تحوّل العديد من المواطنين إلى صحفيين محترفين وصلوا إلى العالمية بسبب أعمالهم التي نالت صدًى واسعاً لدى الرأي العام في عدة بلدان عربية. ولعل الحروب التي حصلت في بعضها كانت أبرز العوامل التي جعلت من بعض المواطنين الصحفيين خبراء في هذا المجال.
الخطوة الأولى انطلقت مع الحاجة إلى تغطية ما يجري على أرض الواقع ونقله عبر وسائل الإعلام، هكذا اتجه غالبية الناشطين إلى النشاط الإعلامي لأجل الدفاع عن قضية معينة، لكن مع استمرارهم في هذا النشاط باتوا يبحثون عن تطبيق المهنية في أعمالهم، الأمر الذي جعل العديد من وسائل الإعلام العالمية تتعاقد معهم وتعتمد في نقل الأخبار عليهم، مُتَخليةً في ذات الوقت عن صحفيين مختصين.
قبل سبع سنوات تقريباً كان عشرات الصحفيين مواطنين لا يعرفون عن الإعلام سوى القليل، لكنهم باتوا اليوم خبراء فيه وكأنهم درسوا في أكاديميات مختصة بالعمل الصحفي، معتَمِدين على الدروس العملية التي مارسوها مباشرة على أرض الميدان، إذ تلقى العديد منهم دورات في مجال إعداد الخبر وتحرير التقرير الإخباري وإنجاز التحقيقات الميدانية والمقابلات الصحفية والتحقيقات الاستقصائية، وتمكنوا من إتقان ما تعلموه في الميدان ليصل البعض منهم إلى مرحلة متقدمة من العمل الصحفي ويترشحوا للحصول على جوائز عالمية في حرية الصحافة.
البداية من حلب
في سوريا، دخل العديد من الشباب في مهنة الإعلام، ولكن برزت أسماء قليلة لأشخاص وصلوا إلى العالمية عبر أعمالهم الإعلامية التي شهدت رواجاً واسعاً.
فادي الحلبي، شاب عشريني من مدينة حلب، دخل المهنة بالتزامن مع بدء المظاهرات في المدينة الواقعة شمالي سوريا، يصف تلك المرحلة بالقول: "دخلت مجال الإعلام بالتزامن مع بدء المظاهرات في حلب، وغياب الصحفيين وتزوير الحقائق".
ويضيف "كبداية لم أكن أتوقع أن تنتشر أعمالي، كان حلمي أن أخرج أمام شاشة التلفاز والناس يشاهدونني، وبعد نحو سنتين من العمل في مجال التصوير، بدأت تطوير نفسي وتقديم محتوى مختلف عن ذلك الذي كان يعرض على مواقع التواصل الاجتماعي عبر تدريبي المستمر في الإعلام وخاصة في قسم التصوير".
بعد نحو سنتين من عمله في ذلك المجال، بدأ الحلبي مرحلة جديدة بعد توقيعه عقداً مع الوكالة الفرنسية (AFP)، وبذلك حصل على فرصة للعمل في وكالة عالمية رغم أنه مبتدئ.
لم يقتصر عمل الحلبي على التصوير فقط، بل كان يعدّ التقارير المصورة، ونُشرت أعماله في عدة قنوات محلية على مستوى سوريا وقنوات عربية أخرى، إلى أن أتته الفرصة ليبدأ العمل مع BBC و CNNوTRT وعدة وكالات عالمية.
ويكمل "في عام 2015 اتجهت للعمل في مجال الوثائقيات، كنت أطور من خبراتي في مجال التصوير لغايات كثيرة لعل أهمها إظهار الحقيقة التي يعمل النظام السوري على تزويرها، وذلك من أجل أن تعرف الأجيال القادمة ما حلّ بسوريا".
مضى على عمل الحلبي في مجال الإعلام نحو سبع سنوات، ونال المركز الثاني في مهرجان "روري باك" لأفضل مصوري الحروب، وساهم في تصوير فيلم "آخر الرجال في حلب" الذي رشّح لجائزة الأوسكار العالمية هذا العام.
شغف المعرفة
في الوقت الذي تغير فيه النظام العراقي بفعل التدخل الأميركي في العراق، بدأ الشاب أسعد الزلزلي الذي كان يعيش في بغداد؛ يهتم بدخول الإعلام كهواية، محاولاً من خلال ذلك أن يطلع على الحقائق التي تكون أحياناً مخفية.
