في عام 2014 نظم مركز تطوير الإعلام في فلسطين "دورة تفاعلية مع بدو الأغوار" في وادي المالح شرق محافظة طوباس شمال الضفة الغربية. تضمنت الدورة إقامة المشاركين والمشاركات في المنطقة لمدة 3 أيام، تحت إشراف المفكر الفلسطيني الدكتور منير فاشة، مؤسس مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، و"الملتقى التربوي العربي" في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد.
شارك في الدورة - أو من باب الدقة أكثر - في البرنامج التعليمي القائم على المجاورة طلبةُ إعلام من أكثر من جامعة فلسطينية مركّزين على مفهوم "الإعلام بالمجاورة" الذي اقترحه فاشة بديلا من بدائل الإعلام والاتصال في ظل التطورات التكنولوجية والرقمية الحاصلة في حقل الصحافة.
أثناء التدريب، قال الخبير التربوي إن برنامج التعليم يرمي إلى تعليم وتعلم ممارسة الصحافة بالمجاورة، ضمن مفهوم جديد يستعيد جزءا كبير من ثقافتنا الطبيعية والتاريخية؛ حيث العيش والتعلم والتحادث والتعامل والعمل بشكل حر وصادق خارج أي إطار مصطنع أو شرط اجتماعي.
كانت رؤيته تقوم على أن الهدف من البرنامج هو "تحقيق العافية الاجتماعية وحماية الحياة، ودون استعمال كلمات صُنِعَت في أوروبا يتعلق أغلبها بالتقدم عبر أدوات ومفاهيم ترتبط بالسيطرة والفوز والتخريب". (1)
تعيد تجربة فاشة الاعتبار للمجتمع بدلا من التركيز على "الجمهور"، حيث صرح وقتها: "وفق برنامج الاتصال بالمجاورة يتحول الأهالي إلى مواطنين، وتستعاد كلمات ومعانٍ منبعها الحياة والحضارة، على أمل الاستمرار في استخدام هذه الكلمات في حياتنا اليومية؛ حيث يكون التحدث عن الأهالي "باعتبارهم الأمل والوسيط" من خلال لغتهم هم، وليس بشكل عام ومجرد، وهي أدوار قد يقوم بها الصحفيون بشكل أصيل".
أثناء التدريب، قال الخبير التربوي إن برنامج التعليم يرمي إلى تعليم وتعلم ممارسة الصحافة بالمجاورة، ضمن مفهوم جديد يستعيد جزءا كبير من ثقافتنا الطبيعية والتاريخية؛ حيث العيش والتعلم والتحادث والتعامل والعمل بشكل حر وصادق خارج أي إطار مصطنع أو شرط اجتماعي.
لقد أنتج الطلبة المشاركون في درس "التعليم بالمجاورة" مواد صحفية تحقق مفهوم "الإعلام بالمجاورة" بعد أن جمعوا مقابلات من أهالي الأغوار الشمالية الفلسطينية عن احتياجاتهم وهمومهم، حتما كانت المخرجات مختلفة عن تلك التي تنجز من المكاتب وعلى إيقاع النشر الحديث، غير أن الأهم في هذه التجربة أنها ستجعل الطلبة المشاركين على علم ودراية أكبر بواقع مجتمع الأغوار الفلسطيني بالاحتكاك المباشر في الميدان.
للمدقق يبدو أن هذا الدرس الحيوي والتفاعلي من نوع مختلف تماما؛ أي أنه درس قادم من عالم لا يمتّ بصلة لطريقة تدريس الجامعات بصفتها "مؤسسات" تسيّجها جدران مانعة إلا نادرا، وهو ما جعل من هذه التجربة حدثا لم يتكرر.
