عندما تلقت صحيفة بوسطن غلوب الأمريكية أول بلاغ عن تعرض طفل لانتهاك جنسي داخل إحدى الكنائس الكاثوليكية تجاهلت الصحيفة القصة في البداية، رغم تكرار البلاغات من ضحايا آخرين. كان الدافع وراء التجاهل احترام مكانة الكنيسة ودورها في المجتمع، وربما خشية من الاصطدام مع مجتمع محافظ لا يزال يتمتع فيه رجال الدين بنفوذ واسع، مع أنهم في بلد يوصف بالليبرالي. وعلى الرغم من محاولات رؤساء التحرير طمس التحقيقات التي كشفها فريق الصحافة الاستقصائية (سبوت لايت) (1) إلا أن الفضيحة انفجرت عام 2003 لتكشف عن دور المجتمع -حتى في أكثر البيئات انفتاحًا- في فرض سلطته على الصحافة والتأثير على أدائها وممارساتها، ودور الصحافة الاستقصائية في التأثير في المجتمع واتجاهاته، وهو ما يمنحنا فرصة للمقارنة مع ما يحدث في مجتمعاتنا العربية حيث تبدو هذه الضغوط على الصحافة وبالأخص الاستقصائية منها أكثر وضوحًا وأثقل وطأة.
في المنطقة العربية تتسم المجتمعات بتنوعها العرقي والديني والطبقي والأيديولوجي، يضاف إليها نفوذ القبيلة الممتدة عبر الحدود، والعشيرة والأسرة وسلطة العادات والتقاليد، وهنا تتعاظم سلطة المجتمع على العمل الصحفي، وتزداد معها حساسية تناول قضاياه، وتتشابك كلها في سياج مع العمل الاستقصائي تؤثر فيه ويتأثر بها.
إن الصحفي الاستقصائي العربي - في نهاية المطاف - جزء من هذا النسيج الاجتماعي الكثيف والمعقّد، يحمل هويته الثقافية والاجتماعية التي تتسرب إلى ممارساته المهنية بوعي أو دون وعي؛ لأن الصحافة الاستقصائية ليست مجرد تطبيق جامد لمعايير مهنية وأخلاقية، بل هي فعل اجتماعي حي يتحرك الصحفي خلاله في مساحة معقدة تحكمها سلطات أربع تتداخل وتتضاد معًا وهي: سلطة المجتمع وسلطة المعايير المهنية وسلطة الهوية الثقافية التي يحملها الصحفي نفسه والسلطة السياسية والأمنية. وتفرض هذه السلطات بدورها ضغوطًا شديدة تكاد تتحول إلى معايير قسريّة بديلة، وهو ما يجعل الصحفي الاستقصائي في العالم العربي يسير "فوق حد السكين" بتعبير يسري فودة، محاولا أن يوازن بين هذا الكم الهائل من السلطات المتشابكة.
في المنطقة العربية تتسم المجتمعات بتنوعها العرقي والديني والطبقي والأيديولوجي، يضاف إليها نفوذ القبيلة الممتدة عبر الحدود، والعشيرة والأسرة وسلطة العادات والتقاليد، وهنا تتعاظم سلطة المجتمع على العمل الصحفي، وتزداد معها حساسية تناول قضاياه، وتتشابك كلها في سياج مع العمل الاستقصائي تؤثر فيه ويتأثر بها.
توجد فجوات كبيرة بين تلك السلطات؛ بين أن يكون الصحفي الاستقصائي صوتًا للناس وللمجتمع أو انعكاسًا لثقافته وضميره، وأن يكون ساعيًا لكشف الحقيقة؛ فالمجتمع ليس دائمًا على حق، والسلطة ليست دائمًا على باطل، وهنا تبرز أهمية وعي الصحفي الاستقصائي بتلك الفجوة، وكلما كان مرتفعا ازدادت قدرته على ممارسة دوره الرقابي الفعال دون الوقوع في فخ التبرير للمجتمع أو لبعض فئاته أو التجييش ضده، ومحاولة تجنب ابتلاع السلطة أو المجتمع له، وعدم الوقوع في إكراهات أيّ منهما.
