باتت قضية تمويل مؤسسات الإعلام وجدوى وجود إعلام حكومي رسمي يحظى بإشراف السلطة الحاكمة وتمويلها واحدة من أبرز النقاشات التي ظهرت مؤخرا في ليبيا بالتزامن مع الحراك الذي تقوم به حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس فيما وصفته بإعادة تنظيم الإعلام في البلاد.
ليبيا البلد الذي عانى من خضوع الإعلام للسلطة لأكثر من أربعة عقود، ما تزال إلى اليوم تتخبط في طريق بحثها عن تأسيس وتكوين إعلام جديد وحديث بعد ثورة أسقطت نظام العقيد معمر القذافي عام 2011.
ورغم أن إنشاء إعلام مستقل متحرر من توجيهات السلطة كان في طليعة مطالب ثورة فبراير 2011، إلا أن حالة التخبط هي السمة الأساسية للإعلام الليبي اليوم؛ إذ عاش متغيرات كثيرة وخطيرة.
كل من يدرس دور الصحافة في فترة الملكية الليبية 1952 – 1969 يلاحظ مدى الانتعاشة التي شهدها القطاع، مع تسليمنا بوجود بعض الفوضى والتجاوزات؛ حيث نص قانون المطبوعات الذي صدر عام 1959 على أن لكل شخص الحق في حرية التعبير عن رأيه، وفي إذاعة الآراء والأنباء بمختلف الوسائل. لكن الإعلام واجه الحقبة الأصعب في عهد الرئيس السابق معمر القذافي حين أغلق كل الصحف الخاصة وجعل الإعلام تابعا للسلطة وامتدادا لها.
وحتى مع سقوط نظام القذافي منذ أكثر من نحو 13 عاما ما زال القانون الوحيد المعمول به في الإعلام هو قانون المطبوعات الصادر عام 1972، وهو قانون حدّ من حق الحرية في التعبير. ولم تحدّث المنظومة القانونية، والتشريعات الخاصة بالإعلام نتيجة استمرار الانقسام السياسي وعدم اعتماد دستور دائم في البلاد مع الاكتفاء -بين الفينة والأخرى- بإصدار مقترحات وقوانين لتنظيم العمل الإعلامي مثل المقترح الذي تقدمت به المنظمة الليبية للإعلام المستقل، غير أنها ظلت تُعتبر "أماني" يصعب تطبيقها على أرض الواقع.
حتى مع سقوط نظام القذافي منذ أكثر من نحو 13 عاما ما زال القانون الوحيد المعمول به في الإعلام هو قانون المطبوعات الصادر عام 1972، وهو قانون حدّ من حق الحرية في التعبير. ولم تحدّث المنظومة القانونية، والتشريعات الخاصة بالإعلام نتيجة استمرار الانقسام السياسي وعدم اعتماد دستور دائم في البلاد.
إعلام متحرر من السلطة
شكّل الإعلام واستقلاليته محور النقاش بعد نجاح الثورة؛ حيث طالب مختصون بضرورة فصل الإعلام عن السلطة تماما، وعدم تأسيس وزارة للإعلام، وإنما هيئة أو مجلس أعلى للإعلام بعيد عن السلطة الحاكمة، على الرغم من مخاوفهم من الإعلام الخاص المسيس أو التابع للرأسمال.
مؤخرا اتخذت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة - والتي تتخذ العاصمة الليبية طرابلس مقرا لها - جملة من الإجراءات تحت مسمى "إصلاح الإعلام"، قسمت الرأي العام والصحفيين حول مضمونها خاصة فيما يرتبط بسيطرة الحكومة على الإعلام.
لقد ألغت الحكومة المؤسسةَ الليبية للإعلام، وأنشأت محلها المؤسسة الوطنية للإعلام رغم تشابه الوظائف والأدوار، كما أنشأت الهيئةَ العامة لرصد المحتوى الإعلامي التي تهتم بالمحتوى على جميع وسائل الإعلام.
قرارات مثيرة للجدل
في عام 2021، أصدرت حكومة الوحدة القرار رقم 301 الذي تضمن عدة مواد من شأنها أن تضع يد الحكومة على المنظومة الإعلامية في البلاد، وسبقه القرار رقم 116 للعام ذاته، وبمقتضاه تشرف 6 جهات حكومية على 10 مؤسسات إعلامية عمومية، من بين الجهات مجلس الوزراء الذي يتولى الإشراف على أربع مؤسسات إعلامية.
