دخلتُ مع زميلي المصوّر - صُدفةً - قرية "شطنا" التي تقع شمال الأردن، وبدا الأمر غريبًا للوهلة الأولى؛ فقد خلت القرية من السيّارات والمارّة، ولم يكن فيها دكاكين مع انتشار الكثير من البيوت - خاصة القديمة منها - وأربع كنائس، ومركز صحيّ، ومدرسة ابتدائيّة، وكان واضحا أن القرية موجودة منذ قرن، لكن أين ذهب الناس؟
كان هذا سؤال القصة الصحفيّة التي سنعمل عليها لاحقًا.
عدنا إلى المكتب وعثرنا في الأرشيف على الأخبار التي تمتدح هدوء القرية المعزولة في الريف، وتستعرض جمال البيوت المبنيّة على طراز بناء بدايات القرن العشرين، وخبرا وحيدا عن هجرة سكان القرية إلى المدن.
عدنا مرّة أخرى يقودنا دليلٌ؛ هو فنيّ تمديدات صحيّة يعمل في القرية من أجل البحث عن إجابة للسؤال التالي: لماذا هاجر أهل القرية؟
أجاب أحد المخاتير - وكان أبناؤه قد هاجروا قبل سنوات - على أسئلة الصحافة التقليدية التي طرحناها عليه، لكنّ السياق الأوسع للإجابة ظل لغزًا؛ إذ بدا أن الإجابات كانت محكومة بظرف شخصيّ، ولا تقدم تصورًا أوسع لأسباب الهجرة. بالإضافة إلى ذلك، كانت تلوح كفرضيّة للبحث فكرةُ تزايد هجرة المسيحيين من بلاد الشام، ثم تناسلت أسئلة أخرى: متى ولماذا جاء الناس للسكن في القرية بالأصل، وما الذي طرأ حتى هجروها؟
لم نجد أي إجابة ناجزة في كتب التاريخ، وكلّ ما كان بين يدينا هو تخمينات بعض السكّان أن أسلافهم قدموا للسكن في القرية أواخر حكم الدولة العثمانية للمنطقة؛ أيّ أن فرصة الوصول إلى شاهدٍ يروي قصّة بداية الاستيطان في القرية كانت معدومة.
هكذا سيصبح السؤال التالي مهما: ما طبيعة العلوم الاجتماعية التي يمكن أن تكون مفيدة في العمل على هذه القصة؟
كان تاريخ بلاد الشام في الفترة العثمانية قد كُتب بمجمله من وجهة نظر السلطة أو المركز أو طبقة الأعيان، وأُقصي تبعًا لذلك تاريخ أماكن كثيرة بعيدة عن ولايات الدولة الرئيسية، وتاريخ أُناس كثيرين ليسوا من طبقة الأعيان، وكانت منطقة جنوب سوريّة العثمانية، التي تضمّ الآن الأردن ومنها قرية «شطنا»، واحدة من المناطق التي لم يؤرخ لها بشكل وافٍ.
لكن، ومنذ التسعينيّات ظهر في الأردن جيل مؤرخين أردنيين وثقوا تاريخ الحياة الاجتماعيّة في فترة نهايات الحكم العثماني للمنطقة وبدايات تأسيس الدولة، متناولين مناطق صغيرة مثل: تاريخ مدينة، أو مجموعة قرى، أو ناحية، ومعتمدين على مقابلات شفهية مع كبار السن، وقوائم جباية الضرائب للدولة العثمانية، ودفاتر ديون التجّار، وسجلات الكنائس والمحاكم الشرعية. (1)
أجاب أحد المخاتير، وكان أبناؤه قد هاجروا قبل سنوات، على أسئلة الصحافة التقليدية التي طرحناها عليه، لكنّ السياق الأوسع للإجابة ظل لغزًا؛ إذ بدا أن الإجابات كانت محكومة بظرف شخصيّ، ولا تقدم تصورًا أوسع لأسباب الهجرة.
كانت هذه المصادر الأقل أهمية في كتابة التاريخ من قبل المؤرخين في العالم، لكن منذ العقد السابع من القرن الماضي توسع الاعتماد عليها في بعض فروع التاريخ مثل: "التاريخ المصغّر" أو "التاريخ من الأسفل" وهي حقول تهتم بكتابة تاريخ الناس لا السلطة، وتاريخ مجموعة صغيرة من الناس في منطقة صغيرة، وتاريخ الهوامش لا مراكز الحكم، وتعتمد على «البحث عن إجابات الأسئلة الكبيرة في أماكن صغيرة»، و«حمل المجهر بدل التلسكوب» وعلى عدم اعتبار الأفراد مجرد دمى مهما قلّت أهمية أدوارهم داخل المجتمع؛ إذ يمكن أن تخرج الإجابات الكبيرة من الأدوار الصغيرة. (2)
هكذا لعبت واحدة من دراسات المؤرخين الأردنيين هؤلاء دورًا حاسمًا في تقديم معلومات حول وقت وسبب استيطان الناس قرية "شطنا"، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث جاؤوا بحثًا عن المراعي لمواشيهم التي شكلت واحدة من ركائز نمط إنتاج أهالي المنطقة في تلك الفترة.
