منذ السابع من أكتوبر 2023، تعيش غزة حرب إبادة جماعية غير مسبوقة تجاوز تدمير البيوت والبنية التحتية ليستهدف الشهود على الجريمة: الصحفيّين. لقد واجه الصحفيون الفلسطينيون قتلًا ميدانيًا اقترن بحملات تشويه وتحريض مُنسّقة جرّدتهم من أي حصانة مهنية أو إنسانية. وقادت هذه الحملات مؤسسات أمنية وإعلامية إسرائيلية تتقن صناعة السرديات المُوجّهة التي خلقت حربًا ناعمة على مواقع التواصل تمهيدًا للحرب الخشنة.
ومع مرور الشهور، بدأت أنماط الاستهداف تكشف عن نفسها؛ أسماء بعينها تُوضع تحت مجهر التشويه، ومزاعم تُضخ في الفضاء الإعلامي حتى تتحول إلى خطاب سائد يسبق الصاروخ. وبذلك تحوّل التحريض في مرحلة أولى من عملية اغتيال علنية تبدأ بعمل استخباري وحملة دعائية، وتنتهي بضربة عسكرية تُنفَّذ بدقة ضد الهدف الصحفي. يبرز اغتيال الصحفي أنس الشريف والفريق المرافق له وكذلك اغتيال الصحفي حسن إصليح من بين عشرات الأمثلة لتُجسّد هذا النمط من استهداف الصحفيين.
من التحريض إلى الاغتيال
تشير القراءات الميدانية والمراجعات التحليلية للنشاط الإعلامي والأمني الإسرائيلي تجاه الصحفيين الفلسطينيين إلى أنّ استهدافهم في قطاع غزة لا يتم عرَضيًا أو بقرار ميداني منفصل، بل يندرج ضمن ممارسات منظمة تجمع بين الأبعاد الإعلامية والأمنية والعسكرية في بيئة صراع معقدة. وهو نمط أقرب إلى عملية مركّبة تتداخل فيها الاعتبارات الدعائية مع الحسابات العملياتية؛ إذ يهيأ الرأي العام لقبول استهداف الصحفيين.
مع مرور الشهور، بدأت أنماط الاستهداف تكشف عن نفسها؛ أسماء بعينها تُوضع تحت مجهر التشويه، ومزاعم تُضخ في الفضاء الإعلامي حتى تتحول إلى خطاب سائد يسبق الصاروخ. وبذلك تحوّل التحريض في مرحلة أولى من عملية اغتيال علنية تبدأ بعمل استخباري وحملة دعائية، وتنتهي بضربة عسكرية تُنفَّذ بدقة ضد الهدف الصحفي.
وتتسم حملات التحريض ضد بعض الصحفيين بطابع ممنهج يُعاد فيه إنتاج صور ومقاطع من أرشيفهم المهني، وتُقدّم بعدّة لغات في سياق اتهاميّ يربطهم بأنشطة سياسية أو عسكرية مصنّفة في الخطاب الإسرائيلي ضمن دائرة "التهديد". وتضطلع بهذه الأدوار جهات مرتبطة بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية من بينها منظمات ضغط إعلامي مثل Honest Reporting وCAMERA، إضافة لمراكز بحثية استخباراتية مثل مركز أرشيف الاستخبارات الإسرائيلي المعروف بمركز "مئير عميت".
من خلال هذا النمط، يُعاد تشكيل صورة الصحفي الفلسطيني في الوعي العام بتجريده من صفته المدنية والمهنية الصحفية؛ لإضعاف الحماية التي يكفلها له القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977.
هذه الحملات تسير بالتوازي مع الاستهداف الميداني أو تسبقه بقليل، وهو ما يثير تساؤلات حول العلاقة السببية بين التمهيد الإعلامي واتخاذ القرار العسكري. فحين يُستهدف صحفي بغزة يكون الرأي العام غالبًا قد تلقّى مسبقًا سردية اتهامية ضده؛ لجعل اغتياله خبرًا غير صادم ولا يستدعي التدقيق والمساءلة.
