"هذا التحسن يعدّ مؤشرا رمزيا أكثر منه هيكليا"
هذا ما علق به الصحفي والباحث في مجال الإعلام عاطف الأطرش حول تقرير تحسّن مؤشر حرية الصحافة في ليبيا. فلم يكن صعود ليبيا من المرتبة 143 إلى 137 في تصنيف مراسلون بلا حدود لعام 2025 خبرا عابرا في الوسط الإعلامي؛ لأن البلد الذي عاش أكثر من عقد في ظل إعلام منقسم ومسيّس يعمل داخل فراغ تشريعي، يبدو وكأنه يرسل إشارة خافتة تقول إن بيئة العنف المباشر ضد الصحفيين تراجعت قليلًا، أو على الأقل لم تعد بالحدة نفسها التي عرفتها سنوات الحرب. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يعكس هذا التقدّم تحسّنا بنيويا في حرية الصحافة، أم أنه مجرّد تحسّن إحصائي يحدث بينما المشهد الإعلامي ما يزال يتحرك في فضاء من الفوضى والانقسام؟
يقول الأطرش: "يمكن القول بأن هذا الارتفاع يعكس بعض الانفتاح النسبي في المشهد الإعلامي، لكنه لا يشير إلى تحول جذري؛ فما تزال البيئة الصحفية تعاني من الانقسام السياسي وغياب التشريعات الضامنة لحرية التعبير، وكذلك استمرار الضغوط الأمنية والرقابة غير الرسمية، ويعتمد استمراره على استقرار الأوضاع السياسية وتفعيل مؤسسات تحمي الصحفيين وتدعم الإعلام المستقل".
تحسّن وجمود
قراءة الأرقام قد تكون مغرية في الوهلة الأولى: ستّ درجات إلى الأمام تعني أن ليبيا باتت أقل سوء في نظر المؤشرات الدولية، لكن القراءة الأعمق تكشف أن البلاد ما تزال في "الثلث الأدنى" عالميًا، وأن التحسّن جاء في ظل استمرار العوامل نفسها التي عطّلت بناء إعلام مهني منذ 2011؛ أي استمرار الانقسام السياسي بين حكومتين، وتعدّد مراكز الإشراف الإعلامي، وغياب قانون حديث منظم للمهنة، واعتماد مالي واسع على مصادر سياسية. يمكن القول بمعنى آخر إن المؤشر يشير إلى أن حدّة الخطر تراجعت قليلًا، لكنه لا يدّل على أن البيئة صارت آمنة أو مستقرة.
"يمكن القول بأن هذا الارتفاع يعكس بعض الانفتاح النسبي في المشهد الإعلامي، لكنه لا يشير إلى تحول جذري؛ فما تزال البيئة الصحفية تعاني من الانقسام السياسي وغياب التشريعات الضامنة لحرية التعبير، وكذلك استمرار الضغوط الأمنية والرقابة غير الرسمية، ويعتمد استمراره على استقرار الأوضاع السياسية".
لعل جزءا من هذا التحسّن يمكن ربطه بتراجع نسبي في العنف الميداني، وتنامي المبادرات التدريبية، واتساع الفضاء الرقمي الذي يصعُب ضبطه بالكامل، لكن التقرير نفسه يذكّر بأن الصحفي صالحين الزروالي ما يزال قيد الاحتجاز أمام محكمة عسكرية بسبب تعبيره على منصة فيسبوك، وأن ثلاث حالات اعتقال وتضييق وثِّقت في 2025، وأن الإفلات من العقاب ما يزال هو القاعدة، وهي مؤشرات مقلقة حول حرية الصحافة في البلد.
إلى جانب ذلك، تعيش الصحافة في ليبيا مفارقة واضحة: انفتاح تكنولوجي يقابله تضييق سياسي وتنظيمي؛ فمنذ 2011 توسّعت القنوات والمنصات والصفحات الإخبارية، لكن هذا الاتساع لم يتحوّل إلى تعددية تحريرية حقيقية؛ لأن الإطار الذي يفترض أن يضمن المنافسة العادلة وحرية النشر غائب، حيث ما زال العمل يجري بقانون مطبوعات من 1972، وقرارات مؤقتة بعد ثورة 2011، ومساعٍ تشريعية متوقفة بسبب الانقسام.
