مما لاشك فيه أن الحديث عن تطوير كليات الصحافة وتمكينها لتواكب العصر الرقمي حديث لايتوقف، يتجدد ويتنامى آخذاً أبعاداً وأشكالاً مختلفة، فإثراء النقاش حول تطوير مناهج الصحافة في وطننا العربي يأتي أيضاً في سياق استمرار حركة الإغلاقات التي تطال كليات الصحافة ودمجها في كليات أخرى، خاصة الأدب أو العلوم السياسية والإدارية. يأتي ذلك بعد تراجع ملحوظ لأداء الجامعات نتيجة تخلف مناهج تطبيق تلك الفلسفات والنظريات في علوم الصحافة، وهي مناهج يغيب عنها البعد التطبيقي وتوقفت عند الجانب الفلسفي والنظري، لأسباب يمكن حصرها بضعف التمويل وتراجع الإقبال على دراستها من الطلبة الجدد، وأخيراً قلة الاهتمام بتطويرها مع وجود الفجوة بين ما يدرس في قاعاتها والواقع الذي تعيش فيه دولنا العربية من كبت للإعلام وغياب للحريات الإعلامية.
إذاً، فإن كليات الصحافة في بلد مثل الصومال شحيح الإمكانات والقدرات المالية ويعاني ندرة في الكفاءات بتخصصات الصحافة، فمن الصعب أن تشهد نهضة دراماتيكية، فإذا فشلت جامعات عربية عريقة في تطوير مناهج كليات الصحافة، فإن قاع الفشل ومستواه يكون عميقاً بالنسبة لكليات الصحافة في الصومال، والتي لم تشهد تطوراً يذكر، بل ظل الصحفيون فيها ولمدة عقود يدفعون ثمن الكلمة، وضحاياها يتجاوز سبعين قتيلاً أو أزيد منذ عام 2007.
كليات الصحافة بين التقليدي والرقمي
يعود تاريخ إنشاء أول كلية للصحافة إلى عهد الراحل سياد بري سنة 1979. حينها كانت القومية الصومالية هي السائدة والطاغية، ولهذا حققت بعض النجاحات، فيعود الفضل إليها في تخريج النخبة الصحفية من الجيل الإعلامي الأول، لكن انهيار الجامعة الوطنية عام 1990 حلت محلها معاهد صغيرة لدراسة الصحافة، وهي التي لم تتوفر لديها مناهج علمية لدراسة الصحافة، بل كانت مجرد محاولات متواضعة لملء الفراغ فقط.
وتعد جامعة مقديشو أول جامعة بعد الحرب الأهلية أدخلت دراسة الصحافة وعلومها ضمن كلياتها، ودشنت كلية العلوم السياسية والإعلام عام 2004، وتخرج منها حتى الآن سبع دفعات، وبعدها جامعة هرمود التي أنشأت قسم الصحافة عام 2018 وتخرج منها دفعتان، لتعود من جديد الجامعة الوطنية التي تخرج منها حالياً ثلاث دفعات بعد أن أعادت دراسة الصحافة عام 2017 بعد توقف قرابة ثلاثة عقود.
لكن طريقة التدريس لعلوم الصحافة متشابهة في تلك الجامعات وإن اختلفت أسماؤها، حيث لاتتوفر بيئة مناسبة لدراسة الصحافة وتعاني من تحديات كثيرة، مما جعل طلبة الصحافة يفكرون في البحث عن تخصصات أخرى. إنه تفكير قاد الكثير من طلابها إلى الالتحاق بجامعات أخرى بحثاً عن تخصصات تضمن لهم مستقبلاً يحمل فرصاً واعدة في سوق العمل، بينما يصمد القليل من الطلبة إلى نهاية المشوار الدراسي، حيث تبدأ الفصول في السنة الدراسية الأولى بعدد يتراوح مابين ثلاثين وخمسين طالباً، ويتناقص هذا العدد مع انكشاف عيوب دراسة الصحافة والخلل في مناهجها، فضلاً عن غياب الجانب التطبيقي للنظريات والمعارف الصحفية التي يتلقاها الطالب في قاعات الدراسة.
تبدأ الفصول في السنة الدراسية الأولى بعدد يتراوح مابين ثلاثين وخمسين طالباً، ويتناقص هذا العدد مع انكشاف عيوب دراسة الصحافة والخلل في مناهجها، فضلاً عن غياب الجانب التطبيقي للنظريات والمعارف الصحفية.
وإذا كانت الصحافة لها كلية خاصة وتخصصات مختلفة كالإذاعة والتلفزيون والصحف، والتثميل السينمائي والإخراج، فإن دراسة الصحافة في الجامعات الصومالية هي بمنزلة شأن مختلف، فلا تتوفر فيه تخصصات مختلفة لكليات الصحافة، وتدرس فقط من خلال نظريات عامة عن الصحافة، وعدداً لا بأس به من مواد ومقررات المتطلبات والملحقات الأخرى الجامعية من معارف اللغة والقانون والاقتصاد، كما أن تلك الكليات غيبت دراسة البعد الأخلاقي والمهني للصحفي، كما لا تتضمن دروس سلامة الصحافيين في زمن الأزمات وأساليب تغطيتها، حتى لا يصبح الصحفي مادة دسمة للأخبار، ما يجعل الطالب في كليات الصحافة يدور في حلقة مفرغة الداخل فيها مفقود.