هذا التداخل بين الإعلام التحريضي والقرار العسكري هو انعكاس لبنية عملياتية متكاملة توظّف الإعلام أداةً مساندةً في العمليات الحربية، وتمنح عمليات الاستهداف غطاءً دعائيًا وقانونيًا. وبهذا المعنى، يتحوّل الصحفي من حامل لصفة الحماية المدنية إلى هدف مشروع في نظر المنظومة الإسرائيلية ضمن بيئة صراع حيث الكلمة والصورة يكشفان وجه الجريمة الإسرائيلية وبشاعتها.
تتسم حملات التحريض ضد بعض الصحفيين بطابع ممنهج يُعاد فيه إنتاج صور ومقاطع من أرشيفهم المهني، وتُقدّم بعدّة لغات في سياق اتهاميّ يربطهم بأنشطة سياسية أو عسكرية مصنّفة في الخطاب الإسرائيلي ضمن دائرة "التهديد".
"خلية إضفاء الشرعية"
تشير إفادة الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أفراهام على منصة إكس التي أدلى بها عقب اغتيال أنس الشريف مراسل قناة الجزيرة في غزة إلى معطيات شديدة الأهمية تكشف جانبًا خفيًا في البنية المؤسسية للتحريض الإسرائيلي على الصحفيين الفلسطينيين؛ فبحسب أفراهام أقدمت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" في أعقاب 7 أكتوبر على إنشاء فريق خاص باسم "خلية إضفاء الشرعية". هذه التسمية تعكس بوضوح الوظيفة الموكلة لهذه الوحدة: إنتاج وتوفير مواد دعائية ومعلوماتية وتوظيفها لإضفاء غطاء "قانوني" أو "أخلاقي" على أفعال الجيش الإسرائيلي في غزة بما في ذلك استهداف الصحفيين.
تشكّلت الخلية من عناصر استخبارات ذوي خبرة في تحليل المعلومات الميدانية، ورصد النشاط الرقمي، واستثمار المعطيات المفتوحة المصدر لخدمة الهدف السياسي والعسكري. ومن مهامها المركزية - وفق أفراهام - البحث النشط والمكثف عن أي صحفي فلسطيني يمكن تقديمه أمام الإعلام الإسرائيلي والدولي على أنه عضو في حركة حماس واتهامه بأنه يعمل بغطاء العمل الصحفي. شمل هذا البحث فحصًا دقيقًا للأرشيف المصور والتغطيات السابقة؛ لاستخدامها أدلةَ اتهامٍ حتى وإن كانت في أصلها مرتبطة بأنشطة مهنية بحتة.
وبحسب أفراهام، استمر هذا البحث لأيام وبُذِلت فيه جهود كبيرة، لكن النتيجة كانت صفرية؛ لم تتمكن الخلية من العثور على حالة موثقة واحدة تدعم السردية المطلوبة. ومع ذلك، فإن مجرد تشكيل الخلية وطبيعة مهامها يوضحان منطق هذه المقاربة؛ إذ يكفي العثور على حالة واحدة فقط لصحفي يمكن ربطه تنظيميًا بالمقاومة لكي يُعمَّم هذا المثال على عموم صحفيي غزة. وهو منطق قائم على القياس التعميمي الذي تستند إليه الدعاية الإسرائيلية في ملفات أخرى مثل أن يُستخدم مستشفى واحد يُزعم أنه يحتوي على مقر للمقاومة لتبرير استهداف البنية الصحية بأكملها.
يؤكد أفراهام أن الغاية النهائية من هذا العمل ليست إثبات حالات فردية بقدر ما هي زرع الشك المسبق في الوعي العام لدى الجميع عالمياً بمن فيهم المتضامنين مع الشعب الفلسطيني حول الصحفي الفلسطيني في غزة، وهو ما يقلل من الحماية السياسية والقانونية الممنوحة له، ويجعل من السهل تسويق خبر مقتله ضمن رواية جاهزة، بدل التعامل معه بصفته جريمةً تستوجب التحقيق والمساءلة. هذا النهج - في نظره - كان حاضرًا بوضوح في اغتيال أنس الشريف؛ إذ اعترف الجيش الإسرائيلي صراحة بأنه استهدفه بعينه. وأثار أفراهام تساؤلاً حول التوقيت؛ عشية التوجه لاحتلال مدينة غزة، والإجابة - كما يرى - هي أن قتله الآن يأتي لإضعاف التغطية الإعلامية المستقلة في لحظة عسكرية حرجة.
