"سيكون صوتُ كل واحد منكم عينا للمكفوف ونظرا لضعيف البصر، من خلالكم لن يرى المباراة فقط، بل يشعر بها ويسمع صوتها؛ فللمباراة صوت، وأنتم من سينقله".
كانت تلك أولى عبارات مدرب التعليق الإنجليزي آلان مارش خلال لقائه الأول بنا بوصفنا متدربين على التعليق الوصفي السمعي للمكفوفين وضِعاف البصر لتجهيزنا وتدريبنا لتقديم هذه الخدمة الأولى من نوعها باللغة العربية في تاريخ بطولات الاتحاد الدولي لكرة القدم ((FIFA، ضمن فعاليات كأس العرب 2021 في قطر.
"مونديال العرب" كما أصبح يطلق عليه، بطولة أعادت قطر إحياءها بعد غياب دام 9 سنوات وبنسخة هي الأكثر من حيث عدد المنتخبات المشاركة؛ فقد لعبَت ابتداء من التصفيات المنتخبات العربية جميعها، وصل منها 16 منتخبا إلى النهائيات، تنافسوا على ملاعب كأس العالم كـ"بروفة جنرال" للحدث الكبير كأس العالم FIFA قطر 2022، وبإشراف الاتحاد الدولي لكرة القدم.
بناء على هذه المعطيات التي توسعت فيها عَمدا، لم يكن مستغربا أن تتيح اللجنة العليا للمشاريع والإرث الجهة المنظمة للبطولة هذه الخدمة نظرا لأعداد المتفرجين الكبيرة المتوقعة، وقد وصل مجموع الجماهير التي حضرت المباريات الـ32 في النهائيات، بحسب الفيفا إلى 571605 مشجعين بواقع حوالي 18 ألفًا للمباراة الواحدة.
"ليس هذا ما نطلبه"
يعدّ التعليق عموما أحد أهم أجناس الإعلام الرياضي؛ فالمُعلق ليس الناقل الصوتي الذي يصف أحداث المباراة فحسب، بل هو من يُغلفها بالمعلومات ويُلونها بدرجات صوت تعلو وتنخفض بحسب مجريات اللعب وأحداث المباراة.
الملعب يجب أن يُقسم في عقل المعلق إلى مناطق (Zones) بحسب قرب كل منطقة عن المرمى وبعدها، يعلو وينخفض صوته وانفعالاته مع الفرص، من دون إغفال المرونة للتجاوب حيال لقطات مهارية من لاعب ما، أو أحداث قد تجري على نحو مفاجئ في منتصف الملعب أو ربما في المدرجات مثل نوبة قلبية لأحد المتفرجين.
المعلق هو في البدء صحفي، يجب أن يمتلك أداوته، من المهنية والموضوعية والمهارة في سرد المعلومات، وسرعة البديهة في استحضار التاريخ في المواجهات السابقة مثلا (استحضار النتائج في المواجهات السابقة بين الفرق يتم التحضير له ولكن لا بد من الذاكرة الحية أحيانا لاستحضار حادثة معينة) أو في رصد الكاميرات لأحد اللاعبين المشاهير السابقين على المدرجات، حتى لو كان قد ولد وتألق قبل مولد المعلق نفسه. المعلق هو إعلامي يستخدم صوته لبث الروح في المباراة ونقلها من مجرد 11 لاعبا يواجهون 11 لاعبا، إلى 90 دقيقة من التشويق والجاذبية. باختصار هو فن إعلامي، إذاعي.
لطالما تمنيتُ أن تخصص كليات الصحافة في جامعاتنا العربية مساقات ومناهج خاصة بتعليم الإعلام الرياضي، وأن تكون هناك كليات خاصة وفيها يتخصص الطالب في الإعلام الرقمي أو التلفزيوني أو التعليق أو حتى التصوير الرياضي للمباريات. كذلك تتضمن أيضا تخصصات في تصوير مباريات الكرات الجماعية أو الألعاب الفردية؛ فهناك فرق بين تصوير مباراة كرة القدم وعروض الجمباز أو سباقات السباحة أو سباق الماراثون الذي يمتد لنحو 2:45 ساعة؛ سواء في التعليق أو في التصوير.
