"الصحفي المناضل"، عبارة يستعملها البعض، لوصف الصحفيين، الذين يتابعون قضية تحظى باهتمام الرأي العام، وينتصر فيها الصحفي، للحقيقة، والطرف الأضعف، لولا أن هذه العبارة التي تقرن الصحافة بالنضال، حمالة أوجه، وأثارت وتثير الكثير من الجدل، خصوصا في فترات الأزمات.
عاد النقاش عن الحدود بين الصحافة والنضال، للواجهة في الولايات المتحدة الأميركية، مع ظهور العديد من القضايا التي تحظى بدعم شعبي كبير، كقضية العنصرية ضد الأميركيين السود، ومنع بيع الأسلحة، وحملة محاربة التحرش. كلها قضايا "عادلة" كانت وسائل الإعلام، في مقدمة الصف في تغطيتها ومنحتها الزخم اللازم. ومعها عاد النقاش القديم الجديد، هل الصحفي مناضل ونشاط حقوقي؟ وهل الصحافة هي نوع من النضال؟
ولم تكن المنطقة العربية، بمنأى عن هذا الجدل، خصوصا في فترة الربيع العربي، حيث انقسمت وسائل الإعلام العربي والصحفيون إلى فسطاطين: اختار الأول الوقوف في ميادين الاحتجاج ومع المحتجين، وكان صوتهم، واختار الثاني الجلوس في خندق السلطة والأنظمة وكان بوقا لها. خلال تلك الفترة، تميز العديد من الصحفيين العرب، وباتوا من أيقونات الميادين العربية ولعبوا دورا في توجيه الجماهير والتأثير في الحراك الشعبي، فتحول الصحفي إلى ناشط ومناضل ضد الديكتاتورية وقمع المتظاهرين.
وما يزيد من تعقيد هذه الإشكالية، التي حظيت بنقاش كبير في الأوساط الصحفية العالمية، أن المساحات المشتركة بين النضال والصحافة عديدة، والخطوط الحمراء تبقى رفيعة وتحتاج لحس مهني جد عالٍ، ما أدى إلى ظهور ثلاث مدارس، الأولى ترفض رفضا قاطعا أي علاقة بين النضال والصحافة، والمدرسة الثانية تعتبر أن الصحافة هي شكل من أشكال النضال ضد الظلم والفساد وغلبة القوي على الضعيف، أما المدرسة الثالثة فتقول بوجود مساحات مشتركة بين العمل النضالي والصحافة المهنية، وبأن الحكم على الأمر يبقى رهينا بطبيعة القضية موضوع النقاش.
خطوط حمراء بين الصحافة والنضال
تعودت معاهد الصحافة والإعلام على تلقين طلبتها أن الصحافة هي صوت من لا صوت له، ما معناه، أن تقف مع المظلوم، ومن سلب حقه، ومن لا يملك الوسائل المادية والمعنوية، للدفاع عن حقوقه، ومع ذلك يصر عدد من وسائل الإعلام والمعاهد الصحفية العالمية على عدم إدخال الصحافة في خانة النضال، بل يعتبرون أن دخول الرأي في القصة الصحفية، قد ينسف لب العمل الصحفي القائم على نقل الوقائع، كما تفعل الإذاعة الوطنية العمومية الأميركية "NPR".
وتقول هذه المدرسة التي باتت تسمى في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بالمدرسة القديمة، إن مهمة الصحافة تتمثل في نقل الأخبار والوقائع، وتقديم القصة الصحفية للقارئ الذي له كامل الحرية في أخذ الموقف الذي يراه مناسبا من القضية، وتنبه إلى أن الموضوعية التي يتطلبها أي عمل صحفي، لا تتماشى مع النضال الذي يعني بالضرورة تبني موقف معين، وأحيانا حتى خدمة أجندة معينة دون غيرها.
هذا الموقف الصارم والمتوجس من اختلاط الصحافة بالنضال تفسره، الدكتورة إنديرا لاكشمانان، رئيسة قسم الأخلاق في مؤسسة "بوينتر"، بكون العديد من المؤسسات الإعلامية باتت تغير في سياستها الأخلاقية وتستعيض عن مصطلح الموضوعية بمصطلحات من قبيل الدقة في نقل الوقائع، وعدم اجتزاء الأحداث أو التصريحات، وتقول الخبيرة في أخلاقيات المهنة إن هذا التغيير، الهدف منه، هو رغبة وسائل الإعلام الظهور بمظهر المنخرط في القضايا التي يهتم بها الرأي العام، وبأنها تعالجها على أساس خلفيتها وخبرتها في التغطيات الإخبارية.
ومن المهم هنا عرض تجربة، الصحفي الأميركي، بيل كيلر، الذي كان ضمن كبار محرري صحيفة نيويورك تايمز، قبل أن ينتقل للاشتغال ضمن إدارة تحرير "مشروع مارشال" وهو مؤسسة إخبارية غير ربحية، تركز على الاختلالات في منظومة العدالة الأميركية، ويقول كيلر إن مهمتهم ومهمة أي الصحفي يجب أن تكون نقل المعلومة الدقيقة والموثوقة في زمن الأخبار الزائفة، وبعدها يمكن لأي طرف أن يستعمل هذه الأخبار حسب توجهه ورؤيته للأحداث.