أقدمت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" في أعقاب 7 أكتوبر على إنشاء فريق خاص باسم "خلية إضفاء الشرعية". هذه التسمية تعكس بوضوح الوظيفة الموكلة لهذه الوحدة: إنتاج وتوفير مواد دعائية ومعلوماتية وتوظيفها لإضفاء غطاء "قانوني" أو "أخلاقي" على أفعال الجيش الإسرائيلي في غزة بما في ذلك استهداف الصحفيين.
إن "خلية الشرعية" تمثل الذراع المؤسسي الذي يربط بين النشاط الاستخباراتي والوحدات الإعلامية داخل الجيش الإسرائيلي. وهي تمرر مخرجاتها إلى الناطق باسم الجيش الإسرائيلي وتنسّق مع وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تُعيد صياغتها وتُروّجها محليًا ودوليًا. بهذه الطريقة يكون الاغتيال حلقة في سلسلة دعائية تبدأ قبل التنفيذ بتهيئة الجمهور، وترافق العملية بإطار تبريري، وتستمر بعدها لتبرئة الفعل وتقديمه فعلا مشروعا أو دفاعيا.
خيمة الصحافة: من حسن اصليح إلى أنس الشريف
في 7 أبريل/ نيسان 2025، تعرّض الصحفي الفلسطيني حسن اصليح أحد أبرز المراسلين الميدانيين في قطاع غزة لإصابة بالغة إثر قصف إسرائيلي استهدف خيمة للصحفيين قرب مستشفى ناصر في مدينة خان يونس. أسفر الهجوم عن مقتل 3 صحفيين وإصابة اصليح بجروح خطيرة، نُقل على إثرها إلى قسم الحروق في المستشفى ذاته. كان من المفترض أن يشكل سرير العلاج ملاذًا آمنًا وفق قواعد القانون الدولي الإنساني، لكن الجيش الإسرائيلي نفّذ غارة جوية ثانية، في 13 مايو/ أيار 2025، استهدفت قسم الحروق مباشرة، أدت إلى استشهاد اصليح على الفور.
هذه العملية المزدوجة لا يمكن فصلها عن الحملة التحريضية التي استهدفت اصليح قبلها بأشهر، ومنها حملة واسعة أطلقتها منظمة Honest Reporting في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. وتقارير أخرى نشرها مركز مئير عميت. ثم تحريض لاحق نشرته منظمة CAMERA بعد استشهاده مباشرة ادّعت أن اصليح "عنصر في حماس" لتبرير اغتياله.
خلال هذه الفترة، انعكس التحريض الرقمي على حياة اصليح العملية والشخصية؛ إذ تلقى تهديدات علنية بالقتل عبر منصة "إكس"، بعضها من حسابات مرتبطة بعسكريين إسرائيليين من وحدة "نيتساح يهودا". هذه التهديدات - مقترنةً بتخلي بعض المؤسسات الإعلامية الدولية التي كان يتعاون معها مثل أسوشيتد برس وسي إن إن عن العمل معه تحت ضغط الخطاب التحريضي - أسهمت في عزله ميدانيًا وجعله أكثر عرضة للاستهداف.
"في بداية الحدث كنت في بيتي بخان يونس...، الحدث بدأ تقريبًا وأنا نائم. تفاجأت من كثافة إطلاق الصواريخ فوق بيتي، وصوّرت فيديوهات من سطح المنزل وبعثتها إلى وكالة أسوشيتد برس الأمريكية التي تواصلت معي. لم أكن أعلم حينها ما الذي يجري على الحدود".
