تَستهدف مؤسسات رسمية وأهلية دوائر الصحافة في الجامعات الفلسطينية التي تعج بطلبة متحمسين تجاه تخصصهم كي ينجزوا تحقيقات صحفية في موضوعات الفساد وقضاياه.. حاولتُ إشراك طلبتي في قسم اللغة العربية والإعلام بالجامعة العربية الأميركية للكتابة عن هذه القضايا ضمن مسابقة كانت هيئة مكافحة الفساد الفلسطينية طرفا رئيسيا فيها.. حاولت جاهدا دفعهم للمشاركة، لكن ذلك لم يثمر رغم الرغبة الكبيرة التي كانت لديهم، فلماذا لم ينتجوا أي تحقيق صحفي عن الفساد وقضاياه في تلك المحاولة؟
التجربة غير الناجحة وضعتني على مجموعة من الأسباب التي أعاقت -جلها أو بعضها- رغبة الطلبة في العمل على إنجاز تحقيق حول موضوع الفساد في فلسطين، كما أنها جعلت من وجودها سببا حرمهم ذلك الانخراط الصعب والمثقل بالمسؤولية واللذة معافي عمل قصص صحفية تعالج قضايا فساد هم أنفسهم يعانون من ثقلها. وفيما أحسب أن معرفة ذلك والوقوف على التجربة الفاشلة مهم جدا كي لا نجلد أنفسنا كصحفيين نعمل على تعميم هذا الفن أو القالب الغائب فلسطينيا، وكي لا نخطئ في تقييم طلبتنا المتحمسين للعمل الصحفي أيضا، فهؤلاء هم مستقبل المهنة من دون مبالغة أو تضخيم.
ما هو الفساد؟ وما هي قضاياه؟
ما هو الفساد؟ وما هي قضاياه التي على الطلبة الاهتمام بها؟ بالتجربة وجدنا أن هناك خللا في إدراك الطلبة لماهية قضايا الفساد.. عناوين مثل: إساءة الائتمان، الواسطة والمحسوبية، إساءة استعمال السلطة، الرشوة، مساس بالمال العام، كسب غير مشروع، اختلاس، تزوير، تهاون في الواجبات الوظيفية، الامتناع عن تطبيق أمر قضائي، استثمار وظيفي.. إلخ. كل هذه بالنسبة لطلبة غير متمرسين إعلاميا هي عناوين مبهمة وغير محددة المعنى، وهي كقضايا فساد غالبا ما تكون بعيدة عن النظر أو تعيش في مناطق معتمة، مختبئة خلف ربطات العنق لمسؤولين ينظر إليهم نظرة احترام وتقدير وربما شموخ!
كان التحدي بالنسبة إلى طلبتي في مساق "صحافة استقصائية" ضمن مستوى السنة الثالثة، هو كيف أقرّب هذه العناوين إليهم؟ وكيف أجعلهم يدركونها من خلال واقعهم؟ وأيّ من هذه العناوين يمكن للطلبة محاولة تناولها والاقتراب منها؟ فهم يعرفون العناوين الكبيرة عندما نتحدث عن الفساد، لكنهم يجهلون الغوص في تفاصيلها، كما أنهم الأكثر إدراكا ووعيا لكل ما له علاقة بالاحتلال واعتداءاته أو معاناة الناس الاجتماعية. أما الفساد بمفهومه العلمي ومجالاته الجديدة فجلهم عانوا من إدراكه.
بين البُعد والقلة
أغلب الطلبة في أقسام الصحافة شمال الضفة الغربية وجنوبها أيضا، يعيشون في بيئة بعيدة كثيرا عن قضايا الفساد، وجزء كبير منهم غير منخرطين في المجتمع وتعقيداته تماما.. هذا إشكال حقيقي أمام من يُدرِّس الصحافة، إنه خلل آخر مرتبط بآليات تدريس الصحافة نفسها في الجامعات الفلسطينية، وقصور من طلبة يطمحون إلى تحقيق أنفسهم.
تتعمق المشكلة السابقة مع عدم معرفة الطلبة بالنظام القائم داخل كل مدينة أو محافظة وعلاقات القوى المتداخلة وصراعاتها داخله، إذ بدون هذه المعرفة لن يتمكن الطلبة من رؤية مظاهر الفساد ولا تحالفاته. ويضاف إليه أن قضايا الفساد تحضر حسب همة المحاضر الأكاديمي في المساقات العملية، وغالبا ما لا يتم التطرق إليها بصفة محددة.