من الواضح أن هذا النموذج الملهم - الذي يقوم على التأمل والتجربة واللقاءات والحوار – يشكل نقيض تجارب تدريس الصحافة في العالم العربي التي يقتصر جلها على قاعات ومختبرات الدرس. علما أن الجامعات التي تطورت كما ونوعا متجاهلة الالتحام والتواصل الفعال مع المجتمع، تتجاهل أيضا العلوم الاجتماعية بصفتها تخصصات لصيقة بحقل الإعلام، وبدل أن يقوم فعل تعويضي أو مواز لعملية التدريس عبر عملية دمج أو توظيف العلوم الاجتماعية لخدمة تدريس الصحافة، يحدث العكس تماما.
هكذا يحرم الحقل الصحفي من عملية مهنية ومخططة لتوفير إطار معرفي بالمجتمع الذي يتشابك ويصبح أكثر تعقيدا، ويخضع للتغيير والتحولات الاجتماعية والسياسية، والاقتصادية والدينية والثقافية... إلخ.
للمدقق يبدو أن هذا الدرس الحيوي والتفاعلي من نوع مختلف تماما؛ أي أنه درس قادم من عالم لا يمتّ بصلة لطريقة تدريس الجامعات بصفتها "مؤسسات" تسيّجها جدران مانعة إلا نادرا، وهو ما جعل من هذه التجربة حدثا لم يتكرر.
ظل البرنامج التعليمي فكرة ملهمة لكيفية تحقيق تواصل فعال وحقيقي بين طلبة الصحافة والإعلام والمجتمع الذي يفترض أنهم التحقوا بجامعاتهم ليصبحوا "وكلاء" معبرين عنه، فالصحافة - في جوهرها - جزء من عمليّة اجتماعيّة، لكنّ عدم تكرار هذه التجربة يعود لأسباب كثيرة أبرزها وجود خلل بنيوي في فكرة الجامعة بصفتها مؤسسة تعليمية أو مؤسسة تقليدية لإنتاج المعرفة.
الصحافةُ وعياً بالمجتمع
أثناء تدريسي مساقات الصحافة المختلفة وتحديدا لطلبة السنة أولى أشدد دائما على مبدأ أن الصحفي "وكيل المجتمع"، وأحث الطلبة على استحضارها في مسارهم لفهم دورهم وعلاقتهم بالمجتمع، وإدراك السلطة الشرعية التي يمتلكونها وتخولهم دخول منازل المواطنين وعرض قضاياهم ومساءلة المسؤولين...
إنها عبارة يفترض أن توجه بوصلتهم أمام تنامي النقاش حول التقنية وصناعة الإعلام ومفاهيم الريادة ومتطلبات السوق (كمكان العمل وكالجمهور)، لكنها لا تفلح في تحقيق المراد منها لكونها معزولة عن السياق العام لعملية التدريس، وكذلك لغياب الربط المؤسسيّ بين مهارات الصحافة وممارساتها التقنية وعملية الفهم والوعي بالمجتمع الذي توفره حقول العلوم الاجتماعية المختلفة.
لقد أنتج الطلبة المشاركون في درس "التعليم بالمجاورة" مواد صحفية بعد أن جمعوا مقابلات من أهالي الأغوار الشمالية الفلسطينية عن احتياجاتهم وهمومهم، حتما كانت المخرجات مختلفة عن تلك التي تنجز من المكاتب وعلى إيقاع النشر الحديث.
ويشير مصطلح العلوم الاجتماعية إلى مجموعة من التخصصات الأكاديمية التي تهتم بالمجتمع وعلاقات الأفراد مع بعضهم داخل المجتمع مثل: علم الإنسان وعلم الاقتصاد وعلم النفس وعلم الاجتماع. وقد يشمل غالبًا بمعناه الأوسع العلوم الإنسانية مثل علم الآثار والدراسات الإقليمية ودراسات الاتصالات والدراسات الثقافية والتاريخ والقانون وعلوم اللغة والعلوم السياسية...
وفق التعريف السابق، يتضح أن حقل الصحافة والإعلام قُدَّ من نفس "قماشة" حقول العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع وعلم النفس..