وقد غُيّر اسم إدارة التواصل والإعلام لتصبح إدارة الإعلام والاتصال الحكومي، ومنحت لها صلاحيات واسعة كالإشراف على وسائل الإعلام، ومتابعة جودة محتوى وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية التابعة لمجلس الوزراء، والإشراف على تنفيذ خطط وبرامج التدريب وإبرام التعاقدات الخاصة بالترددات الفضائية واقتراح مديري وسائل الإعلام التابعة لمجلس الوزراء، وتنظيم منح التراخيص لإنشاء جميع أشكال وسائل الإعلام، إضافة إلى تنظيم عمل مكاتب القنوات التي تبث من الخارج ولديها مقرات في ليبيا.
هذه القرارات أثارت حفيظة مختصين وعاملين في مجال الإعلام حيث اعتبروها مخالفة للإعلان الدستوري الذي نص على ضمان الدولة لحرية الرأي وحرية التعبير وحرية الصحافة ووسائل الإعلام والطباعة والنشر، كما أن الوظائف التي كُلفت بها إدارة الإعلام والاتصال الحكومي تفتقر إلى ضمانات بأن تكون وسائل الإعلام العمومية مستقلة عن الحكومة ولها استقلالية إدارية ووظيفية بما يضمن عدم التدخل في خطها التحريري لصالح الحكومة.
تبرز أهم المخاوف من هذه الإجراءات - خاصة من الإعلاميين - في أن شكل إدارة الإعلام والاتصال الحكومي لا يستجيب للمعايير الدولية حول استقلالية ومهام المؤسسات الإعلامية؛ لأنها تمثل هيكلا داخليا تابعا للحكومة ولا تتمتع بأي استقلالية وظيفية أو مالية، وهي بالتالي خاضعة لأوامر رئيس الحكومة،
تبرز أهم المخاوف من هذه الإجراءات - خاصة من الإعلاميين - في أن شكل إدارة الإعلام والاتصال الحكومي لا يستجيب للمعايير الدولية حول استقلالية ومهام المؤسسات الإعلامية؛ لأنها تمثل هيكلا داخليا تابعا للحكومة ولا تتمتع بأي استقلالية وظيفية أو مالية، وهي بالتالي خاضعة لأوامر رئيس الحكومة.
كما أن إضافة مصطلح "الحكومي" في تسمية إدارة الإعلام يظهر تمسك الحكومة بسلطتها على وسائل الإعلام صراحة، وتحول الأمر من محاولة لإصلاح قطاع الإعلام إلى خطوة للسيطرة عليه، وقد يتضح ذلك جليا في تكليف هذه الإدارة بمراقبة جودة المحتوى، وهو أمر قد يفتح لها المجال لحذف أو منع أو التعتيم على كل ما لا يتوافق مع سياسات ورؤى الحكومة، وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير.
ورغم أن المسؤولين عن إدارة الإعلام الحكومي يتمسكون بأن هذه القرارات تأتي ضمن إصلاح قطاع الإعلام ومواجهة انتشار الأخبار المضللة وخطاب الكراهية وضمان تأسيس إعلام حكومي قوي، إلا أن التخوف ما يزال قائما من أن تعزز القرارات تحكّم وسيطرة الحكومة على وسائل الإعلام، واستخدامها للدعاية لنفسها بدل التوجه إلى الاهتمام بأولويات واستحقاقات السلم المجتمعي في ليبيا.
مثل هذه التخوفات تدفع إلى السؤال: هل من الضرورة وجود إعلام حكومي في البلاد؟
جدل حول الإعلام الحكومي
وفقا لأستاذ الإعلام بجامعة بنغازي الدكتور خالد إسبيته، فإن "النظام الديمقراطي الذي طالب به المتظاهرون في ثورة 2011 يحتاج إلى إعلام حر ومستقل يسمح بالحرية والتعددية وطرح الآراء متحررا من أي جهة قد تؤثر في عمله ورسالته، ناهيك عن أن استحواذ أي جهة على الإعلام يعني استخدامه لصالحها ضد المنافسين وهو ما يقوض النظام الديمقراطي".
ويعتقد خالد إسبيته أن "وجود إعلام حكومي وسط المطالبة بنظام ديمقراطي هو شيء من العبث وعدم استيعاب مفهوم الديمقراطية بالأساس، لذا فإن وجود إعلام حكومي خطأ فادح سيكلفنا كثيرا."