وقدّم بحثٌ غير منشور وموجود في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة اليرموك شمال البلاد - حيث تقع القرية - شرحًا مفصلًا حول التركيبة الاقتصادية لسكان القرية، وتوثيقًا لبدايات هجرة سكّانها منذ منتصف القرن الماضي.
أنجز البحث طالب ماجستير قبل أكثر من ثلاثين سنة، وأقام في القرية أيّامًا من أجل إحصاء عدد السكّان، والمهاجرين منهم، وتوثيق أماكن سكن المهاجرين في المدن والعاصمة.
بعد الكثير من المقابلات، وفحص المعلومات الواردة في كتب التاريخ والدراسة غير المنشورة توصلنا إلى سرد قصّة أكثر من قرن من عمر القرية، منذ بداية الاستيطان ثم هجرتهم إلى العاصمة والمدن الكبيرة ليكونوا قريبين من أماكن أعمالهم الجديدة في الوظائف الحكوميّة والجيش والقطاع الخاص، بعدما تركوا مهنة الأسلاف في الزراعة وتربية المواشي.
بعد الكثير من المقابلات، وفحص المعلومات الواردة في كتب التاريخ والدراسة غير المنشورة توصلنا إلى سرد قصّة أكثر من قرن من عمر القرية، منذ بداية الاستيطان ثم هجرتهم إلى العاصمة والمدن الكبيرة ليكونوا قريبين من أماكن أعمالهم الجديدة في الوظائف الحكوميّة والجيش والقطاع الخاص، بعدما تركوا مهنة الأسلاف في الزراعة وتربية المواشي.
إنه تحول يمثل جزءا من تغير نمط الإنتاج في المجتمع الريفي الأردني من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الخدمي الذي بدأ مع تأسيس الكثير من مؤسسات الدولة الحكوميّة، والكثير من شركات القطاع الخاص ومصانعه.
لا يتعلق الأمر فقط بتقديم معلومات أولية للقصة الصحفية، بل استخدام أحد أدوات البحث التاريخي للمساعدة في بناء الكثير من القصص والبروفايلات الصحفيّة، وبدت إمكانيّة حمل مجهر يظهر التفاصيل الصغيرة بشكل أكبر من أجل التمحيص والبحث في حيز أضيق من مجتمع قرية، ممكنة.
نقبت في تعليقات ناصر الدين الأسد التي دوّنها على هوامش كتب قرأها قبل نصف قرن، وقلّبت لساعات طويلة في دفتر يوميات أبو الموسيقى الشعبية الأردنية توفيق النمري، وساهمت المعلومات المدونة في دفتر تخرّج مدرسة ثانوية في قرية نائية في الغور الأردني في الوصول إلى عناوين الخريجات في سنوات سابقة، ثم الكشف عن سبب حصولهن على المراتب الأولى في امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة على مستوى المملكة متجاوزات نتائج طالبات مدارس عريقة وحديثة في المدن والعاصمة لسنوات.
أما الأهم فقد حدث السنة الماضية في قرية «عنجرة» الموجودة في محافظة عجلون.
نقبت في تعليقات ناصر الدين الأسد التي دوّنها على هوامش كتب قرأها قبل نصف قرن، وقلّبت لساعات طويلة في دفتر يوميات أبو الموسيقى الشعبية الأردنية توفيق النمري، وساهمت المعلومات المدونة في دفتر تخرّج مدرسة ثانوية في قرية نائية في الغور الأردني في الوصول إلى عناوين الخريجات في سنوات سابقة، ثم الكشف عن سبب حصولهن على المراتب الأولى في امتحان شهادة الدراسة الثانوية العامة.
"فئات أخرى" و "آخرون"
قبل سنتين، بدأ الآلاف من الشباب الأردنيين يهجرون قراهم في رحلة طويلة تشمل عبور ثلاث قارات وسبع دول، وكانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، تتطلب منهم السفر برًا وهم محاطون بأفراد العصابات المسلحين، ربما الأشد فتكًا في أمريكا الوسطى، أما الوجهة النهائية فهي المكسيك، ثم الدخول بطريقة غير نظامية إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة.
كانت محافظة عجلون التي تقع فيها "عنجرة" وسط البلاد تشهد أعلى نسبة من المهاجرين، ولم يكن الحصول على مقابلات منهم خلال رحلتهم، أو ممن وصلوا إلى الولايات المتحدة سهلًا، لكن الحاجة إلى اختيار القصص المناسبة لوضعها في التقرير حتمت علينا ذلك.