لم يتوقف الأمر عند هذا الوضع المعقد؛ ذلك أن الفشل استمر أيضا في القدرة على إيجاد نقابة صحفية مستقلة، ورغم أن الكثير من الباحثين يرجعون هذا الفشل لحالة الانقسام العام التي تؤثّر على كل مؤسسات الدولة، إلا أن آخرين يعتقدون أن ضعف الثقة والتنافس الشخصي بين الصحفيين أنفسهم قد حوّلا الخلافات المهنية إلى انقسامات سياسية وشخصية حالت دون الاتفاق على قيادة نقابية تحظى بالإجماع. وحتى مع هذا الاحتمال، ما زال الواقع يقول إنه لا يمكن تأسيس نقابة حرة ومستقلة إلا حينما تتوفر بيئة سياسية مستقرة وإرادة جماعية حقيقية تقدم المصلحة المهنية على الحسابات الشخصية والفئوية وغيرها.
قراءة الأرقام قد تكون مغرية في الوهلة الأولى: ستّ درجات إلى الأمام تعني أن ليبيا باتت أقل سوء في نظر المؤشرات الدولية، لكن القراءة الأعمق تكشف أن التحسّن جاء في ظل استمرار العوامل نفسها التي عطّلت بناء إعلام مهني منذ 2011؛ أي استمرار الانقسام السياسي بين حكومتين.
معضلة التمويل
ربما يكون التمويل هو عقدة المشهد الإعلامي في ليبيا؛ فمع تراجع سوق الإعلان واستمرار الاضطراب الاقتصادي، أصبحت أغلب وسائل الإعلام تحت رحمة الممول السياسي أو رجل الأعمال المرتبط بجهة نافذة، بحيث باتت وسائل الإعلام بين خيارين؛ إما أن تكون مستقلة بلا تمويل، أو ممولة بلا استقلال.
ويمكن ملاحظة هذا النمط من التمويل من خلال الخطاب السائد في بعض القنوات الليبية، حيث تبدو النشرات والأخبار مهنية، لكنّ حدّتها تتغير فور الاقتراب من ملفات الجيش مثلا، أو الإنفاق الحكومي، أو مشاريع الإعمار.
وفي 2025 بالتحديد استُخدمت وسائل الإعلام ووسائل التواصل في حملات دعائية متبادلة وجرى توثيق الترويج للقنوات والمنصات التابعة لحكومة الغرب لما يعرف بمشاريع "عودة الحياة" التي تشرف عليها الحكومة، بينما جرى في الشرق الترويج لـ "الإعمار والاستقرار" والأمن والجيش، كما أن بعض القنوات والصفحات المموّلة تشتغل على التشكيك المتبادل في كل هذه المشاريع. إنّ مثل هذه البنية الدعائية لا تسمح بإعلام رقابي أو استقصائي، حتى لو كانت هذه المنصات تدّعي أنها حرة.
ورغم هذه الأوضاع الضبابية فإن الجزء الحيوي في مشهد 2025 هو الفضاء الرقمي؛ حيث سُجّل نحو 6.5 مليون مستخدم للإنترنت، وبرز ما يمكن تسميته "المؤثر الإخباري"، هذه الطفرة خلقت حالة حرية فعلية؛ فالمواطن يستطيع النشر، والصحفي الشاب يستطيع أن يصنع منصة من هاتفه، وباتت قصص المناطق المهمّشة لها صوت، لكنّ هذه الطفرة جرت في سوق بلا ضوابط: صفحات مجهولة وحملات تضليل وتسريبات بلا مصادر وهجمات رقمية على الصحفيات وحسابات وهمية تديرها جهات سياسية وغياب شبه كامل لبرامج تربية إعلامية أو سجل وطني للمنصات. والنتيجة في هذه الحالة حرية واسعة لكن مع ثقة منخفضة. وفي غياب الحوكمة تصبح هذه الحرية نفسها قابلة للاستغلال سياسيًا، وهذا ما رصدته تقارير أممية في 2025.