وللدقة يمكن القول إن علم الاتصال علم حديث خرج من رحم العلوم الاجتماعية، وأي محاولة أو عملية لفصله التعسفي عن غيره من الحقول المعرفية في الجامعات "كارثة حقيقية"، وصلت حدودها في عدم استفادة كليات الصحافة والإعلام من تخصصاتها القريبة، بل أصبح عاديا التفاخر بعملية الفصل حتى إن دراسة عربية بعنوان "نظم تعليم الصحافة والإعلام في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مشكلات قديمة مستمرة وتحديات جديدة" توصلت إلى أن " مسألة لجوء العديد من الجامعات إلى تكليف أساتذة من تخصصات متعددة في العلوم الاجتماعية والإنسانية للتدريس في برامج الصحافة والإعلام" يُعتبر عيبا ونقيصة.
وخلصت الدراسة أيضا إلى أن تأثير مدارس وكليات ومعاهد الإعلام بقي محدوداً في تطور إعلام مهني وصناعة إعلامية مستقلة إلى جانب العوامل الأخرى المرتبطة بالتطور السياسي والاجتماعي للدول المستهدفة. (2)
وشملت الدراسة رصد ومراجعة البرامج التعليمية في 120 مؤسسة تعليم عالٍ في تسع دول هي الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومصر وتونس والجزائر والمغرب، وتوصلت إلى أن البرامج والتخصصات التقليدية مسيطرة على خارطة البرامج التعليمية التي تقدمها هذه المؤسسات، وأن معظم هذه البرامج متشابهة ومكررة، مع غياب برامج تعليمية حديثة تتماشى مع الاتجاهات المعاصرة.
ورأت أن هناك نقصا حادا في أعضاء الهيئات التدريسية المتخصصين في مجالات الصحافة والدراسات الإعلامية والاتصال الجماهيري، وأن هناك استمرارا للأساليب التقليدية في تعليم مساقات الإعلام ومقاومة بعض الأساتذة للتغيير، وكذلك ضعف الخبرات المهنية لأعضاء الهيئات التدريسية.
من الواضح أن هذا النموذج الملهم الذي يقوم على التأمل والتجربة واللقاءات والحوار يشكل نقيض تجارب تدريس الصحافة في العالم العربي التي يقتصر جلها على قاعات ومختبرات الدرس.
أما الأكاديمية اللبنانية الدكتورة وفاء أبو شقرا فتنطلق من حقيقة العلاقة البديهية بين علم الاجتماع وحقل الإعلام، فالأول يتناول جميع نماذج العمليّات التي تحدث في المجتمع، كالتعاون والتنافس والصراع والتوافق والتثقيف والتنشئة والتنمية وإدارة الأزمات وغيرها، وهي كلّها عمليّات يؤدي فيها الفعل الاتصالي - بشتّى عناصره ووسائله - دوراً محوريّاً فيجعل الصحفيين بحاجة إلى "العدّة" المفاهيميّة للعلوم الاجتماعية، من أجل القيام بكافّة الوظائف الإعلاميّة. (3)
لقد قامت أبو شقرا بالتقصي في عيّنةٍ من جامعات تسع دول عربيّة فيها كليّات للصحافة، بغية التعرّف على مدى اعتمادها لمنهج "متعدّد التخصّصات" لتصل إلى خلاصة؛ مفادها أن هذه الجامعات تركِّز كثيراً على التأطير النظري والنواحي التقنيّة والتطبيقيّة، وهو ما يجعلها متقاربة إلى حدٍّ بعيد مع ما تقدّمه مراكز التدريب الصحفي، وفي المقابل، هناك نقصٌ واضح في تدريس كلّ ما من شأنه أن يزوّد الطالب بمعارف في المجالات المتداخلة بقوّة مع اختصاصه.
