويسيء لصورة بلدها أمام الرأي العام، لكنَّ منار رفضت الانصياع لتوجيهاته، وبعد ثلاثة أشهر تمكنت من نشره كما كتبته دون تغيير.
يرى أستاذ الإعلام والاتصال في جامعة العلوم التطبيقية الخاصة، صدام المشاقبة، أن وعي الصحفي بممارسته للبروباغندا يعتمد على خلفيته الثقافية والمهنية موضحاً أن الصحفيين المتمرسين غالباً ما يمتلكون القدرة على التمييز بين العمل الإعلامي المهني والدعاية السياسية الموجهة، كما يكونون على وعي بالأيديولوجيا السياسية التي تتبناها المؤسسة التي يعملون فيها "ولهذا يختار العديد منهم الانضمام إلى مؤسسات إعلامية تتوافق مع قناعاتهم الفكرية والسياسية". أما علي شمس الزينات، أستاذ الصحافة والإعلام الرقمي في جامعة اليرموك فيعتقد أن الصحفي صاحب الضمير المهني الواعي يصعب جداً أن يتحول إلى بوق دعائي، إلا إذا كان منطلقاً من قناعته الشخصية ويتوافق مع فكره واهتماماته، أما استغلال الصحفيين الآخرين غالبا ما يتم بموافقتهم الصريحة، أو نتيجة لطبيعة تكوينهم الشخصي. كما يحدث أحيانا - وفق الزينات - أن يتحول الصحفي بسبب ظروف العمل إلى آلة؛ بحيث يتعامل مع المواد الصحفية آليا دون وعي، وبالتالي يغفل الانتباه إلى الرسائل التي تمر عبرها، "وقد يقوم بصناعة البروباغندا ذاتيا، بحيث يمرر وينتج مواد تخدم البروباغندا بدافع الانتماء أو الدفاع عن قضية معينة يؤمن بها دون أن يدرك أنه يتسبب في التلاعب بالسردية مستندًا لهواه لا إلى الحقائق الفعلية".
في البداية كنت أحرر الأخبار رغم أنني غير مقتنع بالمادة، لكن بعد فترة أدركت أن كل مادة تمر بمراجعة دقيقة تختلف حسب موقفها من القضية الفلسطينية. كانت هناك ضغوط واضحة علينا لتغيير صياغة الأخبار، وهذا الصراع بين ضميري المهني وواقع العمل جعلني أتساءل: هل أنا مجرد ناقل للحقائق أم مجرد بوق ينفذ ما يملى عليه؟".
معركة في غرفة الأخبار
لم تتوقع مريم أن يتحول تقريرها إلى مبعث صراع داخل غرفة التحرير بعد إعداد تغطية صحفية دقيقة لقضية طلابية حساسة في إحدى الجامعات الأردنية، استندت فيها إلى مصادرها المباشرة وسردت الوقائع كما حدثت. لكنها فوجئت بتعليمات قاطعة: "نحن لا نتعامل مع هذا المصدر، أعيدي كتابة التقرير من منظور يدين مجموعة الطلبة".
لم يكن المطلوب مجرد تعديل بسيط، بل طمس متعمد للحقيقة التي جمعتها بنفسها، وبالتالي لم يكن الأمر مجرد قرار تحريري، بل اختبار عميق لمعنى أن تكون صحفياً. وقد قررت مريم ألا تكون طرفاً في هذا التلاعب، واختارت أن تخرج من المشهد بصمت. أغلقت الملف واعتذرت لمصادرها، لتطوى القصة وتُمحى من أجندة الأخبار.
تعكس قصة لينا التي كانت تعمل مع مؤسسة إعلامية عربية مستقلة بُعداً آخر لهذه المعركة التي جعلتها تصطدم بحقيقة معقدة؛ إذ اعتقدت أن العمل في إطار مؤسسة مستقلة سيضمن لها حرية تحريرية حقيقية بعيداً عن التوجهات الخفية. ولكنها اكتشفت أن هذه الاستقلالية الظاهرية تخفي توجيهاً ناعما يتحكم في زوايا التغطية ومصادر المعلومات دون أوامر مباشرة.
حدث هذا التحول الحاسم حينما أعدت تقريراً عن أحداث سياسية معقدة في بلد عربي لتُفاجأ بعد نشره بوابل من الانتقادات الحادة من زملاء كانوا يُنظّرون أمامها في مبادئ وأخلاقيات المهنة؛ فاتهموها بالانحياز إلى طرف على حساب آخر، وهو ما دفعها لإعادة التفكير في المؤسسة التي تنتمي إليها.
وفي تجربة أكثر حدة طُلب منها عدم استخدام وصف "شهداء" عند الحديث عن الفلسطينيين في الأخبار والاكتفاء بكلمة "قتلى". بالنسبة لها كان هذا خطاً أحمر لا يمكن تجازوه، واختارت الاستقالة بدلاً من أن تساوم على قناعاتها. لقد أدركت حينها أن كثيرا من الصحفيين قد ينصاعون للتوجيهات التحريرية تسليما بالأمر الواقع؛ لكنها لم تستطع أن تكون جزءاً من هذا الانصياع.
في هذا السياق، يوضح المشاقبة أن الرواية الإعلامية تُبنى ضمن هرم تأثير يبدأ بالنظام الاقتصادي ثم السياسي ثم المؤسسات الإعلامية، وأخيراً بالصحفيين. ويضيف " قد يظن الصحفي أنه يمارس حرية حقيقية؛ لكنه في الكثير من الأحيان يعيد إنتاج ما فرض عليه في إطار ما يسمى بـ "الوعي الزائف"، بينما يرى الزينات أن النظام السياسي -خاصة في الدول غير الديموقراطية- يظل اللاعب الأكبر في رسم الرواية الإعلامية من خلال التشريعات، والتمويل وأدوات الترغيب والترهيب.