في عام 2004، بدأ الزلزلي يعمل في الإعلام كهواية لا أكثر، واستمر عمله لينضم إلى العديد من المؤسسات الإعلامية ويطور من خبراته في ذات المجال، فعمل في صحف محلية ودولية وبقي يطور من مهاراته إلى أن دخل مجال الاستقصاء.
رغم أن الزلزلي حاصل على شهادة في هندسة الديكور عام 2006 فإنه أولى الإعلام اهتماماً أكبر، فدرس في جامعة الإمام جعفر الصادق ضمن كلية الآداب بقسم الإعلام، وعمل بعد ذلك مع قنوات عديدة مثل قناة "بلادي" العراقية وقناة "الحرة العراق" و"اللؤلؤة" البحرينية، ليبدأ بالتركيز على إنجاز التحقيقات الاستقصائية التي تظهر الحقيقة وتبين الفساد.
يقول في حديثه لمجلة "الصحافة": منذ صغري كنت أحب الإعلام والإنشاء والتعبير واللغة العربية بشكل عام، كنت من المعجبين في التسعينيات ببرنامج "سري للغاية" للصحفي المعروف يسري فوده وكان يعرض على القناة "العراقية".. بالفعل كان برنامجا مميزا وحاز على اهتمامي وقادني إلى حب الإعلام.
يعيد الزلزلي السبب إلى العراق في تخصصه بالإعلام حيث يقول: "إن العراق واحة كبيرة للإعلاميين، فمنذ صغري كنت أسمع عن الحرب العراقية الإيرانية والحرب العراقية الأميركية وتغيير النظام ودخول القوات الأميركية والاقتتال الطائفي وعدم الاستقرار الأمني.. هذه المتغيرات جعلتني أتحول إلى الصحافة وأبتعد عن الكتابة والأدب".
الصحفي يحاول باستمرار أن يجد الحقيقة ويكون على دراية كاملة بما يجري من حوله، خاصة في بلد مثل العراق حيث يشهد تغيرات كثيرة ومختلفة في كل حقبة زمنية، وفق رأي الزلزلي.
حاز الزلزلي على عدة جوائز لقاء أعماله الإعلامية، كان آخرها عن تحقيق يتحدث عن أطفال وعائلات تنظيم داعش ومصيرهم المجهول، إضافة إلى تحقيقات أخرى عن الفساد والاتجار بالأدوية وبيعها في السوق السوداء والاتجار بالأعضاء البشرية وواقع المتسولين والعصابات التي تسيطر عليهم.
الصحفي ضحية
في اليمن، تخصص العديد من الشباب في مجال الإعلام، ولعل أبرزهم الشاب أصيل سارية الذي ما إن أكمل دراسته الجامعية حتى دخل مضمار التحقيقات الاستقصائية، لينجز أعمالاً انتشرت على نطاق واسع وتجاوزت حدود البلاد.
دخل أصيل الذي يكاد يكمل عقده الثالث مجال الإعلام عام 2007، حيث سجل في كلية الإعلام بجامعة صنعاء، وباشر بكتابة مجموعة من المقالات القصيرة في بادئ الأمر. وفي سنته الدراسية الأولى، كلف بإعداد تحقيق صحفي عن مشاكل الطلاب التي تواجههم في الجامعات الحكومية، فكانت التجربة ثقيلة بالنسبة له، لكنه -حسبما يقول- تمكن من إعداد التحقيق ونشر في صحيفة حكومية.
ورغم أنه كان قد اختار طريقه واتجه إلى الاختصاص في مجال العلاقات العامة والإعلانات، فإنه بدأ التركيز على العمل الصحفي وتحديداً "العمل التلفزيوني" وتمكن -بالتعاون مع زميل له- من إنجاز برنامج اجتماعي استقصائي تلفزيوني لقناة "اليمن اليوم"، لاقى جماهيرية واسعة بعد عامين من استمرار البرنامج الذي أنتج 66 فيلماً وثائقياً.
وجد أصيل نفسه في ميدان الاستقصاء، ليتحول إلى العمل مع شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية العربية عام 2015، فتلقى العديد من التدريبات ذات المستوى المتقدم مع الشبكة، يقول: "إن العمل مع شبكة أريج كان من أكثر التجارب التي جلبت لي الفائدة على المستوى المهني، حيث وصلت إلى قناعة بأن العمل الاستقصائي هو الأكثر مهنية، وهو ما يحتاجه الصحفي الطموح".