ولهذا فإن كليات الصحافة تواجه تحديات مركبة تعيق استمرارها مستقبلاً، وهي كالتالي:
1. غياب الكفاءات في تدريس مناهج الصحافة: لا يتعدى عدد الأساتذة الذين يحملون درجة الدكتوراه والماجستير في علوم الصحافة في الصومال إصبع اليد الواحدة، ما يعيق فعلاً عملية تطوير مناهج الصحافة وكلياتها، ولهذا تعتمد أغلب الجامعات في دراسة الصحافة الطلبة الذين يتخرجون فيها على دراسة الصحافة ولا يحملون شهادات عليا غير بكالوريوس الصحافة، ويفتقرون إلى سنوات الخبرة في دراسة معارف وعلوم الصحافة، وهو مشكل أيضاً ينال من مخرجات تلك الكليات ويؤثر على أداء منتسبيها بعد التخرج.
2. غياب مراكز التدريب الرقمية لكليات الصحافة: لا تتوفر للجامعات الصومالية التي تمنح تخصصات الصحافة مراكز التدريب لتطبيق النظريات وعلوم الصحافة، ما يمثل أيضاً تحدياً آخر تواجهها كليات الصحافة، وتحتاج إلى قاعات تطبيقية وغرف مجهزة بأحدث التكنولوجيا لتطبيق مناهج الصحافة عملياً، لكن إدارة تلك الجامعات لا تحمل حتى عناء التفكير في تأسس حقول تطبيقية لمناهج الصحافة، أو البحث عن شراكات للمعاهد المتخصصة التي لديها مجالات تطبيقية لمناهج الصحافة.
3. غياب التمويل وضعف الإقبال على تخصصات الصحافة: تعد معظم الجامعات في الصومال (يفوق عددها أكثر من مئة جامعة ) من القطاع الخاص، وهي ربحية بامتياز، ولهذا فإن تمويل كليات الصحافة ينظر إلى العوائد المرجوة من هذا التخصص، فإذا كان الإقبال عليها ضعيفاً، فإن التمويل المالي يسخر لكليات أخرى، مثل الطب والهندسة وعلوم الحاسوب، ولهذا فإن تخصصات الصحافة والأداب والدراسات الإسلامية وما يعرف أيضاً بـ"العلوم الإنسانية" تواجه بشكل عام مشكلة ضعف تمويلها وتطويرها، ما يجعل تلك الجامعات تلجأ إلى خيار البحث عن منح مالية لتلك التخصصات من جمعيات خيرية محلية وعربية، لتوفير منح تعليمية للطلبة الراغبين في دراسة هذه التخصصات.
معظم الجامعات في الصومال من القطاع الخاص، وهي ربحية بامتياز، ولهذا فإن تمويل كليات الصحافة ينظر إلى العوائد المرجوة من هذا التخصص.
أرقام وحقائق
ومع تراجع أداء كليات الصحافة في الصومال وضعف مخرجات العملية التعليمية، أثر ذلك سلباً على مستوى الطلبة، فالكثير منهم بعد تخرجهم، بدأوا العمل في وظائف ومهن أخرى، نظراً لعدم وجود فرص وظيفية توائم تكوينهم الأساسي، فمعظم وسائل الإعلام المحلية يحركها كادر غير مؤهل وبعضها أسس من أجل الربح وليس من أجل تغيير القناعات وخلق الرأي العام، ولهذا يفضل الخريجون الجدد من كليات الصحافة العمل في شركات خاصة، بينما يعاني الكثير منهم البطالة، التي تقدر في أوساط الخريجين في الصومال بنحو 70 في المئة.
اللافت، أن الإقبال على دراسة الصحافة ضعيف جداً، ولم تجدِ محاولات الجامعات في توفير منح دراسية لطلبة كليات الصحافة نفعاً لجذب الطلبة، وأظهرت دراسة أجريتها، شملت خمسين طالباً أكملوا دراستهم الثانوية حديثاً أن دراسة الصحافة ليست تخصصاً علمياً يتطلب الدراسة لمدة أربع سنوات بنسبة 48%، وعدَّ آخرون أن ندرة فرص العمل لطلبة كلية الصحافة يعد عائقاً كبيراً بنسبة 22%، وهذا مايعكس نظرة طلبة حديثي التخرج من الثانويات العامة حول دراسة كليات الصحافة.
بينما أظهرت دراسة أخرى شملت 30 خريجاً أن غياب البعد التطبيقي لكليات الصحافة في الصومال، يمثل بنسبة 55%، ويشكل ضعف مخرجات العملية التعليمية بنسبة 27%، مايعكس الفجوة الكبيرة الموجودة بين الجانبين الفسلفي والتطبيقي في كليات الصحافة، بالإضافة إلى أن غياب الكادر المتخصص في تدريس علوم الصحافة ومعارفها وصل إلى نسبة 18%.