وبالإضافة للأخبار الزائفة التي باتت مؤرقة لوسائل الإعلام المهنية، هناك ظاهرة، تدفع المنافحين عن استقلالية العمل الصحفي عن النضال المدني والسياسي، ألا وهي قيام العديد من الجمعيات الحقوقية والبيئية كمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، و"وكرين بيس" البيئة، بإنتاج مواد صحفية، بمعدل 20قصة صحفية في الأسبوع، عبر مواقعها الإلكترونية، وتوظف صحفيين للقيام بالأمر، وبالتالي باتت المنظمات التي تناضل في قضايا مدنية وحقوقية وبيئية، قادرة على توفير المحتوى الإعلامي الذي يناسب سياستها، وتوجهها، ويبقى على وسائل الإعلام أن تبقى محافظة على مسافة من الأجندات والخلفيات السياسية والفكرية، في التعامل مع أي قضية.
وكما تمت الإشارة إليه في بداية المقال، فقد عاد النقاش حول العلاقة بين النضال والصحافة، على خلفيات المسيرات المليونية التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية، للمطالبة بالكف عن بيع الأسلحة، حيث انخرط العديد من الصحفيين الأميركيين في المسيرات، وألقوا خطابات مؤيدة للحركة، وهو ما أثار غضب عدد من الصحفيين، من بينهم الإعلامي الأميركي، جوش كروشار، المحرر في صحيفة "ناشيونال جورنال" الأميركية، الذي كتب على حسابه في تويتر، إن اختلاط النضال بالصحافة "يقتل المهنة"، محذرا من المبادئ الجديدة التي باتت تلقن للطلبة في معاهد الإعلام، والتي تربط الصحافة بالنضال، وهو ما يجعل العديد من الصحفيين الشباب لا يميزون بين النشاط السياسي والمدني وبين ممارسة الصحافة حسب قوله.
ويمكن أن نطلق على وصف المدرسة أنها المدرسة المحافظة في الصحافة، والتي ترى أن هذه المهنة يجب أن تبقى بعيدة عن الاختلاط بالأيديولوجيا والأجندات، وأن تتفرغ للمعارك الحقيقية، لمواجهة الأخبار الزائفة، والإشاعات، وتراجع الثقة في وسائل الإعلام.
السعي نحو الحقيقة هو النضال
وهكذا، اقترن النضال بالعمل الصحفي وانتشر بشكل كبير في أوساط الصحفيين الشباب، أو ما يسميه البعض المدرسة الحديثة. ومردُّ ذلك -حسب البعض- إلى ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي. ففي السابق كان الرابط بين الصحفي والقارئ هو ما ينتجه من مواد صحفية، أما الآن، فقد جعلت مواقع التواصل الاجتماعي، الصحفي في قلب كل النقاشات، وبات تحت الأضواء، وقريبا من القارئ، ويتفاعل معه، في كل وقت وفي أي مكان.
انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها، دفع كثيرا من الصحفيين للتعبير عن مواقفهم وآرائهم حول العديد من القضايا، أحيانا عن قناعة وأحيانا تحت ضغط الطلب من طرف مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تريد أن ترى أن الصحفي يقف معها ويناصرها في قضاياها، وإلا ناله الانتقاد وربما تعرض حتى للتجريح والتشكيك في مصداقيته.. أمرٌ دفع مؤسسة مثل الإذاعة الوطنية العمومية الأميركية للطلب من صحفييها أخذ الموافقة من الإدارة قبل المشاركة في المؤتمرات أو الأنشطة المدنية، بل وتمنع على صحفييها استعمال حساباتهم للتعبير عن آرائهم السياسية، حسب دليلها الأخلاقي.
وإضافة لانخراط الصحفيين بشكل أكبر في النقاشات التي تعرفها مجتمعاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هناك رأي يقول إن السعي وراء الحقيقة هو نضال في حد ذاته، خصوصا أمام اجتهاد الأنظمة والمؤسسات المالية في حجب الحقيقة والمعلومة، وهكذا نجد ويسلي لوري، الصحفي في "واشنطن بوست"، والحائز على العديد من الجوائز بسبب اشتغاله على قضايا العنصرية في الولايات المتحدة، يكتب على تويتر أن "خلف كل تحقيق كبير وطويل، هناك صحفي يقوم بنوع من النضال يوميا، فأي صحفي جيد هو مناضل من أجل الحقيقة ومن أجل الشفافية، وعملنا الصحفي يقتضي الضغط على الأشخاص الأقوياء والمؤسسات النافذة وإحراجها بأسئلتنا".