أنتج أصيل أكثر من سبعة تحقيقات تلفزيونية ذات قيمة عالية وجودة صحفية ومهنية كبيرة، ومن بينها تحقيقات عابرة للحدود بثت في قنوات عديدة ومنهاDW العربية. وفي عام 2017، حصد المركز الثاني عن تحقيق "أسياد وعبيد" ضمن مشاركته في مسابقة "سمير قصير" الدولية لحرية الصحافة والإعلام، الذي تم إنتاجه بالتعاون مع شبكة "أريج" وبالشراكة مع الصحفي اليمني أحمد الواسعي.
وحول أهم النقاط التي يمكن مراعاتها للصحفيين العرب الذين يعملون في مناطق تشهد نزاعاً، يقول أصيل: "الصحفي في مناطق النزاع دائماً ما يكون الضحية، فأولاً هو ضحية نفسه إن قرر أن يكون جزءاً من أطراف الصراع بحكم أنه ناقل للحقيقة ولا بد أن يتحلى بالحيادية، لذا يجب ألا يُقادَ إلى الضغوط والإغراءات من أي طرف كان"، مؤكداً "أن أطراف النزاع تحاول أن تستقطب الصحفيين إلى طرفها ليكونوا مدافعين عنها في ميدان الإعلام، ومتى ما انقاد الصحفي لذلك فإنه يكون ضحية نفسه". ويضيف أن على الصحفي "أن يعمل حسب القواعد العامة للسلامة المهنية، وأن يكون قادراً على اتخاذ القرار الجيد، لأن المجازفة في مناطق الصراع لا تصنع سبقا صحفيا وإنما تصنع شهيدا صحفيا".
ويتابع حديثه: نسعى دائماً لإظهار الحقيقة، فقد عملت خلال تحقيق "إغاثة سوداء" على إثبات التلاعب الحاصل في المساعدات الإنسانية المقدمة لليمن من المنظمات المانحة، بينما كانت الحكومة تنكر ذلك، واستطعت أن أثبت ذلك في التحقيق.
ويعطي أصيل مثالاً آخراً حول تحقيق "أسياد وعبيد" حيث يقول: "استطعنا أن نثبت أن هناك شرائح عديدة في اليمن تتعرض للتميز والحرمان من العمل بسبب نظرة المجتمع لها، وكانت نتيجة التحقيق عظيمة، حيث تم تعيين أحد الأشخاص الذين ظهروا في التحقيق ضمن مركز تعليمي مهم حُرم منه بسبب نظرة المجتمع له". ويضيف: "في الحقيقة أنا وأي صحفي آخر يشعر بالنشوة عندما يتحقق الهدف من أي عمل، ويُنصَف من ظلم ويعطي حقه من حرم؛ بسبب عمل صحفي يبذل فيه القليل من الجهد".
من السياحة إلى الصحافة
من مرافق سياحي إلى صحفي محترف يعمل في مجال الصحافة الاستقصائية، هكذا بدأ الليبي معتز علي الحاصل على شهادة في الأدب الإنجليزي عام 2001، والذي لم يتمكن من العمل في اختصاصه بالتعليم والترجمة، فانتقل عام 2002 إلى العمل في شركة سياحية داخل ليبيا.
وخلال حديثنا معه عن البدايات، قال معتز: "الشركة السياحية التي عملت معها كانت من الشركات الرائدة، فاكتسبت خبرة في مجال التسويق، وفي عام 2005 أسست شركة خاصة بمشاركة إحدى الشركات السياحية الكبيرة في ليبيا"، ليكون التسويق هو الباب الذي ولج منه إلى عالم الصحافة، حيث كتب العديد من المقالات المختصة بالقسم السياحي، ونشرها على الموقع الإلكتروني الخاص بشركته.
لكن مع اندلاع الثورة في ليبيا عام 2011 وانهيار الوضع الأمني، دُمّر حينها النشاط السياحي في البلد، الأمر الذي تأثر به الشاب الليبي وبدأ يفكر في العودة من جديد إلى الكتابة، وسرعان ما تحولت الهواية إلى احتراف.