معلوماتك قوية ولكن أيضا ليس هذا ما نريده
ما زلتُ أذكر المقطع الصوتي الذي أرسلته في اختبارات للجهة التي استضافت حدث التدريب ونظمته -وهي جامعة حمد بن خليفة، معهد دراسات الترجمة-. اخترتُ مباراة برشلونة ومانشستر يونايتد في نهائي دوري أبطال أوروبا 2009، وأحد هذين الفريقين هو ناديّ المُفضل: مباراة حفلت بالأهداف الجميلة، وما زلت أذكر كثيرا من تفاصيلها، لكن هل يحق للمُعلق أن يشجع فريقا، وهل يحق له إظهار ذلك؟
خلال إحدى جلسات التدريب، أخبرني آلان أنني قُبلت بناءً على تجربتي الصوتية التي أرسلتها، وليس بسبب كمية المعلومات والمعرفة التي حاولت استعراضها؛ إذ لم يكن ذلك هو الهدف. كان الهدف ببساطة هو التعرف إلى خامة صوتي ومدى ارتباطي بالرياضة وكرة القدم من خلال بعض الإشارات الأولية. حتى في الجلسات التدريبية الأولى، حاولنا جميعا تقديم كل ما لدينا من معلومات فنية وتكتيكية وحقائق عن المباريات واللاعبين، إضافة إلى تاريخ الرياضة وجغرافيتها، ولكن هذا ليس ما يحتاجه الشخص الكفيف أو ضعيف البصر.
في الجلسات التدريبية الأولى، حاولنا جميعا تقديم كل ما لدينا من معلومات فنية وتكتيكية وحقائق عن المباريات واللاعبين، إضافة إلى تاريخ الرياضة وجغرافيتها، ولكن هذا ليس ما يحتاجه الشخص الكفيف أو ضعيف البصر.
ولتعويد أذهاننا على ذِكر مكان الكرة وسيرها، وحركة اللاعبين، وطريقة لعبهم للكرة وأحيانا سقوطهم، أو انزلاقهم، أو طريقة قطعهم لكرة من المنافس، استعنّا بمقررات للتدرب على ذلك، لعل أبرزها عرض صورة متوقفة لصراع بين لاعبين والتدرب على وصف ما يحدث أمام الزملاء الذين أغلقوا عيونهم لكي يتمثلوا دور المكفوفين، ويتركوا لخيالهم رسم ما يحدث بناء على ما يقوله المعلق. ما زلت أذكر صورة محمد صلاح وهو يتهيأ للتسديد بالقدم اليسرى في إحدى هجمات ليفربول ضمن الدوري الإنكليزي.
كان علي أن أذكر بالتفصيل وضعية الجسد، قدم التسديد ومكان الكرة، ومكان تموقع اللاعب بالضبط بالنسبة لهجوم فريقه ومكان اللاعب المدافع ولاعبين آخرين ثانويين في اللعبة، إضافة أيضا إلى ألوان ليفربول في تلك المباراة ورقم اللاعب، وألوان لاعبي الفريق المنافس والحكم، وأين يوجد الكادر الاحتياطي لكل فريق.
في غرفة محاطة بقمصان أندية كرة القدم، (وهو الأمر الذي لفتني وأعجبني بشدة)، أكد لنا المدرب مارش أن المعرفة مهمة، ولكنها في التعليق الوصفي الصوتي ليست الأهم؛ أين كان يلعب محمد صلاح قبل ليفربول وكم هدفا سجله لفريقه ولمنتخبه وكم مساهمة له في الأهداف (تمريرة حاسمة + تسجيل) أمور يمكن إبرازها حين يتوقف اللعب لا حين يتسلم اللاعب الكرة؛ ففي التعليق للمُبصرين يرى المشاهد كل شيء أمامه ومن ثمّ فإن نسبة الوصف لا يجب أن تتعدى الـ 30%، تزداد أو تنقص حسب سير الأحداث.
