في ظل ظروف قاسية تنذر بانهيار مؤسسات الدولة يواجه الصحفيون السودانيون تحديات الحرب وتأثيرها على الإعلام في السودان؛ فمنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في15 أبريل/ نيسان من العام الماضي، غدا الواقع الإعلامي السوداني معبدا بالتعقيدات والعراقيل، وقد شمل هذا التأثير المؤسسات الإعلامية على اختلافها صحفا وإذاعات وتلفزيونات.
وباتت هذه المؤسسات الإعلامية أمام مواجهة صعبة في ظل ما تسببت به الحرب من تدمير ونهب لمواردها من بنى تحتية لشبكات الاتصال والإنترنت، وكذلك ما نال كوادرها الإعلامية والصحفية من ملاحقات واعتداءات، ويضاف إلى ذلك الجهات التي تقود حملة تضليل ودعايات كاذبة ممنهجة.
في مقال له عن حرب الخرطوم ونهاية الصحافة، يصف الخبير الإعلامي الدكتور العبيد الطيب[1] الحالة في السودان بقوله: "إن تداعيات الحرب وانعكاساتها السلبية على المؤسسات الإعلامية في السودان ولا سيما الصحافة الورقية كانت كبيرة؛ إذ تسببت الحرب في توقف بعض المطابع كليّا ودمرت بنياتها التحتية ونهبت ما فيها، ولعل هذه واحدة من السلبيات التي رافقت وجود المطابع والصحف السودانية في الخرطوم. "على الرغم من الغياب شبه التام للصحف المطبوعة، فإن مجتمع الصحافة وكوادرها من رؤساء التحرير والكتاب والمحققين لا يزالون يمثلون لحمة الأجهزة الإعلامية المحلية وسداها، ويمثلون كذلك مرجعيات في التغطية الإعلامية للقضية السودانية داخليا وخارجيا.
وترتب على توقف الصحف تشريد الصحفيين والإعلاميين من كل وسائل الإعلام، وخرج معظمهم هربا من جحيم الحرب إلى خارج السودان أو إلى داخل ولاياته، في حين لا يزال بعضهم موجودا في الخرطوم ببعض المناطق الآمنة وحتى في مناطق الاشتباكات. ويضاف إلى معاناة الصحفيين في ظل هذه الحرب ضعف شبكة الإنترنت وتأثر بنيتها التحتية بالأحداث ما أدى إلى ضعف الخدمة أو توقفها أحيانا بسبب استهداف أبراج الاتصال.
خلال الحرب، تأثرت وسائل الإعلام المطبوعة جدا، وكافحت رغم الظروف الصعبة للتحول الرقمي، وانتقل عدد من الصحفيين إلى العمل في وسائل الإعلام الأخرى.
الإذاعة والتلفزيون في مرمى النيران
مع تزايد التضارب في المعلومات بشأن حقيقة ما يحدث في هذه الحرب، يشد الجمهور رحاله إلى الفضاء الرقمي لإشباع حاجاته الإعلامية اللازمة للتعامل مع غموض الحرب وعبثيتها.
في المقابل، تقف الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون ووكالة السودان للأنباء لمحاولة تعزيز ريادتها في تشكيل الرأي العام السوداني في أحلك الظروف.
مع تزايد التضارب في المعلومات بشأن حقيقة ما يحدث في هذه الحرب، يشد الجمهور رحاله إلى الفضاء الرقمي لإشباع حاجاته الإعلامية اللازمة للتعامل مع غموض الحرب وعبثيتها.
تسجل يوميات الحرب أنه في تمام الساعة الرابعة والربع من مساء يوم اندلاع الصراع، وبإعلان مراسل قناة العربية في الخرطوم سيطرة قوات الدعم السريع على مبنى الإذاعة والتلفزيون في مدينة أم درمان، فقد كان ذلك إيذانا بأن هذه المؤسسات والعاملين فيها يوجدون في مرمى النيران. وبعد نحو 11 شهرا من القتال في العاصمة السودانية، استعاد الجيش السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون في أم درمان من قوات الدعم السريع، في معركة عدها مراقبون تحولا في مسار الحرب؛ لما سيكون لها من تأثير عسكري ونفسي[2]، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على وكالة السودان للأنباء ومقرات القنوات الفضائية وبعض الصحف.
وباستمرار الحرب يتزايد تعرض الصحفيين للعنف إلى جانب تعرضهم للسرقة والتهديدات وحتى القتل؛ إذ جرى الإبلاغ عن تعرض بعض الصحفيين لاستهدافات إثر إبلاغهم عن هجمات.
مع تطور مجريات الحرب، أخذ العنف بحق الصحفيين في الارتفاع، مع تزايد حالات السرقة والتهديدات وحتى القتل، وكان يتم الإبلاغ عن هجمات مستهدفة ولا سيما لأولئك الذين يبلغون عن حوادث تتعلق بقوات الدعم السريع.