النظام والمجتمع: زواج معقد
في البيئات المعقدة حيث احتلال الأرض وقتل الإنسان ومقاومة العدوان والحروب والدماء والصراعات وسيادة الدكتاتوريات والكوارث والهجرات تَبرُز سياقات جدلية مشحونة بالاستقطاب السياسي الحاد والأزمات الاجتماعية العميقة، ويتوقع المجتمع من الصحفي الاستقصائي أن يصير لسان حاله ومدافعًا عن قضاياه، لكن المجتمع ليس كتلة واحدة كما هو معروف بل مجتمعات صغيرة متباينة ترى الأمور بمناظير شتى، وهو ما قد يفرض على الصحفي الاستقصائي نوعًا من التورط الرمزي في الصراع؛ فيصنف بسهولة بين نقيضين: إما مدافع عن الوطن أو خائن له، موالٍ أو معارض، فيغيب تقدير الموضوعية لصالح الأحكام المسبقة والانفعالات الاجتماعية، ومع تعاظم الضغط المجتمعي على الصحفي يوضع في خانة الاختيار الحرج بين "الجنوح إلى المجتمع" و"النجاة المهنية".
المجتمع ليس دائمًا على حق، والسلطة ليست دائمًا على باطل، وهنا تبرز أهمية وعي الصحفي الاستقصائي بتلك الفجوة، وكلما كان مرتفعا ازدادت قدرته على ممارسة دوره الرقابي الفعال دون الوقوع في فخ التبرير للمجتمع أو لبعض فئاته أو التجييش ضده، ومحاولة تجنب ابتلاع السلطة أو المجتمع له، وعدم الوقوع في إكراهات أيّ منهما.
الأصل أن يكون الصحفي الاستقصائي موضوعيًا دائمًا؛ فهو ليس محايدًا تمامًا ولا ناشطًا بالكامل، إنه وسيط أخلاقي ومعرفي يسعى لكشف الحقيقة كما توصل إليها من مصادرها الأولية الموثوقة مع وعي بأثرها عليه وعلى مؤسسته وعلى المجتمع أيضًا. هذا التوازن لا يتأتى إلا بالإدراك التام والمراجعة النقدية لموقع الصحافة الاستقصائية ودورها ووظيفتها في الظروف الحرجة بواسطة مؤسسات رصينة تحمي ما يسمى "الاستقصاء" من الانزلاق نحو الشعبوية أو ما يطلبه الجمهور، وذلك عبر تغذية الجوانب العاطفية والنفسية والقومية على حساب الواقع.
في تونس مثلًا، شهدت البلاد فترات من الاستقطاب الأيديولوجي الحاد بين الإسلاميين واليساريين وغيرهم، خاصة قبل وبعد إعلان 25 يوليو/تموز 2021 الذي مثّل تحولًا سياسيًا وُصف بأنه انقلاب دستوري. (2) يشرح الصحفي الاستقصائي ومدير موقع الكتيبة وليد الماجري كيف يتغير أثر الفاعل الاجتماعي على الصحفي بحسب نموذج الحكم القائم؛ فعندما يسود مناخ ديمقراطي يحترم التعددية وحرية الصحافة تتحول التحقيقات الاستقصائية إلى مصدر فخر وتقدير للصحفي وأسرته؛ إذ يغيب عنهم الخوف من العقاب أو التهديد، أما في النظم السلطوية فتصبح تُهم التخوين و"التكفير" والملاحقات الأمنية والقضائية هي العنوان الأبرز الذي يلاحق الصحفي الاستقصائي وعائلته ويهدد سلامتهما ووجودهما، وربما بمباركة اجتماعية أو بتواطؤ المجتمع وتقاعسه.
يقول الماجري لمجلة الصحافة: "هناك حالة وصم حقيقية وحالة عار اجتماعي في أن يكون ابنك سجينًا أو ملاحقًا أمنيًا أو قضائيًا" ويروي قصةً شخصيةً تعكس هذا العبء الاجتماعي حين حُكم عليه غيابيًا لمدة عام بسبب عمله صحفيا؛ إذ اتهم بـ"إتيان أمر موحش ضد رئيس الجمهورية". (3) يتحدث الماجري عن والدته التي شعرت بالخجل في الحي حين كانت تسمع همسات الجارات وهنّ يقلن: "ابنها في السجن... ابنها مسجون" رغم أنه لم يكن كذلك، ويضيف أن والدته كانت تعود إلى المنزل باكية طالبة منه أن يزورها علنًا كعادته، وأن يترك أكياس المشتريات أمام باب البيت حتى يراه أهل الحي ويعرفوا أنه ما زال حرًا طليقًا وليس خلف القضبان كما يشاع.
وفي خضم الحرب في سوريا، عمل الصحفي الاستقصائي مختار الإبراهيم عام 2016 من دمشق على كشف فساد توزيع المساعدات الدولية في المناطق المحاصرة؛ حيث طالت الاتهامات الجيش والمخابرات بالاستيلاء على جزء كبير من تلك المساعدات، غير أن المفاجأة جاءت من حيث لم يتوقع؛ إذ تعرض لضغوط شديدة من الجمعيات المشرفة على التوزيع ومن الأهالي المستفيدين أيضًا الذين حذروه من أن تحقيقه قد يتسبب في قطع المساعدات عنهم بالكامل؛ وذلك بأن توقف المنظمات الدولية دعمها بعد انكشاف أن قسمًا كبيرًا من المساعدات ينتهي إلى يد الأجهزة الأمنية والعسكرية التي هددته لاحقًا في حال نشر التحقيق، فآثرت المؤسسة التي يعمل الإبراهيم لصالحها سلامته، ولم ير تحقيقه النور.