يساعد الجو العام أمام هذه المعطيات على القول - وهذا ما حدث في الأخبار بالفعل - إن البطالة المرتفعة في الأردن تدفع الشباب للهجرة إلى الولايات المتحدة بحثًا عن العمل؛ إذ ارتفعت أرقام البطالة في السنوات الأخيرة، وثمة الكثير من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبحث في موضوع البطالة، تركّز كثيرًا على أرقام المتعطلين عن العمل ونسبتهم وعدم وجود مشاريع لتشغيلهم، مع رسومات بيانية تعتمد على مسوح دائرة الإحصاءات العامة توضح توزيع العاطلين عن العمل من حيث عمرهم وتحصيلهم العلمي وجنسهم.
لكن عجلون لم تكن الأعلى من حيث نسب البطالة مقارنةً ببقية المحافظات الأردنيّة من أجل القول إن البطالة هي السبب الوحيد لهذه الهجرة. (3) أما الرقم اللافت - الذي نوقش بشكل هامشي في أحد الدراسات الاقتصادية في فقرتين فقط - فيشير بالاستعانة بالمسوح الإحصائيّة إلى وجود أعلى نسبة عاملين بأجور منخفضة في المحافظة مقارنةً بالمحافظات الأخرى.
وعلى هذا النحو وإلى جانب قصص معطلين عن العمل، جرى تضمين قصص عن عاملين تركوا وظائفهم في القطاع الحكوميّ والخاص؛ وذلك لتمثيل دوافع الهجرة بشكل أدق.
كانت أداة البحث عن الحالات المختلفة في المسوح هي التقليد العريق لدى المشتغلين في حقل «التاريخ المصغّر»، وبعبارة أخرى، يركز هذا الحقل من العلوم الاجتماعيّة على النسب والأرقام التي تظهر في الرسوم البيانية المضمنة في الدراسات تحت بند: «فئات أخرى».
لقد نشأ «التاريخ المصغّر» كواحدٍ من العلوم الاجتماعية معتمدا في الكثير من الأحيان على الأنثروبولوجيا والاقتصاد، ومرتبطًا بمرحلة تراجع الاستعمار، وظهور أصوات المجتمعات التي لم تحظ بتمثيل جيّد في العالم مثل: السود والنساء والأقليات العرقيّة وسكّان الهوامش، وقد ظهر كمحاولة من هذه الفئات لاكتشاف ماضيها وإعادة بنائه، (4) وهذه أداة مهمّة في العمل الصحفي من أجل البحث في فئة: "آخرون" التي تنتشر كثيرًا. إنهم أولئك الذين ذكّرنا مرّة بهم الروائي الفلسطيني إميل حبيبي في روايته المتشائل: «قلتَ إنَّك لم تحسّ بي أبدًا، ذلك أنَّكَ بليد الحسّ يا محترم، فكمّ من مرّةٍ التقيت اسمي في أمهات الصحف؟ ألم تقرأ عن المئات الذين حبستهم شرطة حيفا في ساحة الحناطير (باريس حاليًا) يوم انفجار البطيخة؟ كلُّ عربيّ ساب في حيفا السفلى على الأثر حبسوه، من راجلٍ ومن راكب، وذكرت الصُحف أسماء الوجهاء الذين حُبسوا سهوًا وآخرين.
كانت أداة البحث عن الحالات المختلفة في المسوح هي التقليد العريق لدى المشتغلين في حقل «التاريخ المصغّر»، وبعبارة أخرى، يركز هذا الحقل من العلوم الاجتماعيّة على النسب والأرقام التي تظهر في الرسوم البيانية المضمنة في الدراسات تحت بند: «فئات أخرى».
آخرون - هؤلاء أنا - الصُحف لا تسهو عني، فكيف تزعم أنَّك لم تسمع بي؟ إني إنسان فذّ فلا تستطيع صحيفة ذات اطّلاع وذات مصادر وذات إعلانات وذات ذوات وذات قرون أن تُهملني، إنَّ معشري يملؤون البيدر والدسكرة والمخمرة، أنا الآخرون».
على الدوام، مثلما قد حدث في الصحافة حدث في العلوم الاجتماعية؛ هناك أكثر من رواية ومعالجة للحدث، واحدة تأخذ زاوية السُلطة أو الأكثرية أو المركز، وأخرى تبتعد عن كل ذلك وتُحاول معالجة الحدث من زاوية أخرى، زاوية من يعيشون في الهامش، أو من يعيشون في المركز ويصنفون بأنهم هامش، تحت "فئات أخرى".
لهذا سيكون السؤال التالي دائمًا ضروريًا: أيّ العلوم الاجتماعيّة يصلح لتوظيفه في الصحافة؟