هل سمعت بالخبر الذي يقول إن البابا فرانسيس قد أعلن عن تأييده ومباركته لدونالد ترامب؟ أو لعلّك سمعت بالخبر الذي يتحدّث عن هيلاري كلينتون وأنّ منظّمتها تشرف على عصابة لخطف الأطفال واستغلالهم جنسيًّا، أو ربّما سمعت خبرا عن اعتزام ميركل إعفاء المسلمين من الضرائب خلال شهر رمضان أو أنّ مذيعة الجزيرة غادة عويس قد رصدت جائزة مليون دولار لمن يقتل بشّار الأسد. وتتباين هذه الأخبار في أهدافها، فبعضها يكون مصمّمًا خصّيصًا لتشويه صورة شخصٍ ما أثناء حملة انتخابيّة أو تعزيز فرصه في النجاح، وأخرى قد تكون مدفوعة بمجرّد الهوس بعدد المشاهدات ولفت انتباه الناس، وكل ذلك على حساب الحقيقة والمهنيّة في العمل الصحفي.
ولبيان الأثر الذي قد يترتّب على مثل هذه الأخبار يكفي أن نشير إلى أن الأخبار المفبركة حول ترامب ودعم البابا فرانسيس له والأخبار الأخرى التي تعمَّدت تشويه صورة كلينتون قد لعبت دورا محتملا في ترجيح كفّة الفوز لصالح ترامب في الانتخابات الأميركية، وذلك حسب ما صرَّح به سندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لغوغل في مقابلة له مع الـ"بي بي سي" عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات. وقد نشرت جامعة ستانفورد الأميركية تقريرامن أربعين صفحة يتحدث عن الدور الذي لعبته الأخبار المفبركة في التأثير على نتائج الانتخابات الأميركية. ويعتمد هذا البحث على استبيان مع مجموعة من الناخبين الأميركيين حول بعض الأخبار الحقيقية والمفبركة التي نشرت، ولكن الأمر الأكثر إثارة بشأن هذه الاستبيان هو أن الباحثَيْن هانت ألكوت وماثيو غنتزكو، قد وضعا مجموعة من الأخبار التي قاما هما بفبركتها، ولم تنشر على أي من المواقع بطبيعة الحال، وكانت النتيجة المفاجئة أن نسبة من المشاركين تبلغ 8.3 قد أجابت بأنها سمعت هذه الأخبار وصدقتها و14.1 سمعوا بها ولكنهم لم يصدقوها.
هذه النتائج خطيرة في الواقع، لأنها تشير إلى أن لدى الناس استعدادا لتقبل الأخبار وتصديقها إن كانت تتّسق مع توجّهاتهم الدينية أو السياسية أو الفكرية، وهو وترٌ يبدو أن بعض الجهات الإعلاميّة تلعب عليه، سواء كانت واعية حقا بذلك أو لا. والجانب الثاني من الخطورة يتمثل في العواقب الفعلية التي قد تؤدي إليه هذه الأخبار أو تسهم في الوصول إليها، كالتأثير في الانتخابات ربما كما حدث في الولايات المتحدة، أو إعاقة الكشف عن الحقيقة وعمل الصحفيين كما حصل ويحصل في الهجمات الإعلامية التي تستهدف سمعة الجزيرة وصحفيّيها. والأدهى من ذلك أنّ هذه الأخبار المفبركة لا تنطلي على عامة الناس وحسب، بل وقد تمرُّ كذلك على مثقفين ومسؤولين كبار، كما حصل مرّة مع وزير الدفاع الباكستاني خواجا محمد أصف حين نشر على حسابهفي تويتر تهديدا بالرد النووي على إسرائيل، وذلك كردة فعل غاضبة على خبر مفبرك بأن إسرائيل ستهاجم باكستان بالسلاح النووي إن قررت الأخيرة إرسال قوات لها إلى سوريا. فالأمر إذا، جدّي ويتطلب التحرك الفوري.
