في غمرة العمل اليومي، يجد الصحفي كل يوم حزمة من الأخبار قد تكبر أو تتضاءل حسب التطورات والظرفية من العام، وهي الأخبار التي يُخضعها الصحفي لعدة معايير من أجل انتقاء الأفضل بينها، ومن هذه المعايير الخط التحريري وقُرب الخبر من جمهور المؤسسة الإعلامية والأثر الذي سيحدثه، وقبل كل شيء مصداقية الخبر.
تتفق تقريبا جلّ مواثيق أخلاقيات الصحافة عبر العالم، كميثاق الفيدرالية الدولية للصحفيين (1) وجمعية الصحفيين المحترفين الأميركيين (2)، على أن البحث عن الحقيقة يعدّ من أهم بنود الأخلاقيات التي على الصحفيين احترامها، غير أن واقع الممارسة المهنية يبين انتشاراً مَهولًا للإشاعات والأخبار غير الموثوقة، ممّا يضرب في الصميم هذا البند الأخلاقي وأحد أكبر ركائز العمل الصحفي، وهو قدسية الخبر، إذ يفترض أن يكون الخبر ملتزما بأقصى درجات الموضوعية والتثبت.
وللأسف فكثيراً ما تكون الإشاعات المنتشرة بفعل مقصود، إذ تعمد صحف كثيرة إلى اختلاق أخبار غير صحيحة لأهداف تجارية بحتة، خاصة في فترات "الكساد الإعلامي"، أي عندما تكون الأمور هادئة ولا يجد الصحفيون أحداثًا يكتبون عنها. وفي أحيان أخرى، تُختلق هذه الإشاعات لأهداف سياسية بغرض تصفية الحسابات مع أطراف معيّنة.
وما يهمنا في هذا التقرير هو الجزء المتعلّق بنشر الإشاعات بشكل غير مقصود، وهو سلوك يعود بالأساس إلى عدم تمكن الصحفي من أدوات التحقق من الخبر.. وتكون الضريبة الأخلاقية أقلّ في هذه الحالة، أما اختلاق الإشاعات عن سبق الإصرار والترصد، فهو سلوك لا ينفع معه تقديم طرق للتدقيق في الخبر ما دام الصحفي أو المؤسسة يعيان جيدا أن خبرهما كاذب من الأصل.
الشك نعمة.. الدرس الأساس
من أكبر الصفات المطلوب من الصحفي أن يتحلّى بها، هي الشك.. وأن يرفع درجة هذا الشك أو يُخفضها حسب قوة مصادر الخبر، فخبر عن اتخاذ مجلس الأمن لقرار يدين الاستيطان الإسرائيلي، لا يحتمل الكثير من الشك إذا ما طالع الصحفي النسخة الأصلية من القرار أو تابع وقائع التصويت على عرض مشروع القرار، لكن خبرا عن اكتشاف ممرض لدواء يقضي على السكري يحتمل الكثير من الشك، لاسيما عندما يكون المصدر تصريحات هذا الممرض وحدها، ونتحدث هنا عن قصة مستحضر "رحمة ربي" في الجزائر.
ومتى استغل الصحفي نعمة الشك في الأخبار المنتشرة التي لا تستند إلى مصادر موثوقة أو تلك التي تستفز ضميره المهني وإحساسه بوجود التباس أو غموض وراء الموضوع، يكون في مأمن من أن يقع ضحية نشر خبر يتبيّن فيما بعد أنه غير صحيح، فيجد نفسه يسارع الزمن لتصحيحه أو حذفه، وأحيانا حتى تقديم اعتذار.