ويعتقد أيضا أن السيطرة على الرواية الإعلامية لم يعد ممكنا كما في السابق؛ حيث قلبت المنصات الرقمية موازين المشهد وجعلت المواطن العادي جزءاً فاعلاً في صناعة وتوثيق الحدث. وقد برز هذا التحول جلياً في تغطية الحرب على غزة.
هل يقتل الصحفي ضميره المهني؟
في مهنة الصحافة يبدو الضمير المهني أحياناً كأنه عملة نادرة؛ يتآكل ببطء تحت ضغوط السوق والقيود السياسية وتعقيدات التمويل، لكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه: هل يفقد الصحفي ضميره فعلاً أم يبرر تنازلاته بدافع البقاء؟
تكشف تجارب العديد من الصحفيين أن "الانزلاق" نحو البروباغندا لا يكون دائماً قرارا واعيا بل استسلام متدرج تضيق فيه مساحات الاختيار.
"الصحفي صاحب الضمير المهني الواعي يصعب جداً أن يتحول إلى بوق دعائي، إلا إذا كان منطلقاً من قناعته الشخصية ويتوافق مع فكره واهتماماته، أما استغلال الصحفيين الآخرين غالبا ما يتم بموافقتهم الصريحة، أو نتيجة لطبيعة تكوينهم الشخصي. كما يحدث أحيانا أن يتحول الصحفي بسبب ظروف العمل إلى آلة؛ بحيث يتعامل مع المواد الصحفية آليا دون وعي.
ففي دراسة (1) نشرها "مركز رويترز لدراسة الصحافة" عام 2021 حول الضغوط الأخلاقية في غرف الأخبار في الشرق الأوسط، تبين أن الصحفيين يصطدمون يومياً بحدود تحريرية غير مرئية، وأن الضمير المهني يتآكل تدريجيا بصمت، ولا يحدث دفعة واحدة أو بقرارات مفاجئة.
وفي هذا السياق، يعلق المشاقبة بأن فقدان الضمير المهني ليس قدرا محتوماً حتى في أكثر البيئات تعقيداً؛ فالصحفي قد لا يتمكن دائماً من قول كل شيء لكنه يستطيع - ولو بهوامش ضيقة - أن يتجنب كتابة ما يحرف الحقيقة، "لأن المسؤولية الأخلاقية للصحفي تبدأ من وعي الصحفي بأنه ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل شريك في صناعة الرواية، وعليه أن يتساءل باستمرار من المستفيد مما أكتب؟"
ومن وجهة نظر الزينات فإن البيئة الإعلامية بما تحمله من قيود قانونية وضغوط اقتصادية وخطوط تحريرية قد تؤثر على عمل الصحفي لكنها لا تسلبه ضميره إذا كان مؤمناً برسالة الصحافة مضيفاً أنّ: "الصحفي الحقيقي قد يتراجع تكتيكياً لكنه لا يتحول لبوق دعائي. ومن يفقد ضميره ليس دائماً ضحية، بل قد يكون شريكاً صامتاً أو مُبرراً بارعاً".
لقد تحول الإعلام إلى أداة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي في عالم يفترض أن يكون فيه الإعلام نافذة على الحقيقة؛ فالمسألة لا تتعلق بنقل الحقائق أو تزييفها، بل بكيفية التحكم بالخطاب الإعلامي من خلال شبكة معقدة من النفوذ السياسي والاقتصادي والتشريعات التي تضبط مساراته وتحدد مساحاته.
لكن الأخطر - كما يرى الزينات - ليس في التحكم الصريح بالمحتوى، بل في التوجيه الناعم الذي يصرف أنظار الجمهور إلى قضايا هامشية، ويضخمها ويعيد ترتيب زوايا التغطية بما يخدم مصالح السلطة. وبهذه الطريقة يُقدَّم المحتوى على أنه الحقيقة الوحيدة المتاحة، وهنا قد يتحول الصحفي غير الواعي لتابع لهذه المنظومة دون أن يشعر؛ فيسهم بنفسه في تضليل الجمهور وإعادة تشكيل وعيه.
لم يعد الإعلام اليوم يفرض الروايات بالقوة بل يصنعها بدهاء عبر بناء الثقة وانتقاء ما يُقال وما يُخفى. وهنا تصبح يقظة الصحفي وقدرته على التفكير النقدي خط الدفاع الأخير في مواجهة صناعة وعي زائف. ورغم كل القيود تظل الصحافة قادرة على كشف الحقيقة لمن يمتلك شجاعة السؤال وجرأة الشك.
المراجع:
1)Cherubini, F., Newman, N., & Nielsen, R. K. (2021). Changing Newsrooms 2021: Hybrid working and improving diversity remain twin challenges for publishers. Reuters Institute for the Study of Journalism.https://reutersinstitute.politics.ox.ac.uk/sites/default/files/2021-11/Cherubini_et_al_Changing_Newsrooms_2021.pdf
ملاحظة المحرر: الأسماء المستعارة الواردة في المقال خضعت لمراجعة تحريرية دقيقة للتثبت من صدقيتها وقد جرى الاتفاق مع الكاتبة على إخفاء الأسماء حفاظا على السرية.