لذا فقد قررت بعض المؤسسات العربية والأجنبية التصدي لهذه الظاهرة، فأسَّست شبكة الجزيرة –على سبيل المثال- وحدة الإعلام الاجتماعي التي تلقّت تدريبا متخصصا على استخدام أحدث الآليات والأساليب في التحقق من الأخبار التي تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي. كما أصدر معهد الجزيرة للإعلام الدليل التدريبي للصحفيين والإعلاميين للتحقّق من الأخبار على المنصات الرقمية. لقد شكل المحتوى الذي ينتجه المستخدم (UGC) مسألة أساسية كان لا بدَّ للجزيرة من التعامل معها بسرعة وكفاءة خلال السنوات الماضية. فلم يكن هنالك مفرٌّ من الاعتماد على المحتوى الذي ينتجه ويقدِّمه مستخدمون عاديون متواجدون في مناطق لا يستطيع صحفيّو الجزيرة التواجد بها، إمّا بسبب الوضع الأمني الخطير أو بسبب التضييق على تواجد القناة في بعض المناطق. ولكن تلقّي المحتوى من المستخدم أو البحث عنه على شبكات التواصل الاجتماعي فرضَ على شبكة الجزيرة وضع إجراءات صارمة للتحقّق من هذا المحتوى قبل الاعتماد عليه في صياغة الأخبار، وتدريب كوادرها على الآليَّات والتقنيَّات التي تساعد على الكشف عن المحتوى المفبرك والتأكد من صحة الأخبار.
أما البي بي سي، فتحت وطأة تزايد الأخبار المفبركة وفداحة تأثيرها في الآونة الأخيرة فقد أسست فريقا خاصا لتحرِّي صحة الأخبار والكشف عن الأخبار عن الكاذبة والتنويه إليها.
لقد أدركت الجزيرة حساسية معضلة تفاقم مشكلة الأخبار الكاذبة وتأثيرها في المجتمعات، خاصّة في سياق نشر الأخبار المضللة والمفبركة في شبكات التواصل الاجتماعي، فبادرت الشبكة إلى بناء وحدات خاصة لتعزيز مصداقية الأخبار الرقمية التي تنشرها والتحقق من الأخبار التي تردها، خاصة الصور ومقاطع الفيديو التي ينتجها المستخدم. الأمر ذاته دفع قناة الـ"بي بي سي" مؤخراً لتفعيل دور وحدة مراجعة الحقائق (Reality Check) فيها من خلال التركيز بشكل أكبر على التصدي للأخبار المفبركة وتفحص المعلومات التي يتعامل معها الجمهور على أنها من المسلّمات من خلال مراجعتها وكشف كافة تفاصيلها.
يقول جيمس هاردنغ مدير الأخبار في البي بي سي: "ليس بمقدورنا السيطرة على الإنترنت، ولكننا كذلك لن نقف مكتوفي الأيدي دون أن نفعل أي شيء. إننا عازمون على التحقّق من الأخبار الأكثر انتشارا على شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وغيرها. نحن نتعاون مع منصة فيسبوك بشكل خاص كي نحدد الطرق الأكثر فعالية لعملنا.. فحين يعثر فريق مراجعة الحقائق لدينا على أي معلومة تقدَّم للقراء على أنها أخبار موثوقة، فإننا سنقوم بنشر تنويه على أن هذا الخبر مفبرك مع الإشارة للمعلومات الصحيحة". وسيركز هذا الفريق وفق هاردنغ على التعامل مع الأخبار المفبركة ولاسيّما تلك التي يقصد منها تضليل النّاس بشأن قضية عامة والتي تقدَّم للجمهور على أنها أخبار مقطوع بصحتها.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه المواقع الإخبارية الجادة اليوم، والتي ما زالت تقتنع بأهمية الأخبار "البطيئة"، أي تلك الأخبار غير المدفوعة بهاجس عدد القراءات وسرعة الانتشار على الإنترنت، هو تقديم الأخبار والمعلومات الصحيحة والدقيقة بأشكال وأنماط تجذب القرّاء وتثير اهتمامهم أكثر من الأخبار المفبركة. وهذه هي الضمانة الوحيدة للحفاظ على صورة الإعلام الرقميّ ومصداقيته اليوم.