كل شيء يوحي بأنها ستكون جمعة عادية أخرى، في ذلك اليوم الحار من الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول، ونحن نقف على جسر سيمون بوليفار الذي يفترض أن يكون جسر وصل بين الحدود الكولومبية - الفنزويلية، لا حدا فاصلا بين عالمين.
حافلات متهالكة تنقل الركاب ذهابا وإيابا بين الضفتين، ودراجات نارية صينية تحوّلت إلى الحل الأخير للفنزويليين الراغبين في بلوغ مدينة سان كريستوبال بأسرع ما يمكن. شرطة يترقب أفرادها نهاية نوبتهم، يسرقون نظرات متعبة على هواتفهم المحمولة، وكلاب هزيلة تبحث عن بقع ظل تحتمي بها من قسوة الشمس. ثم فجأة، شقّ السكون صوت رشقة من إطلاق النار قادمة من السلسلة الجبلية التي تفصل البلدين، لتقلب المشهد رأسا على عقب، وتذكر الجميع بأن هذا الجسر - مهما بدا عاديا - يظل قائما فوق برميل بارود.
احتمينا - نحن الصحفيين - خلف أكشاك شرطة الحدود. بدا المشهد صادما بالنسبة إلينا، نحن الذين نغطي من هذه المنطقة، لكنه كان مشهدا معتادا في نظر زملائنا المحليين. قالوا إن الطلقات جاءت من "التروتشاس"، تلك المسالك غير الشرعية التي لا تظهر على الخرائط الرسمية، حيث يهرّب كل شيء تقريبا؛ من المواد الغذائية البسيطة إلى شحنات المخدرات الثقيلة... في هذه المساحات الرمادية حيث تتراجع الدولة وتتقدم البنادق، يتعلم الصحفي سريعا أن الخبر لا يُنال دون ثمن، ويتعلم أيضا أن يطور "أساليب" البقاء والسلامة المهنية.
احتمينا - نحن الصحفيين - خلف أكشاك شرطة الحدود. بدا المشهد صادما بالنسبة إلينا، نحن الذين نغطي من هذه المنطقة، لكنه كان مشهدا معتادا في نظر زملائنا المحليين. قالوا إن الطلقات جاءت من "التروتشاس"، تلك المسالك غير الشرعية التي لا تظهر على الخرائط الرسمية، حيث يهرّب كل شيء تقريبا.
هنا تبدأ قصة سمير كاستيو؛ وهو صحفي في القناة الإقليمية بمدينة كوكوتا، في الخامسة والثلاثين من عمره. وبعد اثني عشر عاما في المهنة، لم يعد يتعامل مع الخطر بوصفه استثناء بل جزءا من تفاصيل العمل اليومية؛ حيث طور الصحفيون معارف وأساليب واجتهادات مهنية وأخلاقية تجعل التغطية الصحفية ممكنة ولو في حدها الأدنى. التهديدات - كما يقول سمير - ترافق الصحفي كلما اقترب من ملفات القضاء والأمن العام أو شؤون الحدود... إلخ.

في أكثر من مرة، اضطر سمير إلى دخول التروتشاس بحثا عن المعلومة. هناك، واجه رجالا ملثمين يشهرون أسلحتهم وأوامر مباشرة بالمغادرة. لم يكن الهدف دائما إطلاق النار، بل ترسيم حدود غير مرئية لما يمكن تصويره أو قوله. ورغم أن تلك المواجهات لم تسفر عن إصابات، فإن أثرها النفسي كان بالغا. التفكير الدائم في العائلة وفي احتمالات الغياب وفي الشعور بالعجز عن نقل الحقيقة كاملة بات جزءا من يوميات المهنة هنا في هذه المنطقة، خاصة عند الصحفيين المحليين المضطرين للبقاء.
يتضاعف هذا الإحساس في مناطق مثل كاتاتومبو؛ حيث تتداخل خرائط الجماعات المسلحة مع شبكات المخدرات. هناك واجه سمير نقاط تفتيش غير قانونية أقامتها عناصر من "جيش التحرير الوطني". أُوقف وسُئل عن هويته وفُتشت هواتفه قبل أن يُسمح له بالمغادرة. بعدها سمحوا له بالرحيل، لكنهم تركوا له رسالة واضحة: الحقيقة هنا تقال بقدر ما يُسمح لها.