يعلّق مختار الإبراهيم على تلك اللحظة قائلًا لمجلة الصحافة: "هذا يضع الصحفي أمام تحدٍ كبير... إنت بتشوف عائلة معتمدة على جزء يسير من المساعدات التي تصلها، وما عندها أي وسيلة ثانية للعيش" في حال قُطعت هذه المساعدات بسبب التحقيق.
سلطة الجمهور: الفيل الكبير
رغم ما تواجهه الصحافة الاستقصائية من ضغوط سياسية وأمنية إلا أن سلطة الجمهور تبقى أحد أثقل الفيلة في الغرفة؛ فهي سلطة غير مرئية لكنها حاضرة بقوة وقادرة على دعم الصحافة أو إسكاتها، وعلى تحويل التحقيق إلى أداة للمساءلة أو وقود للتحريض. في هذا السياق، توضح تجارب ميدانية كيف يمكن للجمهور أن يصبح خصمًا غير متوقع في معركة كشف الحقيقة.
تروي الصحفية اللبنانية حنان حمدان لمجلة الصحافة تجربتها أثناء إعداد مادة حول واقع أصحاب المؤسسات في القرى الحدودية الجنوبية بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ورغم أن التحقيق كان ذا صبغة اقتصادية واجتماعية بحتة، واجهت ضغوطًا اجتماعية وسياسية كبيرة، ليس بسبب المحتوى بل بسبب الهوية السياسية للجريدة التي تعمل بها، التي يرفضها جزء كبير من سكان تلك المناطق.
توضح حمدان أنها وجدت صعوبة بالغة في إقناع الناس بالتحدث إليها، رغم أن هدفها كان تسليط الضوء على معاناتهم بعيدًا عن السياسة، وتقول في هذا الصدد: "كنت متفهمة تمامًا لمخاوفهم، خاصة أنني أنتمي إلى قرية حدودية وأدرك حساسية الموقف... تقبلت الرفض بصبر، وحرصت على توضيح نيتي وهدف التحقيق مرارًا".
وفي سوريا، كشف تحقيق استقصائي عن تزييف أعمار لاعبي منتخب كرة القدم تحت سن العشرين بفوارق تصل إلى خمس أو ست سنوات، (4) وهي ممارسة استمرت 15 عامًا في ظل حكم نظام الأسد، ويصف الصحفي أحمد حاج حمدو أحد معدّي التحقيق بأن التحقيق في الأمر "كان بمثابة مسّ للمقدسات" موضحًا لمجلة الصحافة أن الجمهور الرياضي - خاصة مشجعي كرة القدم - يتعامل بعاطفة جارفة مع الإنجازات الرياضية، وهو ما جعل التحقيق فيها محفوفًا بالضغوط قبل النشر وبعده.
ويضيف حمدو أن معظم من تواصل معهم حاولوا إقناعه بعدم النشر؛ بعضهم يحمي الفساد بحكم ارتباطه بالسلطة، لكن الغالبية كانت مدفوعة بالخوف على "ذاكرة وطنية جميلة" خشية أن يُفسر الكشف الصحفي على أنّه طعنة في كبرياء السوريين، ويتابع قائلًا: "بعد النشر وُصِف فريق التحقيق بالعمالة والتآمر على الكرة السورية، وبلغت الضغوط حدًا جعلني أتمنى لو أنه لم يُنشر".
تكشف هذه التجارب أن سلطة الجمهور ليست دائمًا رافعة للحقيقة، بل قد تصبح أداة ضغط تدفع الصحفي إلى الرقابة الذاتية أو التراجع عن النشر، خاصة عندما تتقاطع الحقائق مع الرموز الاجتماعية أو الذكريات العاطفية. في مثل هذه السياقات، يتحول الجمهور من ضحية للفساد أو الاستبداد إلى حارس للخطاب السائد، ويخشى أن تهتز الأساطير الوطنية أو السردية المجتمعية. ولذلك يحتاج الصحفي الاستقصائي إلى إدراك مزدوج؛ الأول إدراكه بحق الناس في المعرفة، والثاني بخطورة استعداء الجماهير، وذلك دون أن يقع في فخ سلطته، حيث التواطؤ أو التنميق.