قال حسن في تسجيل صوتي موثّق أرسله للصحفي محمد عثمان، يروي فيه بدقة تسلسل تحركاته في ذلك اليوم. بدأ بتوثيق المشهد من على سطح منزله ثم سلّم مقاطع أولى لوكالة الأنباء. لم يكن يعرف بعد ماذا يحدث فغادر منزله وركب سيارة إلى أحد الأبراج المرتفعة وسط خانيونس، ومن هناك رصد المشهد الأوّلي لإطلاق الصواريخ. وبحسب حسن بدأت الصور تظهر بعد الثامنة مؤكدًا أنه لم يكن موجودًا في محيط الحدث قبل الثامنة والنصف صباحًا.
هذه النقطة وحدها تنسف المزاعم الإسرائيلية التي اعتمدت على مقطع فيديو يُظهر اصليح يحمل قنبلة يدوية صباح السابع من أكتوبر، بدون أن تقدّم دليلًا مباشرًا أو حتى تحديد توقيت ومكان الظهور.
يضيف اصليح: "أنا غطيت الحدث كصحفي مؤثّر عندي متابعين ووكالات دولية ومحلية بتاخد مني فيديوهات" مشيرًا إلى أن معدات الحماية الصحفية كانت لا تزال في مكتبه بمدينة غزة ولم يكن يرتدي سترة واقية لأنه لم يكن يعلم أن ما يجري هو إعلان لحرب شاملة.
إحدى صور التحريض الأساسية ضده كانت تجمعه برئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، التُقطت عام 2020 خلال لقاء جمع السنوار بصحفيين محليين، وهي ممارسة صحفية معتادة في القطاع لكن حملات التضليل حرّفت السياق وقدّمت الصورة دليلا على "الولاء التنظيمي".
في ختام شهادته، لفت حسن إلى المفارقة في السماح لصحفيين إسرائيليين بدخول غزة لتغطية التوغّل البري، بينما يُمنع الصحفي الفلسطيني من توثيق الحدث على أرضه: "ليش مكتوب علينا ما نغطيش، وهم مكتوب عليهم يغطوا؟"
وتابع في رسالته:
"الصور الأولى من الحدود بدأت بالظهور بعد ساعة ونصف تقريبًا من بداية الحدث، أي حوالي الساعة 8:00 صباحًا، وأنا كنت لا أزال موجودا في خانيونس بعيدًا تمامًا عن الحدود، لم أتحرك لتغطية ما يجري هناك إلا في وقت لاحق كما فعل صحفيون آخرون".
تُظهر الخريطة المرفقة المسافة الفاصلة بين برج الفرا الواقع في قلب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة وبين أقرب نقطة على الحدود الشرقية للقطاع، وهي المسافة التي تقطعها السيارة خلال ما لا يقل عن 33 دقيقة وتمتد لحوالي 19 كيلومترًا، ويكتسب هذا المعطى الجغرافي أهمية حاسمة عند مقارنته بشهادة الصحفي الشهيد حسن اصليح الذي أكّد بصوته أنه ظل متواجدًا في خان يونس حتى الساعة الثامنة والنصف صباحًا يوم السابع من أكتوبر أي بعد مرور نحو ساعة ونصف على بدء الهجوم. نحن لسنا هنا بصدد تبديد الجهد البحثي في نفي السردية الإسرائيلية من منطق أنها تتعمد ذلك، لكن يتبين أن الادعاءات التي استندت إلى صورة مفترضة أو فيديو قيل إنه يظهر فيه اصليح وهو يحمل قنبلة لا تستقيم منطقيًا ولا جغرافيًا؛ لأن وجوده في ذلك التوقيت كان مثبتًا في مكان بعيد كليًا عن الحدود، وهو ما يجعل هذه المزاعم أقرب إلى فبركات ممنهجة ضمن حملة تحريض واسعة النطاق، الغرض منها تسويغ استهدافه لاحقًا واغتياله، وهو ما حدث بالفعل حين قصف الاحتلال سريره في مستشفى ناصر بعد إصابته، وهذه القراءة الجغرافية التي تربط بين الزمان والمكان تشكل دليلًا استقصائيًا يُسهم في تفكيك الرواية الرسمية التي استُخدمت لتبرير الجريمة.