ثمة مشكلة أخرى لا تتعلق فقط بوجود إعلام حكومي من عدمه، بل في طريقة تعامل جميع الحكومات المتعاقبة مع ملف الإعلام، بوضع شخصيات محسوبة على النظام السابق على رأس القطاع وتمكين شخصيات أخرى لا تملك الخبرة الكافية في مجال الإعلام من ترؤس إدارات تنفيذية مهمة، وهو ما يثير الشكوك حول وجود نية حقيقية لإصلاح الإعلام وبيئته.
والمتابع للحالة الليبية لا تخفى عليه حالة الانقسام والتأخر السياسي التي تعيشها، وهي بيئة تجعل الحديث عن إصلاح أي قطاع بما في ذلك الإعلام أمرا صعبا وبعيدا عن الواقع. فحالة الانقسام السياسي تخلق حالة من التراشق والمنافسات بين القوى السياسية تجعل مخاوف استخدام الإعلام لتصفية الحسابات السياسية أكثر جدية.
الصحفي بمكتب قناة الجزيرة في العاصمة الليبية طرابلس هشام الشلوي، يرى أن "الأموال التي تنفق سواء لتأسيس الإعلام الحكومي أو دعمه مجرد خسائر مادية لا طائل منها؛ فالمواطن لا يحتاج إلى هذه القنوات التابعة للدولة التي لم تعد هي المصدر الوحيد للمعلومات كما كان سابقا؛ فمع التقدم التكنولوجي في شبكات المعلومات ووفرة القنوات العربية و العالمية وحتى المحلية صار المواطن قادرا على الحصول على المعلومات والأخبار، بالإضافة إلى انتشار ما يعرف بـ"صحافة المواطن" التي توثق وتنشر كافة الأخبار المحلية التي تقع في مختلف المناطق".
في المقابل ثمة مَن يتمسك بأهمية وجود إعلام حكومي قوي في ليبيا مع التأكيد على ضرورة خلق ضوابط قانونية مؤسسية تضمن استقلاليته؛ حيث يقول أستاذ الإعلام بجامعة بنغازي عاطف الأطرش إن "الإعلام الحكومي القوي يسهم في الاستقرار وبناء الدولة مع ضمان حمايته من التأثير السياسي عبر قوانين وآليات واضحة حتى لا يتحول إلى أداة تخدم الدعاية السياسية للحكومات بدلا من المصلحة العامة".
"الإعلام الحكومي القوي يسهم في الاستقرار وبناء الدولة مع ضمان حمايته من التأثير السياسي عبر قوانين وآليات واضحة حتى لا يتحول إلى أداة تخدم الدعاية السياسية للحكومات بدلا من المصلحة العامة".
البدائل المطروحة
إن التشكيك في جدوى الإعلام الحكومي، والجدل والانتقادات حول الإعلام الخاص والتجاري سواء المتمثلة في تدخل الحكومات في مضامينها أو اعتمادها على تمويل الإعلانات، وانشغالها بالترفيه إضافة إلى ارتباط بعض وسائل الإعلام بأيديولوجيات وسياسات مالكيها، كل هذا يطرح تساؤلا آخر عن بدائل تسمح بتجاوز الحالة الراهنة.
يقترح بعض المتخصصين تبني مفهوم الإعلام العمومي أو إعلام الخدمة العامة كحل بديل يموّله المواطنون، ويركز فقط على اهتمامات المواطن واحتياجاته ومشاكله وأولوياته دون أن تحتكره أي جهة سواء سياسية أو اقتصادية.
وتقوم عملية التمويل على دفع المواطنين ضريبة تخص الإعلام تضمن استقلاليته عن كل التأثيرات الممكنة. ذأما فيما يخص الإعلام الخاص فثمة اقتراحات لتنظيمه ترتكز على خطوات واضحة؛ أبرزها معرفة المالك الحقيقي لأن إخفاء هويته قد يرتبط برغبة المالك الحقيقي للمؤسسة الإعلامية الخاصة في تحقيق مصالح وأغراض شخصية".
الحديث عن حرية الإعلام وجدوى الإعلام الحكومي وتمويله والرقابة عليه في ليبيا يتطلب قبل كل شيء أن تتصف المؤسسات الإعلامية بجملة من المعايير الأخلاقية والمهنية؛ أبرزها تلك التي تتعلق بالمسؤولية الاجتماعية ، كما أن استقرار الأوضاع السياسية والمجتمعية يعد شرطا أساسيا قبل الحديث عن التصورات المنظِّمة لهذا القطاع الهام الذي ظل يعاني لأكثر من نصف قرن.