فيما يخصّ الذكاء الاصطناعي وتقنياته وعلاقتها بالصحافة في العام 2024، يمكن أن ننطلق من ملاحظة نقدية مبدئية ترى في هذا الاهتمام بالموضوع والجلبة المستمرة حوله انعكاساً - في جزء منه على الأقل – للنفوذ الذي تحوزه شركات التقنية الكبرى وقدرتها على التأثير في أجندة الإعلام وميل كفّة الهيمنة لصالحها ولصالح الدول التي تنتمي إليها.
عبّر عن هذه الملاحظة مقال للناقد التقني الأمريكي بارمي أولسن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بعنوان "شركات التقنية الكبرى تستولي على اهتمامنا لكنها لن تحوز ثقتنا"، أوضح فيه كيف أنّ اللاعبين الكبار في السليكون فالي قادرون على رسم صورة خيالية حالمة لما يجب أن يكون عليه المستقبل بفضل الذكاء الاصطناعي، وإطلاق الوعود بشأن "الخير الذي سيعمّ الجميع"، لكنّه خيرٌ ظل منحصراً في بضع شركات مهيمنة من دولة واحدة، تتجاوز قيمتها السوقية 8.2 تريليون دولار أمريكي.
اللاعبون الكبار في السليكون فالي قادرون على رسم صورة خيالية حالمة لما يجب أن يكون عليه المستقبل بفضل الذكاء الاصطناعي، وإطلاق الوعود بشأن "الخير الذي سيعمّ الجميع"، لكنّه خيرٌ ظل منحصراً في بضع شركات مهيمنة من دولة واحدة، تتجاوز قيمتها السوقية 8.2 تريليون دولار أمريكي.
يمكن القول أيضاً إن الكلام الكثير الذي يثار اليوم في وسائل الإعلام عن إمكانات الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبشقّه التوليدي تحديداً، ما يزال عموميّا ومتخيّلاً أكثر منه وقائع ملموسة يعيشها الصحفيون على نحو يصحّ معه القول إن هذه التقنيات ستغيّر مستقبل المهنة إلى حال أفضلَ أو أسوأ. ورغم عدم وجود ما يسند إسقاط هذا الادّعاء العام على الحالة العربية، إلا أنّ ثمة استطلاعات وتقارير صدرت عن معاهد ومؤسسات غربيّة توفّر ما يساعدنا في تشكيل صورة أكثر اتزاناً فيما يخصّ تلك الحماسة حول الذكاء الاصطناعي.
فوفق تقرير لمركز "تاو" للصحافة الرقمية، أُنجز بالتعاون مع جامعة أكسفورد ومعهد أكسفورد للإنترنت، فإن دور الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار ما يزال محدوداً ويقتصر على أداء مهامّ "عاديّة". يؤكّد التقرير أيضاً بالاعتماد على نتائج استبيان هو الأوسع من نوعه، شارك فيه 134 صحفياً من مؤسسات إعلامية كبرى ذات تجربة في المجال، من بينها الغارديان وواشنطن بوست وفايننشال تايمز، أنّ الذكاء الاصطناعي "لم يثبت أنّه الحل السريع الأنجع للصحفيين في العديد من الحالات"، ولاسيما في جانب العمل التحريري. أما الكفاءة المفترضة لبعض تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فمرهونة إلى حدّ كبير بشكل المهمّة وبسياقها وبالقائمين عليها وقدراتهم، وهي إمكانات يحدّ منها عوامل عدّة، من بينها بحسب ما يذكر التقرير التشكّك باعتمادية مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي، والتخوّف بين الصحفيين من تضرر السمعة المهنية عبر الاعتماد الزائد عليها، إضافة إلى الصعوبات المعقّدة في أتمتة بعض المهام الصحفية.
يمكن القول أيضاً إن الكلام الكثير الذي يثار اليوم في وسائل الإعلام عن إمكانات الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وبشقّه التوليدي تحديداً، ما يزال عموميّا ومتخيّلاً أكثر منه وقائع ملموسة يعيشها الصحفيون على نحو يصحّ معه القول إن هذه التقنيات ستغيّر مستقبل المهنة إلى حال أفضلَ أو أسوأ.
ثمة معيقات سياقيّة أخرى تحول دون التوسّع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال، ومن ذلك مقاومة العُرف الصحفي لتغوّل التقنية في عملٍ إنساني الجوهر في طبيعته كالصحافة، إضافة إلى عدم تطوّر الأطر التشريعية ومدونات السلوك الناظمة للاستفادة بشكل آمن من هذه التقنيات، فضلاً عن ضعف البنى التحتية التقنية والمهارات التي تحول دون تكييف النماذج الموجودة في خدمة الصحفي.
فالموضوع الأساسي هنا ليس صحفياً، ولا حتى تقنياً بشكله الإجرائي النهائي عند استخدام المنتج الذي توفّره شركات الذكاء الاصطناعي، بل يتعلق بحالة الاعتماديّة غير الندّية بين هذه الشركات ومنتجاتها وبين مؤسسات الصحافة. هذه الاعتمادية تضيّق حتى ذلك الهامش المتخيّل من تعزيز كفاءة العمل والتنافسية وتقليل التكاليف ولاسيما على مشاريع الصحافة المستقلة، وذلك بحسب عماد رواشدة، الصحفي الأردني والمحرر التنفيذي لموقع "المراسل" المستقل. يرى رواشدة أن منصات الذكاء الاصطناعي التوليدي هي أدوات تسهّل جوانب من العمل الصحفي، وتقطع مع تلك العلاقة السالبة في محركات البحث، حيث التحكّم بالنتائج وصعوبة الوصول إلى المعلومات ذات الصلة، إلا أنّ الإشكال ذاته سيظهر في برامج الذكاء الاصطناعي القادرة بحسب رواشدة على إعادة إنتاج التحيزات لأسباب ربحية و/أو سياسية محضة. لذلك يرى رواشدة ضرورة إثارة القدر اللازم من الأسئلة النقدية المشروعة صحفياً فيما يخص التعامل مع منتجات الشركات التقنية الكبرى، التي تكاد تهيمن برأيه على مساحات النشر الصحفية، كما أنه يرى ضرورة النظر إليها أولاً باعتبارها نماذج احتكارية تتبع مشاريع سياسية ذات أجندات معينة.