هذه الشهادة تُفنّد بشكل قاطع الادعاءات التي روّجت لها تقارير التحريض التي زعمت أن اصليح كان جزءًا من العملية أو على علم مسبق بها، بل تُظهِر أنه - كأي صحفي محترف - تفاعل مع الحدث في حينه واستجاب له ميدانيًا عبر التوثيق والنقل ضمن المعايير المتّبعة في التغطية الصحفية لحالات التصعيد العسكري.
الأخطر من ذلك، أن هذه الشهادة لم تُؤخذ بعين الاعتبار من قبل الجهات المحرضة على اصليح لا إعلاميًا ولا سياسيًا. لقد تم تجاهل صوته الحيّ، فقط من أجل فرض رواية مسبقة تُهيّئ الرأي العام الدولي لتقبّل اغتياله لاحقًا بوصفه "تصرفًا مشروعًا".
أهمية حالة اصليح تكمن في وضوح تسلسلها الزمني؛ حيث سبقت التحريضات العلنية عملية الاستهداف الميداني بمدة كافية، وانتقلت المزاعم من منصات رقمية إلى وسائل إعلام عبرية ودولية، وأثرت على مكانته المهنية وعلاقاته المؤسسية قبل أن تنتهي بعملية عسكرية أولى بإصابته، وأخرى لاحقة بتصفيته داخل المستشفى. هذا التسلسل يقدم مثالًا صارخًا على ما يمكن اعتباره سلسلة مترابطة تبدأ في المجال المعلوماتي وتنتهي بقرار عملياتي، وهو ما يعكس بدرجة كبيرة المنهج الذي تسعى آليات مثل "خلية إضفاء الشرعية" إلى ترسيخه؛ حيث تُستثمر حالة فردية لصياغة خطاب عام يطعن في مشروعية العمل الصحفي الفلسطيني برمته.
في ضوء القانون الدولي الإنساني، لا يمثل اغتيال اصليح مجرد خرق لالتزامات حماية الصحفيين بل انتهاكًا مزدوجًا؛ إذ جمع بين استهداف شخص يتمتع بالحماية المدنية واستهداف منشأة طبية، وكلاهما مصنف ضمن جرائم الحرب وفق المادة 8 من نظام روما الأساسي. كما أن الحملة التحريضية السابقة تشكل في حد ذاتها - وفق المعايير القانونية الدولية - تحريضًا على العنف ضد أشخاص محميين.
حملات منسقة
رغم هشاشة الأدلة، إلا أن الحملات التحريضية وجدت لها صدى في مؤسسات إعلامية دولية؛ إذ أعلنت وكالتا "أسوشيتد برس" و"سي إن إن" قطع علاقتهما باصليح عقب تقرير "Honest Reporting"، وهو ما اعتبرته المنظمة "إنجازًا" ضمنيًا في بيان لها.
في خضم العاصفة التحريضية التي فجّرتها "Honest Reporting" التي وصلت إلى 21 تقريراً تحريضياً ضد الصحفيين الفلسطينيين بغزة وَرَدَ فيها جميعا اسم الصحفي حسن اصليح، أصدرت "أسوشيتد برس" بيانًا يوم الخميس 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 تحاول فيه درء الشبهات عن نفسها بعد اتهامها بالتواطؤ أو التنسيق المسبق مع صحفيين مستقلين في غزة - ومن بينهم اصليح - في تغطية أحداث 7 أكتوبر. جاء في البيان أن الوكالة "لم تكن على علم بهجمات 7 أكتوبر قبل وقوعها" وأن "الصور الأولى التي تلقتها من أي صحفي مستقل جرى التقاطها بعد أكثر من ساعة من بدء الهجمات".