انطلاقا من هذه العناصر، نطرح السؤال الأبرز: كيف يمكن تدريس العلوم الاجتماعية للطلبة الصحفيين في ظل صعوبات كثيرة في مقدمتها طبيعة الخطط الدراسية، وتنامي متطلبات العمل الصحفي بفعل التطورات التكنولوجية، وتراجع حضور العلوم الاجتماعية في الجامعات ذاتها؟
علينا الاعتراف أن التعليم في الجامعات عملية غير ديمقراطية؛ لأن الطالب حتى وهو يختار تخصصه الدراسي، سيبقى أسيرا لخطط التدريس الجامدة والمقيدة التي تحدّد طبيعة تحصيله المعرفي.
وأستحضر في هذا السياق تجربة تقدمها إحدى كليات الصحافة في الجامعات الأمريكية؛ إذ توفر إمكانية واسعة لاختيار الطالبِ مجموعةً من المساقات التي تطرحها الكليات في إحدى الحقول الإنسانية والاجتماعية خارج تخصص الصحافة، بمعنى أن طالب الصحافة يمكنه أن يختار من تخصصات العلوم الاجتماعية حزمة من المساقات تصل إلى 40% من المساقات التي عليه اجتيازها للتخرج. ولعل ميزة هذا الشكل الديموقراطي من التعليم أنه يمنح الطالب مساحة واسعة من الحقول العلمية التي يختارها وفق ميوله واهتماماته أو من خلال إرشاد طاقم كلية الصحافة وتوجيههم له. وما تعكسه هذه التجربة هو حالة من المرونة في الخطط الدراسية وانفتاحها على حقول العلوم الاجتماعية بإكساب الطلبة المعرفة الواسعة والعميقة في مواضيع يختارونها أثناء دراسة تخصص الصحافة.
ورغم فعالية هذا النظام واستجابته لحاجة ملحة تتمثل في توطيد العلاقة مع العلوم الاجتماعية فإنه يواجه تحديات جسيمة؛ من أبرزها تعدد الموضوعات التي يتعين على طالب الصحافة دراستها، التي تتزايد باستمرار بفعل الطفرات التكنولوجية المتلاحقة، فضلا عن الإشكاليات الداخلية التي تعاني منها معظم كليات الإعلام وأقسام الصحافة.
يشكل فهم الصحفي لدوره وسلطته في زمن تهمين فيه المنصات الرقمية وتُتاح الفرصة للجميع بأن يكون ناشرا، التحدي الأبرز الذي يواجه الصحفي اليوم. ونزعم أن رهان التكوين لطالب الصحافة يحتل الحيز الأكبر لمواجهة هذا التحدي، وإذا تمكن الصحفي من تحصيل معرفة مصدرها العلوم الاجتماعية، فإنه سيصير قادرا على إثبات تفرده وتقديم زوايا ومقاربات صحفية عميقة تشتبك مع تحولات العالم العربي ولا تهرب أو تنفصل عن معالجة قضاياه.
وكي يحدث ذلك علينا أن نبذل جهدا كبيرا لفكّ حالة الخصومة الراسخة بين الصحافة والعلوم الاجتماعية؛ فالجزر المعزولة التي نعيش في فيها تتناقض مع التداخل الحاصل بين الحقول، وهي تداخلات تفرضها تطورات العصر مثلما فرضتها سابقا مراحل تطور العلوم المعرفية ذاتها.
المصادر:
-
موقع نوى. "مركز تطوير الإعلام يختتم 'دورة تفاعلية مع بدو الأغوار'." رام الله: موقع نوى، 2014. https://www.nawa.ps/ar/post/10564
-
الطويسي، باسم. "نظم تعليم الصحافة والإعلام في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مشكلات قديمة مستمرة وتحديات جديدة." عمّان: معهد الإعلام الأردني، 2018.
-
أبو شقرا، وفاء. "العلوم الاجتماعيّة في كليّات الصحافة العربيّة.. هل يستفيد منها الطلبة؟" الدوحة: معهد الجزيرة للإعلام، 18 مارس 2024. https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/2594.