سلطة الجمهور ليست دائمًا رافعة للحقيقة، بل قد تصبح أداة ضغط تدفع الصحفي إلى الرقابة الذاتية أو التراجع عن النشر، خاصة عندما تتقاطع الحقائق مع الرموز الاجتماعية أو الذكريات العاطفية. في مثل هذه السياقات، يتحول الجمهور من ضحية للفساد أو الاستبداد إلى حارس للخطاب السائد، ويخشى أن تهتز الأساطير الوطنية أو السردية المجتمعية.
القبلية: درع وعبء
في المجتمعات ذات البُنى القبلية والعشائرية - وهي متعددة في المنطقة العربية - لا يُنظر إلى الصحافة باعتبارها فقط وظيفة مهنية مستقلة بل امتدادا للانتماءات الاجتماعية والموقع القبلي أو العائلي للصحفي. يسبب هذا السياق تحديات مضاعفة على الصحافة الاستقصائية؛ لأن كشف الفساد أو المساءلة قد تتقاطع مع مصالح أو رموز عشائرية، وهو ما يُعرّض الصحفي لحصار اجتماعي يفوق في تأثيره أحيانًا الضغوط السياسية.
في عام 2011، صُدم الوسط الصحفي الأردني باقتحام ستة أفراد من عشيرة شخصية عسكرية سابقة مكتب الصحفي جهاد أبو بيدر والاعتداء عليه بالضرب؛ (5) بسبب نشره مقالًا كشف فيه شبهات استغلال تلك الشخصية لمنصبها العام، ولم يكتف المهاجمون بذلك، بل حطموا أجهزة الحاسوب وهددوا أبو بيدر بالتصفية الجسدية رميًا بالرصاص إن تجرأ على نشر أي خبر عنها مرة أخرى.
وفي ظل ضعف الأحزاب والمجتمع المدني والثقافة المدنية وسيادة القانون، فإنّ الرقابة لا تنحصر ممارستُها في مؤسسات الدولة، بل تُمارس أيضا عبر منظومة من "الضبط الاجتماعي غير الرسمي"؛ حيث يُتوقع من الصحفي ألا يفضح قريبه أو ابن عشيرته أو شخصية نافذة ذات بعد قبلي، وأن يراعي "الهيبة" العشائرية للقبائل الأكثر حضورًا وقوة من عشيرته. يصعب على الصحفي ضمن هذه البيئة ممارسة دوره في نقد الممارسات ذات الصبغة العشائرية الحساسة حتى وإن كانت الحقيقة تتطلب خلاف ذلك. كما يمكن أن يُنظر إلى التحقيق الاستقصائي - أحيانًا - بوصفه خيانة لهوية الانتماء، أو يُساء تفسيره باعتباره موقفًا شخصيًا لا كشفًا موضوعيًا، أو استهدافًا لمكونٍ عشائريٍ منافس؛ فعلى سبيل المثال أصدرت إحدى العشائر الأردنية بيانًا صحفيًا استنكرت فيه تصريحات لأحد المذيعين في برنامج إذاعي صباحي - اعتبرتها إساءة للعشائر الأردنية - وطالبت بتقديم اعتذار علني. (6) ولم يتوقف الأمر عند البيان، بل بادر بعض أفراد العشيرة إلى رفع دعوى قضائية ضد المذيع أمام المحاكم.
أما في حالات النزاع أو الخلافات بين القبائل فيجد الصحفيون أنفسهم أمام مأزق معقد؛ إذ إنهم جزء من هذه البنية الاجتماعية، وأي تغطية قد تُفسَّر على أنها "انحياز لطرف ضد آخر" وهو ما يعرّضهم لفقدان الثقة أو حتى للنبذ الاجتماعي من بيئتهم نفسها. (7)
بالإضافة إلى ما سبق تؤثر الثقافة القبلية والعشائرية في البيئة الاجتماعية التي يعمل ضمنها الصحفي الاستقصائي، ولا تقتصر هذه الثقافة على منظومة القيم والتقاليد، بل تمتد لتؤسس لمنظومة نفوذ اجتماعي وسياسي واقتصادي ذات امتدادات داخل جسم الدولة والإعلام، وهو ما يجعلها فاعلًا غير رسمي في توجيه العمل الصحفي وفرض "حدود غير مكتوبة" على ما يمكن أو لا يمكن كشفه.