أبدى رئيس المجلس القومي للصحافة السابق الدكتور هاشم الجاز، استياءه من أداء الإعلام في السودان،ويسلط الأستاذ الجامعي البروفيسور عوض إبراهيم الضوء على نقص التمويل والخبرة وسيطرة الحكومة على حرية التعبير في الإذاعة السودانية، حيث تفرض الحكومة منذ فترة طويلة رقابة مشددة على وسائل الإعلام، خصوصا في مجال البث.
وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الصحف المستقلة، فإن الإذاعة والتلفزيون ظلت تحت سيطرة الحكومة وملكيتها[3]. من جانبها حاولت قوات الدعم السريع إعادة تشغيل الإذاعة، فعمدت إلى اعتقال الفنيين مظهرة اهتماما مفرطا بالدور الإعلامي وسعيها للسيطرة على قنوات تدفق المعلومات. وفي هذا المشهد المتغير، بدت الصحافة التقليدية عاجزة أمام قوى الصراع الجديدة، بينما ظهر الإنترنت بوصفه ملاذا أخيرا لجأ إليه الجمهور لسد حاجته من الخبر والمعلومة والتحليل بعيدا عن قدرة الطرفين على الرقابة والسيطرة والتحكم.
وفي هذا السياق، سيطرت الحكومة على هيئة الإذاعة الوطنية، ما سمح لها بنقل رسالتها مضطرة إلى الانتقال إلى بورتسودان، وكانت وكالة السودان للأنباء تعمل من ود مدني بعد الهجمات التي تعرضت لها مقراتها، وتمكنت من مواصلة بث الأخبار عبر موقعها الإلكتروني وإذاعة السودان وتلفزيون السودان من دون انقطاع.
معركة التزييف
بدا واضحا التفوق الإعلامي للدعم السريع على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي، مدعوما بترسانة إعلامية ضخمة من ناحية المكون البشري وعدد المحللين من مؤيديه، بجانب سعة انتشار المحتوى وفاعلية التأثير اللحظي عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بمستوى الوجود الفعلي لقوات الدعم السريع، وأدى ذلك إلى طرح السؤال: كيف استطاعت منظومة إعلامية سائلة تفتقر إلى البناء المؤسسي أن تتمكن من كل هذا القدر من الوسائل والرسائل وتحدث كل هذا التأثير على المشهد الإعلامي؟
يُلاحظ أنه مع افتقارها للبنية المؤسسية التقليدية، لجأت قوات الدعم السريع إلى فرض نوع من السيطرة وتأكيد الحضور في المشهد الإعلامي بعدة طرق، أهمها الاستثمار في منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإكس وإنستغرام، وربطها بالعمل الميداني؛ فالذين يمرون على نقاط تفتيش هذه القوات لاحظوا اهتمامها بتفتيش محتوى أجهزة الهاتف المحمول للتأكد من خلوها من أي مواد داعمة للجيش، والاهتمام الكثيف بالتوثيق ونقل الفيديوهات في أسوا حالات الاشتباك، ونشر الرسائل والتوجهات العامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتزامنة مع الحدث إلى جانب الاعتماد على البث المباشر والأخبار العاجلة، وهو ما جذب انتباه الجمهور وسهّل نشر المعلومات على نحو سريع وواسع.
كيف استطاعت منظومة إعلامية سائلة تفتقر إلى البناء المؤسسي أن تتمكن من كل هذا القدر من الوسائل والرسائل وتحدث كل هذا التأثير على المشهد الإعلامي؟
هكذا، وبسرعة، تمددت قوات الدعم السريع في الفراغ الذي خلفه الإعلام التقليدي بعجزه عن التكيف مع الوضع الجديد، ما أعطاها فرصة لملء هذا الفراغ بأخبارها ورواياتها الخاصة، وسمح لها بتفعيل أساليب الحرب النفسية من نشر للأخبار الكاذبة والإشاعات لإضعاف معنويات الجيش، وبث الفوضى والخوف بين المدنيين، ومن ثَمّ تأثر رصيد مصداقية الإعلام التقليدي لدى الجمهور الذي بدا أحيانا مهتما بهذه السردية.
جاءت محاولات الرد من قبل الحكومة السودانية بنتائج متفاوتة، بدأت بتعزيز وجودها على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر إنشاء حسابات متعددة تنشر وجهات نظر الحكومة والجيش وتحديثاتها المباشرة للجمهور. شملت هذه الجهود نشر البيانات الرسمية، والأخبار الميدانية، والرسائل الهادفة لتوجيه المواطنين وطمأنتهم، كذلك استُخدِمت بزعم تقييد الوصول إلى الإنترنت ومراقبة منصات التواصل الاجتماعي للحد من التأثير المضاد ومنع انتشار المعلومات الخاطئة والذعر بين السكان.
ومما يتاح للإعلام الرسمي من مزايا يفتقر إليها الدعم السريع القدرةُ على التواصل مع الإعلام الدولي لتقديم رواية مضادة؛ وذلك عبر التفاعل مع الصحفيين والإعلاميين الأجانب ووسائل الإعلام الدولية.
ولا يزال الصراع من أجل السيطرة على السرد الإعلامي جزءا كبيرا من النزاع الأوسع في السودان.
المراجع