غياب الحامي المباشر
علينا الاعتراف بأن قضايا الفساد ومن يقف خلفها هي قضايا خطرة، وأن الأشخاص المرتبطين فيها خطرون، والأهم أن لديهم نفوذا واسعا وعلاقات ممتدة قد تتحول إلى يد باطشة غالبا ما تبدأ بالتهديد. هنا سيكون المحاضر أو المشرف على عمل الطلبة في حيرة من أمره، فهو لا يمتلك عمليا مصادر حماية لطلابه، إلا من نسَجَ علاقات واسعة مع النظام السياسي الحاكم بمسؤوليه وأجهزته الأمنية في فعل يتناقض مع المهنية الصحفية والأكاديمية، أما الجامعات فلا يخطر ببالها إطلاقا أن حماية طلبتها جزء من دورها التعليمي.
قبول الفساد وتقبله
بعض القضايا التي تصنف على أنها فساد تعتبر مقبولة عند المجتمع المحلي، وبالتالي مقبولة عند بعض الطلبة، فمثلا قسم كبير من الطلبة لا يعتبرون الغش أمرا سلبيا، وحتى لو نظروا إليه على أنه سلبي، فإنهم لا يمتنعون عن ممارسته. يمكن القياس على ذلك حين يعتبر البعض الواسطة، والاستثمار الوظيفي، أو إساءة استخدام السلطة؛ "شطارة". ومردّ ذلك إلى مفاهيم راسخة مجتمعيا، لم ينظر الطلبة من قبل على أنها فساد وجزء من معاول هدم المجتمع، حيث الأخير يتسامح معها ويتصالح مع أطرافها.
ومن هنا، يقع على عاتق المحاضر الجامعي جهد كبير في زرع قيم جديدة وإقصاء القيم السلبية التي لا تجعل من الصحفي غير المتحقق (الطالب) عنصرَ تغيير ودفع في مواجهة الفساد والفاسدين.
يضاف إلى ذلك أن هناك إحساسا لدى الطلبة -يمكن تعميمه على جزء كبير من الصحفيين- مفاده أن الفساد في فلسطين غول، جبل كبير لا يمكن هدمه، وهو ما يولد يأسا وإحباطا عاما يمنع الطلبة من الاقتراب منه.. إنه أكبر من قدراتهم، فهو تصور ذهني موجود وراسخ تقريبا، بغض النظر عن مقدار الدقة في ذلك.
وقت التحقيق ووقت المساق
مع الزمن هناك تحديات كثيرة، إنه سيف حقيقي وحاد، أي تحقيق حول موضوع فساد يتطلب زمنا يطول ونادرا ما يقصر، وغالبا يطول ويطول.. الزمن الآخر مرتبط بالمساق الدراسي الذي ينجز الطالب التحقيق كأحد متطلباته (4 أشهر كحد أقصى).
غالبا ما يتعارض الزمنان ولا يتوافقان، ونخسر عندها فرصة إنجاز تحقيق صحفي متكامل أمام ضغط الزمن. وإن كانت هناك مسابقة يريد الطالب الاشتراك فيها كنوع من التشجيع، فتكون هي ذاتها زمنا ثالثا ضاغطا يعمل ضد العمل الصحفي الاستقصائي.
فقدان المهارات الخاصة
تتبع أغلب قضايا الفساد يحتاج إلى مهارات وقدرات خاصة، أغلب الجامعات لا تمنحها للطلبة عبر مساقات، حتى إن بعض المدرسين لا يمتلكون هذه القدرات الجديدة. التعريف بقضايا الفساد جانب ضئيل من منظومة عمل متكاملة ترتبط بالخبرة القانونية، ومهارات الكتابة، وطرق البحث والتحقق، واستخدام التكنولوجيا الحديثة للتتبع والملاحقة، والأمان الرقمي.. إلخ.
هذه مهارات جديدة على بيئة العمل الصحفي التقليدية، وهي أصيلة في أي عمل استقصائي ناجح، فكيف يتزود الطلبة بها في ظل أن المناهج التدريسية لا تمكنهم منها؟
ماجد العاروري الإعلامي المختص بالجانب الحقوقي، الذي عمل منسقا لمسابقة خاصة بطلبة الصحافة في الجامعات الفلسطينية والهيئة الأهلية لاستقلال القضاء وسيادة القانون بالتعاون مع هيئة مكافحة الفساد (هيئة رسمية)، قال إن التجربة لم يكتب لها النجاح رغم وجود مجموعة لا بأس بها من التحقيقات المتباينة المستوى.