ومن جهة أخرى، قد يشكّل الانتماء القبلي درع حماية للصحفي في البلدان التي لا تزال تعطي لهذا الفاعل الاجتماعي وزنًا كبيرًا؛ ففي بعض الحالات يمكن للعشيرة أن تردع محاولات استهداف الصحفي الذي ينتسب إليها من قبل السلطات السياسية أو الأمنية أو المكونات الاجتماعية الأخرى، ونلاحظ تتابع بيانات عشائرية لدعم وتأييد ومناصرة إعلاميين وصحفيين تعرضوا لمضايقات السلطة، (8) كما يوفر الانتماء القبلي لبعض الصحفيين غطاءً اجتماعيًا يسهل عمله مستفيدًا من شبكة العلاقات وصلات القربى الممتدة حتى داخل مؤسسات الدولة. (9)
تؤثر الثقافة القبلية والعشائرية في البيئة الاجتماعية التي يعمل ضمنها الصحفي الاستقصائي، ولا تقتصر هذه الثقافة على منظومة القيم والتقاليد، بل تمتد لتؤسس لمنظومة نفوذ اجتماعي وسياسي واقتصادي ذات امتدادات داخل جسم الدولة والإعلام، وهو ما يجعلها فاعلًا غير رسمي في توجيه العمل الصحفي وفرض "حدود غير مكتوبة" على ما يمكن أو لا يمكن كشفه.
قضايا النساء والأطفال.. التعقيد الأكبر
في الوقت الذي صدرت فيه تقارير عن الأمم المتحدة تصف تدهورًا حادًا في ظروف احتجاز الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين في إسرائيل تصل إلى حد التعذيب الجنسي للنساء الفلسطينيات، (10) تعالت الكثير من الأصوات على منصات التواصل الاجتماعي محذرة من التعامل مع تلك الأخبار التي تخص الاعتداء الجنسي على النساء، (11) وهو ما حدث مع السيدة صاحبة التسجيل الصوتي الذي ذُكر فيه مزاعمُ اغتصاب نساء في مستشفى الشفاء بغزة قام به جنود الاحتلال الإسرائيلي، فدفع ذلك شقيقها إلى القول بإن الرواية غير صحيحة وقيلت من باب المبالغة، (12) وفي هذه الحالة يصبح من الصعب على الصحفي الاستقصائي أن يتحرى مثل هذه القضية - سواء بنفيها أو بإثباتها - دون أن يتعرّض لضغوط اجتماعية في مفترق تاريخي وقومي وإنساني بالغ الخطورة.
تُعد قضايا العنف الجنسي ضد النساء والأطفال من أكثرِ الملفات حساسية وتعقيدًا؛ (13) إذ تقع غالبًا خلف أبواب مغلقة ويحيطها الصمت والخوف. ويتطلب توثيق هذه القضايا من الصحفي الاستقصائي جهدًا استثنائيًا لبناء الثقة مع الضحايا ودفعهم لاسترجاع تجارب مؤلمة، وهذا يجعل المهمة مرهقة نفسيًا للطرفين، وقد يتعرض الصحفي لصدمات ثانوية أو إرهاق عاطفي، وفي الوقت ذاته يواجه معضلة أخلاقية: كيف يكشف الحقيقة دون أن يزيد من معاناة الضحية أو يعرضها للخطر؟ وما يزيد المهمة صعوبة تجاوُز التغطية التقليدية للحدث العنيف بعيدًا عن جذوره وسياقه، وهنا تبرز مسؤولية الصحافة الاستقصائية في تجاوز هذا النمط السطحي، وتبني سرديات أكثر إنصافًا ووعيًا بأثر القصة على الضحايا والمجتمع، لتجنب الصدمة والوصمة. (14)
وتواجه الصحافة الاستقصائية مخاطر متزايدة عند تغطية قضايا المرأة والطفولة، أبرزها الانتقام والملاحقة؛ فقد وثّقت لجنة حماية الصحفيين عدة حوادث (15) منها اعتقالُ صحفيٍّ صومالي عام 2013 واتهامه بـ"إهانة مؤسسات الدولة" و"نشر الأكاذيب" فقط لأنه أجرى مقابلة مع ضحية اغتصاب اِتَّهَمتْ جنودًا حكوميين بالجريمة، علمًا أنه لم يكن قد نشر التقرير بعد، بل إن الضحية نفسها تعرضت للاعتقال في محاولة لإسكاتها. (16)
وتزداد التحديات بصعوبة الوصول إلى المعلومات والأدلة، إضافة إلى المعضلات الأخلاقية المرتبطة بسلامة الضحايا، إلى جانب الضغوط الاجتماعية والثقافية التي تفرض على الضحايا الصمت خوفًا من الفضيحة أو العار الاجتماعي أو النبذ المجتمعي.