فهمتُ التعليق الوصفي السمعي تماما كما كانت تُنقل المباريات عبر محطات الراديو قبل بدء النقل التلفزيوني: وصف كل حركة، وكل لعبة، وكل اتجاه للكرة. على سبيل المثال، في التعليق العادي لا يحتاج المعلق إلى وصف كيفية تنفيذ الركلة الركنية، أما في التعليق للمكفوفين، فإذا كان اللاعب ينفذ الركنية بقدمه اليسرى من الجهة اليسرى للحارس، فهذا يعني أن الكرة ستلتفّ باتجاه المرمى. وإذا نفذها باليمنى، فستكون باتجاه خارج المرمى وبباطن القدم. يجب أيضا توضيح ما هو ظاهر أمامك؛ هل يخطط الفريق لتسديد الكرة من على حدود منطقة الجزاء، أم سيتم رفعها إلى منطقة الست ياردات لتستقبلها رؤوس المهاجمين؟
أكد لنا المدرب مارش أن المعرفة مهمة، ولكنها في التعليق الوصفي الصوتي ليست الأهم؛ أين كان يلعب محمد صلاح قبل ليفربول وكم هدفا سجله لفريقه ولمنتخبه وكم مساهمة له في الأهداف يمكن إبرازها حين يتوقف اللعب لا حين يتسلم اللاعب الكرة؛ ففي التعليق للمُبصرين يرى المشاهد كل شيء أمامه ومن ثمّ فإن نسبة الوصف لا يجب أن تتعدى الـ 30%، تزداد أو تنقص حسب سير الأحداث.
جرى التحضير لهذه التجربة خمسة أسابيع، تلاها اختبار عملي للوصف أمام متطوع لا يشاهد المباراة. كان المتطوع يرسم خط اتجاه الكرة على لوح كبير اعتمادا على وصف المعلق وموقع الكرة الذي يذكره، ما يسمح بتقييم دقة المعلق في وصف اتجاه الكرة. في النهاية، خضعنا لاختبار تعليق على 10 دقائق كاملة من مباراة لم نكن نعرفها مسبقا، ومن دون أي توجيهات. بناء على هذا "الاختبار" الأخير، اختير المعلقون للمشاركة. هذه العملية كانت مقدمة لدخولنا تجربة التعليق الوصفي السمعي في كأس العرب. أعترف أنه بعد حوالي 15 عاما في الإعلام الرياضي، منها 10 سنوات في beIN SPORTS (الجزيرة الرياضية سابقا)، شعرت بالقلق من عدم اختياري لهذه التجربة الفريدة.
تبدد هذا القلق خلال ساعات بعد وصول إيميل القبول، وما زلت أتعامل معه دائما بأنه من بين الأمور الإيجابية بدافع تقديم الأفضل والاشتغال على تطوير السيرة المهنية تماما مثل قلق المُغني من رهبة لقاء الجماهير قبل الحفل الحي، أو الممثل المسرحي قبل اعتلاء خشبة المسرح، مهما كان قد حضّر وتمرّن لمثل هذه الدقائق.
في كأس العرب كان التعليق للمكفوفين في ملعبين مُجهزين فقط لهذه المهمة، هما ملعبا البيت والمدينة التعليمية، كان نصيبي أولا التعليق على مباراة قطر والإمارات في ربع النهائي؛ كانت مباراة غزيرة بالأهداف في شوطها الثاني الذي كان حصتي من القسمة مع زميلي، والأهداف الكثيرة تعني إثارة أكبر وتعليقا حيويا أفضل.
أعترف أنه بعد حوالي 15 عاما في الإعلام الرياضي، منها 10 سنوات في بي إن سبورتس شعرت بالقلق من عدم اختياري لهذه التجربة الفريدة.
ولكن سعيي لتقديم هوية خاصة بي في المجال منذ البداية جعلني أحاول تحدي نفسي في استراق بعض اللحظات للتعليق على أمور أخرى غير كرة القدم، واختبار مقدرتي الوصفية في البناء العمراني على سبيل المثال، وقد كنت محظوظا أن مباراتي الأولى كانت في ملعب مميز جدا من حيث التصميم: الخيمة البدوية، والألوان الفاخرة، وصور العمال الذين أسهموا في تشييد هذا الملعب التحفة. وعندما قررت الدخول في تجربة الوصف السمعي، كان علي أن أدمج هذا الوصف على نحو انسيابي مع سير أحداث المباراة، من دون أن يؤثر ذلك على تغطيتي لأحداث مهمة تجري على أرض الملعب.