في هذا السياق يقول مسؤول منصات التواصل الاجتماعي في قناة ليبيا الأحرار ياسين خطاب إنه بالرغم من احتفاظ التلفزيون بقدرة عالية في توجيه الجمهور فإنه لا يمكن إغفال القدرة المخيفة للعالم الرقمي في صناعة الرأي العام حول قضايا هامة في ليبيا.
ويعتقد خطاب أن "غرف الأخبار ما تزال تتمسك بجزء من المهنية في تناول الملفات مع أنها تخضع لبعض الضغوط والمصالح، لكنّ المؤثرين وأصحاب المنصات أقل احترافا ومهنية ويعملون في كثير من الأحيان وفقا لمصالحهم الشخصية ومصالح مموليهم".
الطفرة الرقمية جرت في سوق بلا ضوابط: صفحات مجهولة وحملات تضليل وتسريبات بلا مصادر وهجمات رقمية على الصحفيات وحسابات وهمية تديرها جهات سياسية وغياب شبه كامل لبرامج تربية إعلامية أو سجل وطني للمنصات.
في هذا الجو العاصف، يظل الصحفي الليبي الحلقة الأضعف؛ فالعقود غير منتظمة والرواتب متدنية خصوصا داخل المؤسسات المحلية في ظل غياب نقابة موحّدة. هذا الواقع لم يتغير حتى عام 2025، رغم تعدّد المبادرات التدريبية. وما دام الصحفي بلا حماية قانونية ولا عقد عمل ولا مظلة نقابية وطنية فإن أي تحسن في المؤشرات سيبقى شكليا؛ فالحرية لا تعني فقط غياب الاعتقال، بل ضمان الحماية عند التعرض للاعتداء أو المنع من التغطية.
يمكن قراءة التقدّم بست مراتب على أنه إشارة إيجابية ضعيفة تؤشر على أن ليبيا لم تعد في ذروة الخطر التي عرفتها سنوات الحرب، وأن الساحة الرقمية خلقت متنفّسا لا يمكن إغلاقه بسهولة. لكن القراءة نفسها تكشف أن أسباب التراجع ما تزال هي نفسها: الانقسام السياسي وازدواجية الجهات المنظمة والفراغ التشريعي والتمويل السياسي وعجز النقابات، ولذلك فالمؤشر هنا أقرب إلى هامش من التحسّن منه إلى دليل على تحسّن فعلي.
تحتاج الصحافة في البلاد قانون إعلام موحّدا، يُنجَز خارج التجاذب السياسي ويعتمد على مشاورة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى توحيد - أو على الأقل تنسيق - الهيئات المنظمة للإعلام؛ حتى لا تبقى التراخيص أداة صراع بين شرق وغرب، ونحتاج إلى شفافية في تمويل القنوات الرسمية وحتى الخاصة، وربط الإعلان الحكومي بمعايير مهنية لا بولاءات سياسية، مع ضرورة إحياء ملف النقابة الوطنية المستقلة للصحفيين؛ لأنه في حال إنجاز كل ما سبق فإنه سيظل هشّا بلا جسم مهني يحمي العاملين.
وفي النهاية يمكن القول إن تحسّن ترتيب ليبيا في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025 خبر إيجابي، لكنه غير كاف؛ فهو يعكس هامشا يتحرك لا بنية تتغير، فالمشهد ما يزال منفتحا في الشكل مقيّدا في الممارسة، والنقطة الحاسمة ليست في عدد القنوات أو الصفحات، بل في قدرة الصحفي على العمل بحرية في ظل قانون موحّد ومؤسسات مستدامة. هنا تحديدًا تُختبر جدّيّة أي تحسّن في المؤشرات الدولية.