في بداية الأمر، راسل عدة صحف ومجلات من بينها صحيفة إلكترونية ناطقة بالإنجليزية ومهتمة بالشأن الليبي "ليبيا هيرالد"، وفي عام 2013 بدأ العمل بشكل رسمي في الصحيفة لمدة أربع سنوات متواصلة، كتب خلالها مئات الأخبار والتقارير الصحفية.
خلال المهام التي شغلها معتز، بدأ يفكر في تطوير مهاراته أكثر وهذا ما ساعده ليجتاز حدود ليبيا ويعمل مع عدة مجلات وصحف مثل "دي.سي" الألمانية وموقع "أويل برايس" الأميركي المهتم بالنفط. ولم يكتف بهذا القدر من تطوير مهاراته، بل انتقل بعد اكتسابه خبرة في إعداد الأخبار والتقارير والتحقيقات الميدانية إلى مضمار التحقيقات الاستقصائية، ليؤسس بالتعاون مع زملاء ليبيين مهتمين بالصحافة الاستقصائية منظمة مجتمع مدني سمّوها "المؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية"، ومن خلالها بدأ معتز وزملاؤه التواصل مع المؤسسات العربية الأخرى لتطوير مهاراتهم في ذات المجال.
الشجاعة مفتاح العمل الصحفي
مسؤول الملف السوري في موقع "العربي الجديد" الصحفي السوري عبسي سميسم اعتبر أن سبب استخدام المؤسسات الكبرى والوكالات للناشطين الصحفيين أو الهواة عوضاً عن الصحفيين الحقيقيين يعودُ إلى أن الناشطين أشجع من الصحفيين الحقيقيين، كما أن المؤسسة الكبرى عندما تتعامل مع صحفي محلي فهذا الشيء يوفر عليها أعباء مادية كبيرة، إذ أمام المؤسسة خيارٌ من اثنين: إما أن ترسل صحفيا أجنبيا إلى بلد النزاع "سوريا مثالاً" كمراسل في منطقة حرب، وهذا يكلفها تكاليف ضخمة جدا، بالإضافة إلى المخاطر الكبيرة لدخول الصحفيين إلى بلدان تشهد اضطرابات، وإما أن تعتمد على صحفيين محليين. وهنا يقول: "بالنسبة للمفاضلة بين الصحفي والهاوي، فالهاوي يقبل بأي شرط تضعه المؤسسة الإعلامية، إذ هناك مؤسسات لا تضطر لأن تلتزم بأي شيء مع الهاوي".
اعتمد الصحفي عبسي سميسم في عمله داخل سوريا على جزء من الناشطين وحاول عبر مؤسسته العمل على تطويرهم بالدورات التدريبية، ورأى أن هناك جزءا كبيرا منهم لا يمتلكون أدوات المهنة، وهناك قسم منهم استطاع أن يثبت نفسه كصحفي حقيقي محترف بعد خضوعه لأدوات التدريب وعمله بشكل عملي على الأرض.
فيما يتعلق باختيار المؤسسات الكبيرة والدولية للصحفيين الهواة بدلاً عن المحترفين، يرى سميسم أن "هناك وسائل إعلام كبيرة اعتمدت على الناشطين والهواة واستطاعت انتقاء الأكثر مهنية منهم، ولكن هذا الموضوع أثر على مصداقية هذه الوسائل التي عملت في بلدان النزاع وبلدان الربيع العربي، فهناك كثير من الصحفيين الهواة -رغم امتلاكهم لأدوات مهنية- هم بالنتيجة ملتزمون بثوراتهم أكثر من الصحفيين، فلا يستطيعون الوصول إلى الموضوعية، وهناك مبالغة منهم ظناً منهم أنهم يخدمون القضية التي خرجوا من أجلها، فالناشط يعتبر نفسه ثائرا وكانت هناك صعوبة في أن يصبح الصحفي الهاوي موضوعياً كالصحفي المحترف".
في ختام حديثه يؤكد سميسم أنه رغم وجود عدد هائل من الشباب الذين عملوا كناشطين، وعدد كبير منهم لم ينجح في إكمال المشوار، فإنَّ الثورات أنتجت عدداً كبيراً من الصحفيين الحقيقيين الذين استطاعوا تحقيق نجاحات عالمية وحصلوا على جوائز كبيرة على مستوى المهنة.