واجه سمير كاستيو نقاط تفتيش غير قانونية أقامتها عناصر من "جيش التحرير الوطني". أُوقف وسُئل عن هويته وفُتشت هواتفه قبل أن يُسمح له بالمغادرة. بعدها سمحوا له بالرحيل، لكنهم تركوا له رسالة واضحة: الحقيقة هنا تقال بقدر ما يُسمح لها.
كريستيان إريرا صحفي كولومبي مخضرم، يضع هذه التجارب في إطار أوسع. بالنسبة إليه، لا يتعلق الأمر بالشجاعة بقدر ما يتعلق بالبقاء. الوصول إلى هذه المناطق لا يتمّ في كثير من الأحيان إلا بعد تواصل غير معلن مع الجماعات المسلحة، رغم أن الأرض - نظريا - لا تحتاج إلى أي تصاريح؛ أي أن أي دخول خارج هذا التنسيق قد ينتهي بالاختطاف أو القتل.
في ذهنية هذه الجماعات، الصحفي ليس ناقلا محايدا بل طرف في حرب إعلامية متخيلة. لذلك، يصبح البقاء على قيد الحياة أولوية تسبق السبق الصحفي. خلال أكثر من ثلاثة وعشرين عاما في المهنة، وضعت فوهة مسدس على رأس إريرا، وخضع مرارا لعمليات استجواب شملت التحقق من هويته وأعماله السابقة ومساره المهني. العمل الصحفي - في النهاية - يصبح مشروطا بمن يسمحون بنشره، وقد يبدو هذا من الزاوية المهنية معيبا لكن الصحافة تمارس ضمن شروطها الحقيقية، والحقيقة هنا أن القتل والاختطاف هو القاعدة الأولى؛ ذلك أن الصحفيين الأجانب ينجزون عملهم ويغادرون، أما المحليون فيبقون، هم من يعيشون تبعات كل كلمة تُنشر، وهم من يُحاسَبون إن تجاوز المحتوى الخطوطَ التي لا تُرسم على الورق.
في ذهنية هذه الجماعات، الصحفي ليس ناقلا محايدا بل طرف في حرب إعلامية متخيلة. لذلك، يصبح البقاء على قيد الحياة أولوية تسبق السبق الصحفي. خلال أكثر من ثلاثة وعشرين عاما في المهنة، وضعت فوهة مسدس على رأس إريرا، وخضع مرارا لعمليات استجواب شملت التحقق من هويته وأعماله السابقة ومساره المهني.
وسط هذا المشهد، تحذر الجمعية الكولومبية لوسائل الإعلام من تدهور متواصل في حرية الصحافة؛ فإلى جانب العنف المسلح، تشير – أيضا- إلى ضغوط أقل صخبا وأكثر انتظاما: خطاب رسمي يسهم أحيانا في نزع الشرعية عن العمل الصحفي، واستخدام غير متوازن للإعلام العمومي، وتركيز الإعلانات الحكومية بطرق تقوض التعدد داخل المشهد الإعلامي. في مثل هذا المناخ، لا تُهدَّد سلامة الصحفي فقط بل يُهدَّد حق المجتمع في المعرفة.
الكثير من التقارير الدولية تؤكد أن الصحافة في كولومبيا باتت نشاطا عالي المخاطر، خاصة لمن يغطون قضايا الأمن والنزاع المسلح والاقتصاد غير المشروع. مناطق مثل كوكوتا ونورتي دي سانتاندير تتصدر باستمرار قوائم الاعتداءات، ليس على الصحفيين فقط بل على المصورين والعاملين في الإذاعة ووسائل الإعلام المحلية.
في كولومبيا، لا يختبر الصحفي بمهنيته فحسب، بل بقدرته على الموازنة بين الحقيقة والسلامة. هنا، يصبح نقل الخبر فعلا من أفعال المقاومة الهادئة، ومحاولة يومية للقول دون أن يتحول الصوت إلى هدف.