عد إلى الوثيقة الأصل
شهد المغرب قبل أسابيع ضجة واسعة بعد تداول خبر عن وصول ميزانية تجهيز مراحيض مجلس النواب في المغرب لما يقارب مليار و400 مليون سنتيم (مليون و400 ألف دولار)، غير أن صحفيين عادوا فيما بعد إلى طلب العروض (إعلان فتح المشروع أمام المقاولات)، الذي بيّن أن هذا المبلغ يخصّ تجهيز العديد من المرافق بالمجلس وليس المراحيض وحدها، وهو ما تأكد ببلاغ توضيحي صادر عن مجلس النواب (3) في وقت لاحق.
تقدّم هذه القضية واحدا من أهم طرق التحقق، وهي العودة إلى الوثيقة الأصل عندما نكون بصدد خبر يحتوي على مضمون غير معتاد، ويمكن القول إن الكثير من الوثائق الأصل تكون متاحة للعموم وما على الصحفي سوى البحث عنها والتنقيب فيها عن حقيقة المعلومة، وهو ما وقع بخصوص خبر المراحيض، إذ وصل بعض الصحفيين إلى طلب العروض الموجود في موقع الصفقات العمومية بالمغرب.
عُد إلى المعلومة الأصل
عند وقوع هجمات باريس وسان دوني في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015، انتشر خبر عن حارس أمن اسمه زهير، منع أحد "الانتحاريين" من الدخول إلى الملعب الذي احتضن مباراة فرنسا وألمانيا، ممّا أتاح إنقاذ حياة 80 ألف متفرج. مواقع كثيرة قالت إن زهير مغربي مسلم، واستمر الخبر بالانتشار إلى أن اصطدم بصحفيين فرنسيين استغلّا نعمة الشك وكشفا أن الخبر غير صحيح، وأن الانتحاري لم يحاول أصلًا الولوج إلى الملعب (4).
بدأت الإشاعة عندما وقع تحوير لمعلومة في تقرير لجريدة "وول ستريت" البريطانية (5)، تضمن تصريحات لزهير كشاهد عيان.. وتبين أن مستخدمين على تويتر ساهموا في نقل المعلومة المحورة، قبل أن تصل إلى وسائل إعلام نشرتها، ممّا يقدم هنا درسا أساسيًا للصحفي، وهو العودة إلى المعلومة الأصل التي نقلتها الجريدة، فأحيانا تكون قراءة واحدة لهذه المعلومة كافية لنفي إشاعات انبثقت عنها، دون حاجة الصحفي إلى طرق أخرى للتثبت من المعلومة.
احذر.. قد تكون المعلومة الأصل مجرد مزحة
منتصف عام 2015، انتشرت فتوى غريبة منسوبة إلى مفتي السعودية، مفادها أنه من حق الزوج التهام زوجته إذا أحس بالجوع، انتشر الخبر في الكثير من المواقع، لا سيما تلك التي لديها خطوط تحريرية معادية للسعودية، وبعدها خرج مفتي السعودية ببلاغ ينفي فيه الفتوى. وبعد التدقيق، تبين أن الفتوى مجرد مزحة وردت في نص ساخر بموقع مغربي، وأكدت إدارة الموقع أن النص كان ساخرا ولم يأت أبدًا على ذكر الحقيقة (6).
الكثير من المواقع في شبكة الإنترنت تنشر أخبارا ساخرة غير صحيحة، وتعلن ذلك بشكل صريح. رغم ذلك، هناك من يقتبس عنها ويعتقد أن موادها حقيقية، وتبقى الفتوى السعودية مجرد مثال، فهناك موقع أفريقي من هذا النوع نشر خبرا عن معاقبة الرئيس الزيمبابوي موغابي للبعثة الأولمبية بالسجن بسبب سوء النتائج حتى أن بعض القنوات الرياضية المعروفة نقلت الخبر على أنه حقيقة، وحتى الآن لا يزال من يحتفظ بالخبر في موقعه على أنه حقيقة.. لذلك على الصحفي الحذر من المواقع الساخرة، وإذا وجد أنها مصدر خبر منتشر فليصرف النظر عنه، إلّا إذا أراد تصحيحه.