البيان - رغم نبرته الدفاعية - لم يحمل تضامنًا حقيقيًا مع الصحفيين الذين طالتهم الحملة بل اختارت الوكالة أن تُعلن صراحة أنها "لم تعد تعمل مع حسن اصليح". بهذه العبارة المقتضبة تخلّت الوكالة عن أحد أبرز المصورين الذين ساهموا في تغطية حروب غزة المتعاقبة، وأطلقت إشارة ضمنية إلى أن إنهاء التعاون هذا يأتي تحت ضغط الخطاب التحريضي وليس بدافع مهني.
المفارقة أن بيان "أسوشيتد برس" ذاته فنّد ادعاءات " Honest Reporting" من حيث توقيت تلقي الصور، وهو ما يتوافق مع التسجيل الصوتي لحسن اصليح. ورغم ذلك، اختارت الوكالة أن تتخلى عنه دون أدنى إشارة إلى حقه في الرد أو إلى الخلفية المهنية الطويلة التي خدم بها وكالات دولية عديدة مراسلا ومصوّرا صحفيا ميدانيا. يعكس البيان موقفًا أخلاقيا مأزوما للوكالة الأمريكية، فمن خلال محاولتها الموازنة بين الضغوط الإسرائيلية وعملها الصحفي وقعت في فخ التساوق مع السردية الإسرائيلية عبر التخلي عن الدفاع المهني عن أحد الصحفيين المتعاونين معها.
أهمية حالة اصليح تكمن في وضوح تسلسلها الزمني؛ حيث سبقت التحريضات العلنية عملية الاستهداف الميداني بمدة كافية، وانتقلت المزاعم من منصات رقمية إلى وسائل إعلام عبرية ودولية، وأثرت على مكانته المهنية وعلاقاته المؤسسية قبل أن تنتهي بعملية عسكرية أولى بإصابته، وأخرى لاحقة بتصفيته داخل المستشفى.
الصحفيون الإسرائيليون واجهةً للجيش
تظهر شواهد ميدانية وإعلامية متكررة أن قطاعات واسعة من الصحافة الإسرائيلية لا تقف على مسافة من المؤسسة العسكرية، بل تعمل ضمن منطق "الجبهة الواحدة" حيث يذوب الخط الفاصل بين الصحفي والجندي ليعملا معا في خندق واحد. من أبرز الأمثلة على ذلك واقعة الصحفي الإسرائيلي داني كوشمارو المراسل البارز في القناة 12 الذي شارك بصورة مباشرة في مرافقة قوة من الجيش الإسرائيلي خلال عملية ميدانية في جنوب لبنان انتهت بتفجير منزل مستهدف. ظهوره في قلب الحدث بصفته جزءًا من التشكيل الميداني المهاجم لم يكن مجرد تغطية إعلامية بالمعنى التقليدي، بل مشاركة عملياتية تنسجم مع أهداف الجيش الإسرائيلي وتخضع لروايته وإملاءاته، وهو ما يجعل الصحافة الإسرائيلية في هذه الحالة امتدادًا عضويًا للأذرع العسكرية وليست مراقبًا مستقلًا.
هذا النمط من التداخل المهني – العسكري يكتسب دلالة خاصة عند مقارنته بحالة الصحفيين الفلسطينيين الذين يزاولون عملهم الميداني في ظروف مشابهة، لكنهم يتحولون إلى أهداف للتصفية الجسدية تحت مبررات أمنية ملفقة؛ ففي حالة حسن اصليح أعقب اغتيالَه مباشرةً نشرُ منظمة CAMERA الإسرائيلية تقريرًا تحريضيًا بعنوان: Press Advisory: ‘Journalist’ Hassan Eslaiah Was A Hamas Operative Who Celebrated Terror، أعادت فيه تدوير مزاعم قديمة – بعضها يعود لعام 2018 – بهدف نزع صفته المهنية وتثبيت سردية أن قتله لم يكن جريمة بل إجراء أمني مبرَّر. استخدمت المنظمة صورًا له من مناسبات علنية مع شخصيات من حماس، وقدّمتها أدلةً على "ارتباط عضوي" كما استندت إلى تقارير إعلامية إسرائيلية تزعم مشاركته في اقتحام 7 أكتوبر، رغم ثبوت عدم مغادرته خانيونس في ذلك التوقيت وفق تسجيلات موثقة.