ووفقاً لهذه الأرقام فإن أعداد الخريجين في كليات الصحافة في الصومال وفي ثلاث جامعات مرموقة شملتها الدراسة، أضحى دون المستوى، إذ بلغ عدد خريجي جامعة مقديشو التي دشنت كلية الصحافة عام 2004، 98 خريجا (82 ذكور و 16 إناث)، أما الجامعة الوطنية التي أعادت تدريس الصحافة ضمن كلياتها عام 2017 بعد إعادة افتتاحها عام 2014، وصل عدد الخريجين من ثلاث دفعات 66 خريجاً، (39 ذكور و27 إناث)، أما جامعة هرمود التي بدأت تدريس الصحافة عام 2018، فخرجت دفعتين فقط بلغ عددهما42 خريجا (29 ذكور و 13 إناث).
كليات الصحافة في الصومال: مستقبل مجهول
تعيش كليات الصحافة في الصومال مرحلة الموت السريري، وتتجه نحو مستقبل غامض، إذا لم تتظافر الجهود المحلية والإقليمية لدعمها، ويمكن أن تتجه إلى واحد من السيناريوهات التالية:
1- شبح الإغلاق: وهو السيناريو الراجح حالياً؛ حيث عمدت بعض الجامعات إلى إغلاق كلية الصحافة بعد نفور الطلبة من الالتحاق بها، لكنها عاودت نشاطها، وحولتها إلى قسم ثم إلى كلية قائمة بذاتها.
2- البقاء على الهامش: وهو وضع تعتمد عليه حالياً أغلب الجامعات في الصومال، دون أن تسعى لإنشاء كلية صحافة قائمة بذاتها، ولهذا باتت ملحقة وضمن قسم الأداب أو كلية العلوم السياسية والإدارية أو الإنسانية، وهو ما يضعف موقعها من بين الكليات في البلاد.
تجربة أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي
في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا ويزداد اعتماد الأشخاص على الإعلام الرقمي، تظهر الحاجة الملحة لتطوير وتحديث مجال الإعلام في العالم العربي. الصومال، كواحدة من الدول التي تسعى للتقدم، قدمت نموذجًا فريدًا من خلال "أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي".
وتأسست أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي في الأول من فبراير/ شباط عام 2017 لسد فراغ غياب المعاهد الصحفية في البلاد جراء الحرب التي اندلعت في البلاد أوائل تسعينات القرن الماضي، في حين تعاني وسائل الإعلام المحلية نقصا في كوادر صحفية قادرة على مواكبة التقنيات الإعلام الجديد. وتهدف هذه الأكاديمية إلى تدريب وتأهيل الشباب على مهارات الإعلام الرقمي الحديثة، من خلال دورات في الإعلام متعدد الوسائط، التصوير، الإنتاج التلفزيوني، والتصميم والتسويق الإلكتروني وغيرها من الدورات المكثفة في مجال الإعلام الرقمي.
الأكاديمية وسوق العمل
بفضل تدريباتها التطبيقية، ساهمت الأكاديمية في إدخال الشباب الصومالي إلى سوق العمل، مما يسر لهم البحث عن فرص عمل تتوافق مع مهاراتهم واحتياجات السوق المحلي، ومنذ تأسيسها خرجت الأكاديمية نحو ثلاثة آلاف متدرب ومتدربة شكل فيها العنصر النسوي حوالي الثلث. بينما تركز الكليات التقليدية على الجانب النظري فقط، تأتي الأكاديمية لتملأ الفجوة بين النظرية والتطبيق، مما يجعل منها نموذجًا مثاليًا للتعليم الإعلامي في العصر الرقمي.
نماذج من قصص نجاح
هناك قصص ونماذج حية وثقتها أكاديمية الصومال للإعلام الرقمي عن نجاح المتخرجين منها نعرض جزءا منها
1. قصة خضرة بيد: تعمل في قناة محلية، كمخرجة برامج أطفال ومصورة تلفزيونية
2. قصة حنان: منتج في قناة أصل المحلية، مصورة ومنتجة
3. عبد الرزاق أحمد: مصور تلفزيوني في شركة إنتاج خدمات إعلامية
التحديات والتوصيات:
رغم النجاحات التي حققتها الأكاديمية، فإنها تواجه تحديات عدة أبرزها:
1. مواكبة التطورات السريعة في مجال الإعلام الرقمي.
2. تحديات مالية تعترض سبيل التطوير.
3. يصعب على الأكاديمية استقبال عدد كبير من المتدربين غير القادرين على دفع رسوم الكورسات والدورات التدريبية.
4. الحاجة إلى أستوديوهات عصرية لضمان تقديم تدريب عالي الجودة.
ولمواجهة هذه التحديات، يمكن البحث عن دعم من جهات مانحة تتكفل بمساعدة محدودي الدخل، وبالرغم من ذلك، فإن تقبل السوق للخريجين يظل أمرًا مهمًا لضمان استمرارية الأكاديمية. لذا، يُوصى بتقوية الشراكات بين الأكاديمية والقطاع الخاص، وتحديث المناهج بشكل مستمر.