قد تكون المعلومة مفصولة عن السياق
شهر أغسطس/آب 2016، نشرت عدة مواقع خبرا عن نساء خرجن للاحتجاج في مدينة ميرلفت جنوب المغرب ضد العنوسة، وأرفقت هذه المواقع مقطع فيديو (7) للنساء وهن يهتفن بشعار "لعيالات ها هوما والرجال فينا هوما" (النساء هنا.. فأين هم الرجال؟). كان الخبر مدعاة للشك، فمن يعرف تقاليد المجتمع الجنوبي في المغرب، يعلم أنه مجتمع محافظ ومن الصعب جدا على النساء أن ينظمن احتجاجا من هذا النوع.
ما تبين بعد ذلك هو أن الشعار الذي رفعته النساء كان احتجاجا على عدم انضمام الرجال إلى المظاهرة التي جابت شوارع المدينة للتنديد بانقطاع الماء، وبيّنت العودة إلى الفيديو الرئيسي أن النساء رفعن شعارات أخرى، كما أن التدقيق في الفيديو أوضح أن منهن نساء متقدمات في السن وأخريات يحملن أطفالهن، ممّا يزيد من حصر فكرة الاحتجاج على العنوسة، ويبين أن هناك من فصَل شعارا احتجاجيا عن سياقه.
وعموما فهذا النوع من التحريف موجود بكثرة، خاصة فيما ينسب للشخصيات العمومية من تصريحات، فالإخراج من السياق أمر منتشر بشكل كبير في الصحافة، وهو ما يجعل الكثير من الشخصيات العمومية والأطراف السياسية تخرج بتوضيحات حول هذا التحريف.
قد تكون المعلومة من مواقع تحترف التضليل
قبل فترة كتب وزير الدفاع الباكستاني على حسابه بتويتر: "وزير الدفاع الإسرائيلي يهددنا بردٍّ نووي على دور باكستان ضد "داعش" في سوريا. إسرائيل تنسى أن باكستان دولة نووية أيضا"، المثير في الأمر أن الوزير الإسرائيلي لم يصدر أبدًا هذا التصريح، وقد تبيّن فيما بعد، أن هذا الكلام نشر في موقع AWDNews، وهذا الموقع معروف باختلاقه أخبارا لا أساس لها من الصحة، إذ لا يُعرف من يقف وراءه، وفي محرك البحث جوجل، لا يظهر في الصفحة الأولى عند كتابة اسمه، زيادة على قيام فيسبوك بحذف الصفحات التي تعرّف بهذا الموقع.
توجد الكثير من المواقع المضللة التي يبقى عدها أمرًا صعبا، وهناك مواقع تنتحل اسم مؤسسات إعلامية كبيرة كي تنشر أخبارا كاذبة سواء بغرض تجاري أو للإساءة إلى اسم المؤسسة، كهذا الموقع (8) الذي ينسخ اسم وشعار مؤسسة ABC، وقد أنشأه شخص اسمه جيستين كولر يملك الكثير من المواقع المستنسخة. ويقدم هذا التقرير(9) من الجريدة الفرنسية "ليكسبريس" مساعدة قيمة في إيجاد روابط هذه المواقع المضللة.
خبر مختلق من الشبكات الاجتماعية
خلال عام 2015، انتشر خبر عن إصدار محكمة أميركية لحكم بإعدام الهاكر الجزائري حمزة بن دلاج، ونشرت الخبر عدة مواقع، منها مواقع مؤسسات محترمة، غير أن الحقيقة أن هذا الحكم لم يصدر أبدا، بل حوكم بالسجن لمدة 15 عاما، وقد صدر الحكم بعد أشهر من تداول خبر الإعدام الكاذب.