وبالمثل، فإن التحريض لم يتوقف على الصحفي أنس الشريف حتى بعد استشهاده؛ إذ نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي مزاعم تفيد بأنه "عسكري في حماس"، لتتماهى معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية مع هذه الرواية دون تقديم أي دليل ملموس، في استمرار لآلية التشويه بعد القتل.
ولا يقتصر هذا النمط على البيئة الإسرائيلية الداخلية، بل يمتد إلى كبرى وسائل الإعلام الغربية التي تعجّ بصحفيين إسرائيليين خدموا بأنفسهم في الجيش أو في أجهزته الاستخباراتية، ويشغلون مواقع مؤثرة في صياغة الرواية الإخبارية المتعلقة بفلسطين وإسرائيل.
وفقًا لتحقيق نشره موقع MintPress News، تضم هذه القائمة مجموعة واسعة من الصحفيين المؤثرين في الإعلام الغربي، وعلى رأسهم الصحفي الشهير باراك رافيد وهو محلّل سابق في وحدة الاستخبارات 8200 وجندي احتياط حتى 2023، يشغل منصب مراسل سياسي في الولايات المتحدة وكاتبا في "أكسيوس"، ويعتمد على مصادر إسرائيلية وأمريكية مجهولة لتلميع صورة الاحتلال، وكذلك شاكار بيليد وهي ضابطة سابقة في الوحدة 8200 ومحللة في الشاباك، عملت منتجة وكاتبة في سي أن أن لبرامج فريد زكريا وكريستيان أمانبور. ومنهم تال هنريش وهي مجندة سابقة في الوحدة 8200 ومنتجة ميدانية ومراسلة سابقة في القدس للـ سي أن أن أيضا، وتشغل حاليًا منصب المتحدثة باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي. كذلك تامار ميكايليس وهي متحدثة سابقة باسم الجيش الإسرائيلي وتعمل الآن في نفس المؤسسة. آنات شوارتز وهي ضابطة سابقة في المخابرات الجوية الإسرائيلية انضمت إلى نيويورك تايمز وساهمت في تقرير مثير للجدل حول غزة فَقَدَ مصداقيته. جيفري غولدبرغ رئيس تحرير "ذا أتلانتيك" وجندي سابق في الجيش الإسرائيلي. وأخيرًا ديفيد بروكس كاتب رأي في نيويورك تايمز وابنه يخدم في الجيش الإسرائيلي.
إن تداخل هذه الخلفيات العسكرية والاستخباراتية مع العمل الصحفي في مؤسسات إعلامية دولية كبرى يُنتج بيئة منحازة بطبيعتها لصالح الرواية الإسرائيلية، ويُضعف القدرة على إنتاج تغطية مستقلة أو نقدية، وهو ما يعزز من هيمنة خطاب الاحتلال على منصات إعلامية يفترض أنها عالمية ومحايدة.
تكشف هذه المعطيات أن العلاقة بين قطاعات واسعة من الإعلام الإسرائيلي والمؤسسة العسكرية ليست علاقة رقابة أو مسافة مهنية، بل اندماج وظيفي يجعل من الصحفي جزءًا من منظومة الحرب يروّج روايتها ويمنحها غطاءً شرعيًا. وفي المقابل، يُجرَّد الصحفي الفلسطيني من حمايته المهنية ويُستهدف جسديًا ورمزيًا عبر حملات تشويه وتحريض تمتد حتى بعد اغتياله، في مسعى لتبرير الجريمة بأثر رجعي. ولا يقف هذا النمط عند حدود إسرائيل بل يتسرب إلى كبريات غرف الأخبار الغربية التي تضم في صفوفها صحفيين بخلفيات عسكرية واستخباراتية إسرائيلية، وهو ما يضمن انحياز السرد الإعلامي لصالح الاحتلال ويقوّض أي إمكانية لتغطية مستقلة أو نقدية حول الشعب الفلسطيني، خاصة حول من هم تحت سيناريوهات الإبادة والتهجير في غزة.