وترى بعض المؤسسات الصحفية، أن النضال يتمثل في اتخاذ موقف حاسم لا يقبل الحياد، كما فعلت مؤسسة "بوز فيد" الأميركية، التي وضعت دليلا أخلاقيا، تقول فيه إن قضايا مثل حقوق الإنسان ومناهضة العنصرية وحقوق المرأة لا تقبل الرأي والرأي المخالف، وبأن دعمها يجب أن يكون مطلقا، وهو نفس الخط الذي اختارته العديد من وسائل الإعلام الأميركية الشهيرة، عندما رفضت منح الكلمة للحركات النازية التي عادت وبقوة للشارع الأميركي.
وفي نفس السياق، فقد ظهر خلال الاحتجاجات ضد قتل السود من طرف الشرطة الأميركية، نوع من النضال "المحمود" وهو تواجد الصحفيين بين المتظاهرين، لتغطية الاحتجاجات، التي كانت أحيانا تنتهي بمواجهات. وهنا لو يتم طرح السؤال على أي صحفي مهني، هل تفضل أن تكون وسط الحدث وشاهدا عليه أو تراقب من خلف الحواجز الأمنية، فالكثير منهم سيفضل التواجد بين المتظاهرين، لنقل ما يحدث بتفاصيله، وهو ما اختاره العديد من الصحفيين العرب أيام الربيع العربي عندما نزلوا إلى الميادين، وشاركوا المحتجين خيامهم لأيام، فهنا تحقق مبدأ النضال من أجل الحقيقة ومن أجل إسماع صوت المتظاهرين الذين كانت دعاية الأنظمة تشوه صورتهم وتقلل من أهميتهم، وتتهمهم بالعمالة لجهات أجنبية.
وأمام كل هذه المعطيات ترى المدرسة الحديثة أنه لا مناص من ربط الصحافة بالنضال، خصوصا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وما باتت تفرضه على الصحفيين من تفاعل ومشاركة لهموم المواطنين، وأيضا بالنظر للأحداث الانتقالية التي يشهدها العالم والتي لا تقبل أحيانا الوقوف على الحياد خصوصا في الدول العربية التي تكثر فيها المظالم.
حتى لا يصبح الصحفي هو الموضوع
أمام وجهتي النظر المتباعدتين حول العلاقة بين الصحافة والنضال، تظهر وجهة ثالثة تقول إن الصحافة يمكن أن تكون نضالا، لكن دون أن تتخلى عن وظيفتها الأساسية والتي هي بالأساس الإخبار، ويقول أصحاب هذا الرأي، إنه يجب الاستناد على نظرية الأولويات، Agenda setting Theoryوتفيد هذه النظرية، بأن وسائل الإعلام بإمكانها أن تحدد للقارئ المواضيع التي يجب أن يفكر فيها، من خلال التركيز على موضوع بعينه لمدة معينة وبزاوية معالجة محددة.
وهكذا قد تصبح وسائل الإعلام مناضلة من خلال تغطية مستمرة لموضوع معين، كالحروب مثلا، أو حملات محاربة العنصرية، فتكرار هذه المواضيع، سيجعل منها أولوية لدى القارئ، وهكذا سيتمكن الصحفي من ضرب عصفورين بحجر: الأول لفت انتباه الرأي العام لقضية بعينها، ومن جهة ثانية سيحافظ على الموضوعية في تغطية الخبر.
فقط يجب التحذير من أن الانخراط في حملة إعلامية لصالح قضية وإن كانت عادلة، يجب ألا يحول الصحفي إلى موضوع، أي أن يصبح هو المادة عوض القضية، وهناك مثال شهير في هذا الباب، وهو مثال الصحفية ليندا كرين هاوس، الحاصلة على جوائز إعلامية مرموقة، واشتغلت لصالح صحفية نيويورك تايمز، وغطت المظاهرات أمام المحكمة العليا الأميركية للمطالبة بالحق في الإجهاض، حيث ناصرت الصحفية هذه المظاهرات، بل وأخذت الكلمة في العديد من المناسبات، ما جعلها أحد أيقونات المظاهرات، إلا أن تقريرا للإذاعة الوطنية العمومية الأميركية تساءل عن مدى موضوعية الصحفية في تغطيتها للأحداث، بعد أن باتت هي موضوع للتغطية.
هنا يختلط النضال بالصحافة، وتثار الكثير من الأسئلة حول ما يكتبه الصحفي، إن لم يتحكم في مشاعره أثناء تغطيته لأحداث وإن كان متعاطفا معها ومؤمنا بقضيتها، لأن ما يهم القارئ هو الحقيقة وما يحدث على الأرض، وليس ما يشعر به الصحفي أو موقفه من الحدث.
ولهذا على الصحفي أن يجعل من البحث عن الحقيقة وتحري الدقة هدفه الأساسي، ولعله هدف خطير كلف صحفيين حياتهم، وآخرين حريتهم خصوصا في الدول العربية، وهذا ما يطلق عليه البعض النضال وهو نضال من المعلومة الصحيحة، التي تعتبر لب العمل الصحفي.