توضح الصحفية المغربية إيمان البلالي المتخصصة في قضايا الهجرة واللجوء أن تناول قضايا المهاجرين المفقودين في البحر كان ممكنًا حين يتعلق الأمر بالرجال، لكنه يصبح بالغ الحساسية عندما يتعلق بالنساء. تقول لمجلة الصحافة: "وجدت نفسي مرارًا أمام جدران صمت سميكة، ليس بسبب غياب المعلومات بل بسبب الخوف المتجذر اجتماعيًا من الفضيحة والعار" وتوضح أن العمل على هذا الملف كان أشبه بالدخول إلى مناطق محرمة ثقافيًا؛ حيث يُنظر إلى الحديث عن اختفاء فتاة في البحر أو احتجازها في مراكز غير قانونية على أنه وصمة تلاحق العائلة لا مأساة إنسانية تستحق الكشف والعدالة.
تروي البلالي كيف أثّر فيها تتبع قصص شباب وشابات مغاربة فُقدوا أثناء محاولتهم عبور البحر نحو أوروبا؛ حيث قوبلت محاولاتها للتواصل مع عائلات الفتيات برفض قاطع، مفسرة هذا الرفض بأنّه ليس بسبب فقدان الثقة بالصحافة، بل خوفًا من أن يتحول الحديث إلى "تشويه لسمعة العائلة" أمام المجتمع. وتنقل البلالي عن والد إحدى الفتيات المفقودات قوله بلهجة حاسمة: "الناس سيتحدثون عنا... نحن نريد أن ننسى"، لم يكن النسيان بالنسبة له تعبيرًا عن الحزن أو العجز، بل "خطة نجاة اجتماعية" لحماية سمعة العائلة من الوصمة.
الدين والأقليات: حقل الألغام
الدين والأقليات ليسا ميدانًا عصياً على التحقيق فقط، بل جبهة مقاومة صامتة ضد الصحافة الاستقصائية في المنطقة العربية، والتحدي الأكبر ليس في كشف الحقيقة حين يتعلق الأمر بهما، بل في إنتاج خطاب مهني قادر على تفكيك التابو دون إشعال النزاع. ما زلنا نذكر كيف ساهم الإعلام في إذكاء حرب طائفية في العراق، وهذا يتطلب من الصحفي الاستقصائي أن يكون ليس محققًا فقط ، بل أيضًا مفاوضًا ثقافيًا (17) يتحرك بين الحقول الأيديولوجية بحذر، دون أن يفقد بوصلته الأخلاقية وشرفه المهني.
ما زالت قضايا الدين والأقليات تشكل واحدة من أعقد ساحات العمل الصحفي العربي، حيث تتداخل الهويات والعقائد والتاريخ والسلطة والخوف من شيطنة الجماعات أو تعزيز الصور النمطية، وتجد الصحافة الاستقصائية نفسها أمام معضلة مزدوجة: كيف تكشف الحقيقة دون أن تغذي خطاب الكراهية أو تعيد إنتاج الانقسامات؟ كما أنها حقول ملغمة لما تحمله من رمزية عميقة تتجاوز الحقائق لتلامس مشاعر الجماعات وهوياتها، وأي تناول غير دقيق قد يشعل نزاعات أو يؤدي لملاحقات قانونية وتحريض مجتمعي يقود إلى الاحتراب الأهلي خاصة في بيئات الاستقطاب الحاد كما في منطقتنا، فقد تُستخدم هذه القضايا لخدمة أجندات سياسية كما يحصل الآن من استخدام دولة الاحتلال خطابَ المكونات في سوريا، بالإضافة إلى ما يُحيط هذه القضايا من محرمات وخطوط حمراء تجعل الاقتراب منها مخاطرة قد تكلّف الصحفي سمعته أو سلامته، ولا ننسى أن الدولة العربية ما زالت تحتكر الحقل الديني تنظيمًا وتمويلًا ورقابة، وتستخدمه لتعزيز شرعيتها ومشروعيتها للحكم.
ما زالت قضايا الدين والأقليات تشكل واحدة من أعقد ساحات العمل الصحفي العربي، حيث تتداخل الهويات والعقائد والتاريخ والسلطة والخوف من شيطنة الجماعات أو تعزيز الصور النمطية، وتجد الصحافة الاستقصائية نفسها أمام معضلة مزدوجة: كيف تكشف الحقيقة دون أن تغذي خطاب الكراهية أو تعيد إنتاج الانقسامات؟
الرقابة الذاتية: القاتل الصامت
على عكس الرقابة الرسمية التي تمارسها السلطات في منطقتنا العربية بشكل مباشر عبر ترسانة القوانين وأجهزة الأمن والقضاء، فإن الرقابة الذاتية تبدو نتيجة متوقعة لتراكم الضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية التي تحاصر الصحفي الاستقصائي في البيئات المغلقة أو المتوترة سياسيًا ودينيًا.