والعاروري يرى أن التخصص هو ما ينقص أقسام الصحافة في الجامعات الفلسطينية، كي تتمكن من رفد السوق بصحفيين محققين متمكنين ومتسلحين بالمهارات المطلوبة، ومن دون ذلك ستقتصر علاقة الطالب مع التحقيقات الصحفية في مساق دراسي واحد لا يمكّنهم من خوض غمار تجربة العمل الاستقصائي.
واقع الحريات المتراجع جدا
لا نستطيع فصل الطلبة أو بيئة الجامعة عن واقع الحريات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو واقع لا يشجع على انخراطهم في العمل على قضايا الفساد، حالات لا حصر لها تدلل على أن القمع في تزايد، وأن الحرية لها سقف منخفض جدا، ينتج ذلك حالات خوف عامة أو تَهيّب وتراجع أمام أول عقبة أو تحذير في ظل عدم وجود جهة تساند الطلبة وتدعمهم.. هنا لا تقوم الجامعات بدورها المتوقع أيضا في حماية الطلبة والدفاع عنهم.
مواجهة الفساد تحتاج إلى مؤمنين يمتلكون الجرأة والرغبة والقدرة على تحمل الضريبة، وفي ظل واقع الحريات كالذي نعيش فيه تعتبر الضريبة عالية جدا. صحفيون كثر اعتقلوا خلال العام الحالي لأسباب لها علاقة بمنشورات على صفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي أو بتصوير موكب شخصية عامة، أو بنشر معلومات مالية عامة، وذلك بالاعتماد على قانون القبضة الحديدية (قانون الجرائم الإلكترونية) وكل ذلك يضاعف من مرض الرقابة الذاتية ويضاعف الخوف في نفوس طلبة لم يختبروا ويلات مجتمع الصحافة بعد.
غياب المعلومات وسهولة حجبها
أغلب قضايا الفساد كي يتم الحكم عليها تحتاج إلى معلومات، قد يمنحنا مصدرٌ ما طرف خيط، لكن من دون معلومات لا يمكن أن نسير على الطريق، هذا أمر يعاني منه الصحفيون المتمرسون، فكيف بطلبة الصحافة في الجامعات!
كما أن هناك نظرة متعالية من المسؤول تجاه الصحفي المحلي، فكيف بطالب الصحافة المحلي، إذ غالبا ما يتهرب المسؤول من مقابلة الطالب الصحفي، ولا يمنحه الاهتمام أو الوقت المناسبين، ويُستهتر به من خلال عدم الرد على اتصالاته أو التذرع بالانشغال دوما.
تكتمل الحلقة في ظل غياب القانون الخاص بحق الحصول على المعلومات الذي يُنادى بإقراره، ويقابل ذلك صمت القبور من الجهات الرسمية.
العلاقات الاجتماعية
التداخل المفرط العائلي والاجتماعي والسياسي والأمني في مجتمع تقليدي صغير، أمر قد يوفر حماية للطالب الصحفي في ظل غياب القانون، لكنه بالمرتبة الأولى يعيق عمله على قضايا الفساد. فطوال مرحلة البحث ومن ثم جمع المعلومات، وأخيرا كتابة المادة الصحفية، يتعرض الطالب لمجموعة من الضغوط التي قد تدفعه للتوقف عن إكمال تحقيقه.
قبل أيام وأثناء زيارة لنفق أثري كنعاني في مدينة فلسطينية، اتصلت صحفية تخرجت حديثا بالمسؤول مستفسرة عن أسباب غياب مصادر الإضاءة التي تجعل من إمكانية دخول النفق ممكنة، ودار هذا الحوار:
الصحفية: أنا صحفية...، واسمي كذا.
المسؤول: أهلا وسهلا.
الصحفية: أنا على مدخل النفق الأثري ولكن الإضاءة غير متوفرة.
المسؤول: أهه..أهه.. والمطلوب؟
الصحفية: كيف سيأتي السياح لرؤية النفق طالما هو بلا إضاءة؟
المسؤول: مممم.. اسمعي: أنا من عائلة كذا من بلد كذا.. وأنت من عائلة كذا في بلد كذا.
الصحفية: أنا صحفية سيدي.
المسؤول: بلدنا صغيرة وبنعرف بعض.
وأغلق الهاتف.