"منصات الذكاء الاصطناعي التوليدي أدوات تسهّل جوانب من العمل الصحفي، وتقطع مع تلك العلاقة السالبة في محركات البحث، حيث التحكّم بالنتائج وصعوبة الوصول إلى المعلومات ذات الصلة، إلا أنّ الإشكال ذاته سيظهر في برامج الذكاء الاصطناعي القادرة على إعادة إنتاج التحيزات لأسباب ربحية و/أو سياسية محضة".
أمّا على مستوى المؤسسات الصحفيّة نفسها، فهنالك منطق آخر يحكم الكيفية الأمثل لمقاربة هذه التطوّرات التقنيّة والتعامل معها، وهو منطق ينطلق بحسب تقرير "تاو" من سؤال مركزي:
هل يمكن الارتهان إلى الشركات التقنية المقدّمة لخدمات الذكاء الاصطناعي؟ بمعنى، هل يمكن الاعتماد عليها والخضوع لشروط استخدامها وتكاليفها؟ وهل يمكن التسليم بأنّها تطوّر منتجاتها بما يخدم مهنة الصحافة والعاملين فيها؟
وقد كشفت إجابات الصحفيين عن هذا السؤال قلقاً حقيقيًا بشأن شكل العلاقة المسمومة بين الصحافة وشركات التقنية، حيث يستمر تصاعد التباين بين من يملك التقنية وقدرات تطويرها وبين من يفرض عليهم الاكتفاء بالاستخدام السلبي لها. فنرى مثلاً أن وسائل إعلام كبرى مثل نيويورك تايمز، تمتلك إمكاناتٍ خضمة للاستثمار في تطوير برمجيات ذكاء اصطناعي داخليّة تناسب احتياجاتها وتستفيد من أرشيفها الصحفي الهائل وبناها التحتية الرقمية والتقنية، ولذلك تلاحق قضائياً أية شركة تحاول الاستيلاء على محتواها في تدريب نماذج توليدية، كما فعلت مؤخراً مع "أوبن إيه آي". أما المؤسسات الأصغر، فستظل والحال هذه رهن ما تتيحه شركات التقنية، كلّ بحسب ملاءته المالية والتقنيّة، وهو ما يعيق استقلاليتها ويحد من فرص استمرارها ضمن بيئة جديدة من التنافسية التقنية، ناهيك عن استغلال تلك الشركات التقنية لمحتواها وأراشيفها، والاستفادة منها في تعزيز قوّة نماذجها، وبما يؤدي بالمحصلة إلى استدامة هذه الحالة من الابتزاز التقنيّ.
يوضّح هذا الجانب من التهديد فيلكس سايمون، الباحث في معهد أكسفورد للإنترنت، والمشرف على التقرير، والذي حذّر في حوار مسجّل مع آلان روزبريدجر محرر مجلة "بروسبيكت" البريطانية مما أسماه "فخّ البنية التحتية التقنية" (technical infrastructure trap)، حيث تصبح التقنيات الجديدة المفروضة من الأعلى والقادمة من الغرب قدراً حتمياً على الصحفيين في جميع العالم مجاراتُه، دون اعتبار لأثر ذلك على المحتوى الصحفي وجودته وسياقات عمل الصحفيين وأولوياتهم ودورهم في المجال العام في ظروف سياسية واقتصادية مختلفة. ويذكّر سايمون بالتجلّيات الأخيرة لهذه العلاقة غير المتوازنة بين القطاعين، والتي نراها على منصّات التواصل الاجتماعي، التي تتحكّم عبر خوارزمياتها بالمحتوى الخبري وتهمّشه لصالح محتويات أقدر على جذب الجمهور وسلب انتباههم، وهي ممارسة قد تتفاقم آثارها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي مستقبلاً.
يهتمّ المنشغلون بالصحافة اليوم بالذكاء الاصطناعي مدفوعين بتلك الإمكانات التي توفّرها، ربما على مستوى توليد النصوص أو معالجتها تحريراً وتدقيقاً، أو معالجة أكوام ضخمة من البيانات، أو تحسين أداء منتجات معينة بحسب تفضيلات الجمهور أو تعديل نماذج الاشتراك والدفع. إلا أنّ كل هذه الإمكانات بحسب ما يؤكّد تقرير مركز "تاو" ، لم تبلغ أيّ حدّ فارق من الشيوع على مستوى عموم المؤسسات الصحفية، وبالأخص في كثير من دول الجنوب العالمي، والتي تعاني فيها الصحافة من تهديدات وخيمة كبرى- في مواجهة سلطٍ غير ديمقراطية أو احتلال عسكري وحشي كما هو في فلسطين- وهو واقعٌ شديد الحساسية يُفترض أن يضع سلّما للأولويّات ليس على درَجته الأولى بطبيعة الحال ذلك التبشير المتحمّس لتقنيات الذكاء الاصطناعي والحضّ على تبنّيها.