إن الصحفي العربي لا يمارس الرقابة على نفسه من فراغ، بل تُفرض عليه تدريجيًا كآلية دفاعية ذاتية لمواجهة شبكة معقدة من التحديات والضغوط، تبدأ من الخوف على حياته وسلامته الجسدية والقانونية والرقمية، وتمتد إلى حسابات اجتماعية واقتصادية تجعله يشعر بأن كل كلمة يكتبها قد تكون لها كلفة باهظة.
وتعد الرقابة الذاتية والضغوط المجتمعية من أخطر أشكال القمع الخفي للصحافة الاستقصائية؛ فعندما يخشى الصحفي العزل أو التخوين داخل مجتمعه، يبدأ بممارسة رقابة داخلية تدفعه إلى تجنب بعض القضايا أو تفريغها من مضمونها بلغة مراوغة لا تلامس جوهر الحقيقة.
تُنتج البنية الاجتماعية في المنطقة العربية رقابة ذاتية مضاعفة، تجعل الصحفي لا يخشى الدولة فقط، بل يخشى قبيلته أو طائفته أو عائلته أو مجتمعه المباشر، (18) وهنا يترنح الصحفي بين المهنية والولاء المجتمعي، وهو ما قد يؤدي إلى الإحجام عن تغطية قضايا حساسة، أو صياغتها بلغة مبهمة، أو تحويل الاتهام إلى أطراف هامشية، أو التواطؤ مع الصمت الجماعي، والنتيجة واضحة: وهي إضعاف قدرة الصحافة الاستقصائية على تفكيك شبكات النفوذ المحلية التي تستمد قوتها من تحالف السلطة والنخبة الاجتماعية والمال.
تؤكد الصحفية الاستقصائية الأردنية حنان خندقجي أن هذه الضغوط حاضرة في تجربتها المهنية والشخصية، فهي تصنف التحديات التي تواجهها إلى عائلية ومهنية، مشيرة إلى أن زوجها هو الأقرب لما تعمل عليه من تحقيقات، وكثيرًا ما يحذرها من الملفات الحساسة قائلًا: "هذا الموضوع بجيب وجع راس". ومع ذلك، تؤكد حنان قدرتها على تجاوز المخاوف والمضي قدمًا في عملها.
أما في بيئة العمل، فتوضح خندقجي أنها فرضت على نفسها عزلة اجتماعية لحماية سرية التحقيقات وخصوصية المصادر في بيئة عمل تتميز بالترابط الاجتماعي، لكنها تعترف بوجود رقابة ذاتية ترافقها أحيانًا، خصوصًا في القضايا الجدلية مثل الدين والعشائر، فتقول: "في قضايا معينة أحس إنها كثير جدلية، أو ممكن تفتح أبواب للمشاكل... خصوصًا في الدين والعشائر ... فلا أفضل الخوض بها" أو التقصي حولها.
الرقابة الذاتية ليست ضعفًا شخصيًا بقدر ما هي نتاج تراكمات سياسية وثقافية واجتماعية (19) تُقيّد الصحفي وتكبح حريته، والتحرر منها لا يتحقق بالتدريب المهني وحده، بل يتطلب إعادة صياغة العلاقات بين الصحافة والسلطة والمجتمع والمؤسسات الإعلامية والنقابات، بل حتى بين الصحفيين الاستقصائيين أنفسهم. عندما يُنظر إلى الصحفي بصفته شريكا في كشف الحقيقة وخادما للصالح العام وليس مختلقًا للمشاكل أو مشوهًا للسمعة، عندها يمكن للصحافة الاستقصائية العربية أن تنهض بدورها الحقيقي في الرقابة والمساءلة.
حليف محتمل للصحافة الاستقصائية؟
رغم هذه القيود التي تفرضها البِنى الاجتماعية والسياسية من ضغوط وصمت ورقابة مباشرة وذاتية، إلا أن المجتمع قد يتحول في لحظات فارقة إلى الحليف الأقوى للصحافة الاستقصائية؛ فعندما تبلغ المعاناة ذروتها، ويتفشى الفساد البنيوي والفقر والبطالة، وتغيب الحريات والعدالة الاجتماعية، وتنتهك الكرامة الوطنية وحقوق الإنسان، ويطرق العدو الأبواب ويكسر الحدود العربية بطائراته النفاثة ويرتكب الإبادة الجماعية في قلب الأمة وسط صمت مطبق، يجد الناس أنفسهم أمام خيار وحيد؛ هو كسر جدار الصمت، ويتحول الجمهور من مجرّد "متلقّ" إلى حليف موضوعي يدفع نحو التحقيق والمساءلة ويطالب بهما. عندئذٍ تتحول الضغوط الشعبية والحملات المجتمعية إلى وقودٍ سريع الاشتعال يدفع الصحفيين نحو كشف الحقائق المسكوت عنها، خاصة في القضايا التي تمس حياة الناس مباشرة؛ مثل نهب المال العام وانتهاكات حقوق الإنسان، والتآمر على مستقبل البلد.