كان المكفوفون وضعاف البصر يستمعون إلينا عبر تطبيق يوفر قناة صوتية باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية، وهم يجلسون في الملعب. وبالتأكيد، يمكن لأي شخص خارج الملعب تحميل التطبيق واختيار الاستماع إلى المعلق الذي يفضله.
"إنه الحلم"!
كل ذلك كان مجرد تحضير للحدث الكبير الذي انتظرناه بشغف بوصفنا صحفيين رياضيين ومهتمين بالمجال منذ الإعلان عن فوز قطر بشرف تنظيم المونديال.
التحضيرات كانت مشابهة تقريبا، مع تكثيف ساعات التدريب، ولكن الترقب والإثارة كانا مضاعفين، وبلغ الأمر ذروته عندما توجهت إلى ملعب الجنوب في الوكرة للتعليق على أولى مبارياتي في المونديال بين سويسرا والكاميرون، التي انتهت، للمصادفة، بتسجيل 6 أهداف مقسمة بالتساوي بين الفريقين. وهكذا، عايشت مرة أخرى مباراة مليئة بالإثارة والحيوية.
مباراتي التالية، جرت أيضا بملعب البيت بين إنجلترا وفرنسا في ربع النهائي. ولمباريات الأدوار الإقصائية في كأس العالم مذاق خاص ومهابة، خصوصا أنك ذاهب لتعلق على لقاء بين منتخبين عريقين ومرشحين للفوز باللقب، وسبق لهما حمل الكأس الذهبية، ولكن ما إن تبدأ التعليق حتى تنساب الأمور تلقائيا لدرجة أن شعورا يخالجك فعلا بأنه لا مشكلة لو مددت المباراة لمزيد من الوقت الإضافي؛ فالأجواء في منتهى الحماس وأنا وزميلي مستمتعان بالتناوب على وصف أحداث المباراة.
امتدت تجربة التعليق الوصفي السمعي لتشمل مباريات كأس آسيا 2023، التي أقيمت أيضا في قطر، وكنت أحد المعلقين في هذا الحدث. حماسي لهذه المهمة لم يتراجع قط، من تجربتي الصوتية الأولى حتى آخر كلمة نطقتها في وصف مباراة قطر وأوزبكستان في ربع النهائي، التي أقيمت أيضا على أرضية ملعب البيت. ولحسن حظي، كانت مباراة مثيرة ذهبت للأشواط الإضافية واستمر التشويق فيها حتى الركلة الترجيحية الأخيرة.
كان المكفوفون وضعاف البصر يستمعون إلينا عبر تطبيق يوفر قناة صوتية باللغة العربية وأخرى باللغة الإنجليزية، وهم يجلسون في الملعب. وبالتأكيد، يمكن لأي شخص خارج الملعب تحميل التطبيق واختيار الاستماع إلى المعلق الذي يفضله.
تحيز أم تشجيع؟
ينتمي معظم الصحفيين إلى هذه المهنة بدافع الحب والشغف بكرة القدم أو الرياضة عموما. أغلبنا كان مشجعا لنادٍ أو منتخب، وقضى كثيرا من الوقت في متابعة فريقه المفضل، سواء من المدرجات أو من أمام الشاشة؛ لذلك فمن النادر أن تجد أحدا يعمل في الإعلام الرياضي، بمختلف تخصصاته، غير مهتم بتشجيع نادٍ معين أو منتخب، أو لم ينشأ على الأقل من هذه الخلفية.
التشجيع في رأيي أمر طبيعي، ولكن ما هو محتم علينا أن نكون موضوعيين ومهنيين حين نقدم أي مادة صحفية رياضية للجمهور، حتى لو كان أحد أطرافها من الأندية أو اللاعبين المُفضلين لدينا، وأن نحاول قدر الإمكان جعل الانتماء موضوعا شخصيا لا يؤثر على تقييمنا للأحداث، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على التعليق الوصفي السمعي للمكفوفين كما نبهنا المدرب آلان.