ولعل أبرز شاهد على ذلك ما حدث بعد ثورات "الربيع العربي" حين ارتفعت مؤشرات حرية الصحافة في عدة دول عربية قبل أن تتراجع من جديد تحت وطأة الثورات المضادة وعودة القبضة الأمنية وانكشاف المجتمعات العربية على هشاشة خطيرة في نسيجها الاجتماعي والوطني. وعلى الرغم من هذا التراجع، كشفت تلك المرحلة عن إمكانات هائلة لتحالف المجتمع مع الصحافة الحرة في مواجهة مختلف أشكال السلطة، وعن دور الإعلام الاستقصائي وقوّته في الرقابة والمساءلة.
لذلك سيظل الأمل قائمًا بأن المجتمع - حين يشتد الخناق عليه - يعود ليبحث عن الحقيقة من جديد، ويجد في الصحافة المستقلة التي تحافظ على مسافة نقدية من كل الأطراف صوتًا يعبر عنه ويدافع عن مصالحه حين تسقط المؤسسات الرسمية في مستنقع التواطؤ أو العجز.
المصادر
-
شبكة أريج للصحافة الاستقصائية. "مفجّر فضيحة التحرش الجنسي: الإعلام الأمريكي إلى تراجع تحت رئاسة ترامب." شبكة أريج للصحافة الاستقصائية, 2016. https://n9.cl/kwp8w7.
-
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. "الانقلاب الرئاسي على الدستور في تونس: ظروفه وحيثياته ومآلاته." المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. https://2u.pw/RE8pu.
-
"حكم غيابي بسجن الصحافي التونسي وليد الماجري لمدة سنة." العربي الجديد. 2024. https://2u.pw/MqWyz.
-
الحمدو، باسل، أحمد حاج حمد، وآخرون. "الجيل الذهبي الكروي السوري المزيّف… مشاركة لاعبين سوريين شباب في بطولاتٍ دولية بأعمار مزيّفة." سراج. 2014. https://2u.pw/UPGd1.
-
"صحافيون يعتصمون أمام نقابتهم استنكارا للاعتداء على الزميل 'أبو بيدر'." عمون. 2011. https://www.ammonnews.net/article/85528.
-
"عشائر العجارمة تصدر بياناً." التاج الإخباري. 2025. https://2u.pw/f3kOG.
-
Hanusch, Folker. "Journalism, Culture, and Society." Oxford Research Encyclopedia of Communication. Published September 29, 2016. Accessed May 2, 2025. DOI: 10.1093/acrefore/9780190228613.001.0001/acrefore-9780190228613-e-78
-
"عشائر العجارمة تصدر بياناً," التاج الإخباري.
-
"عشيرة التميمي: الاعتداء على الصحفيين يهدف لحجب الحقيقة." السوسنة الإخباري. 2012. https://2u.pw/cd5eC.
-
"قلق أممي إزاء تقارير الاغتصاب والعنف الجنسي ضد المعتقلين الفلسطينيين لدى إسرائيل." الأمم المتحدة. 2024. https://news.un.org/ar/story/2024/09/1134231.
-
@MohmedNajjar88. "حادثة الاغتصاب في مستشفى الشفاء التي تحدثت عنها الشاهدة لقناة الجزيرة غير مثبتة، والكلام كان كلاما عاما... رغم كل جرائم المحتل، إلا أنه لم يثبت حتى اللحظة أي حادثة اغتصاب..." X (formerly Twitter). March 24, 2024. https://x.com/MohmedNajjar88/status/1771876331149463934.
-
YouTube. "مقربون من حماس وشقيق صاحبة رواية اغتصاب النساء في مستشفى الشفاء: غير صحيحة وقالتها من باب المبالغة." YouTube video. Posted March 26, 2024. https://www.youtube.com/watch?v=YQEjtsLVUKw.
-
فرانك سميث. "استجماع الشجاعة لتغطية العنف الجنسي." لجنة حماية الصحفيين. تاريخ الدخول 13 أيار 2025. https://n9.cl/cfcz6.
-
الشوابكة، مصعب، محمد اغباري، ودانة جبريل. دليل التحقيقات الصحفية من أجل حقوق الإنسان. صحفيون من أجل حقوق الإنسان، 2020.
-
سميث، "استجماع الشجاعة."
-
المرجع السابق.
-
Hanusch, "Journalism, Culture, and Society."
-
Hanusch, "Journalism, Culture, and Society."
-
Hanusch, "Journalism, Culture, and Society."