فمن من يعرف القوانين الأميركية يُدرك أن الإعدام عقوبة غير متناسبة بتاتا مع جريمة القرصنة، لكن مع ذلك يمكن تفنيد الخبر بالعودة إلى مصدره، وهو في النهاية ليس سوى تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي reddit، جرى حذفها فيما بعد. والغريب أن تدوينة بسيطة تحوّلت إلى مصدر خبر دفع بالسفارة الأميركية بالجزائر إلى التدخل والتوضيح (10). تعطي تلك الواقعة درسا أساسيا في ضرورة الحذر من مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة عندما تأتي المعلومة من صفحات غير موثقة أو شخصيات عادية لا يمكن للصحفي أن يعتمد عليها لبناء أخبار.
قد يخطئ المصدر الرسمي
قبل أشهر، نشر موقع حزب بالمغرب خبرا عن حصول جهة مغربية على هبة مالية من مؤسستي بيل غيتس والبنك الإسلامي للتنمية، تصل إلى مئة مليون دولار. وبما أن المصدر رسمي، فقد كان أمرا عاديا أن ينتشر الخبر بشكل واسع، إلّا أن الاتصال بمؤسسة بيل غيتس، أظهر أن الخبر غير صحيح، وزاد من ذلك تأكيدات البنك الإسلامي للتنمية بعدم توقيع أيّ اتفاق (11).
هناك تقنية تستخدم في الصحافة، للتثبت من تصريحات الأحزاب والسياسيين والشخصيات العمومية، هي الـ "factchecking" أي تحرّي الحقائق، وتستخدم الصحافة الأميركية هذه الطريقة بكثرة لأجل التأكد ممّا يأتي على لسان المرشحين للرئاسة الأمريكية في المناظرات. ومعنى هذا أنه حتى عندما يكون المصدر واضحا ورسميا، فيمكن للصحفي التثبت من المعلومة، ومتى توصل إلى نتيجة تؤكد التواء السياسي في معلومات مهمة، فإنه يحقق سبقا صحفيا يحقق لمهنته دورها الرقابي الذي مكنها من انتزاع لقب السلطة الرابعة.
وعموما، فالأخبار الزائفة احتلت الصحافة وزاد الإنترنت من اتساع رقعتها، لذلك تولى صحفيون ونشطاء إنترنت مهمة فضحها وتنبيه القراء من مغبة تصديقها، وتوجد حاليا الكثير من المواقع التي تحارب الإشاعات، منها "snopes" و"truthorfiction". أما في المنطقة العربية، فلا توجد مشاريع كثيرة من هذا النوع، لكن يمكن التنويه بالمشروع السوري "تأكد" وكذا "هيئة مكافحة الإشاعات".
وإجمالا، فزاد الصحفي لدحر الأخبار الكاذبة هو الشك، ومتى استُخدمت هذه النعمة بالشكل المطلوب، فالصحفي يكون أكثر قدرة على مجابهة الإشاعة والمعلومات غير الدقيقة. أما إذا تم التعامل مع الأخبار باستسهال، فالأكيد أن المؤسسة الإعلامية ستجد متتبعًا فطنا هو من يتكلّف بتصحيح الخبر، وربما ينفع التأكيد هنا أن الكثير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي باتوا يراقبون بعين فاحصة ما تنشره الصحافة، وعلى أتم الاستعداد لاستعراض قوتهم في التصحيح والتصويب.
هوامش
(1) http://www.ifj.org/about-ifj/ifj-code-of-principles/
(2) http://www.spj.org/ethicscode.asp
(3) http://www.hespress.com/politique/330480.html
(4) http://www.liberation.fr/desintox/2015/11/16/zouheir-ou-la-fabrique-d-u…
(5) http://www.wsj.com/articles/attacker-tried-to-enter-paris-stadium-but-w…
(6) http://arabic.cnn.com/middleeast/2015/04/10/saudi-sarcastic-fatwa-moroc…
(7) https://www.youtube.com/watch?v=9S2QSheTItk
(9) http://www.lexpress.fr/actualite/societe/conspirations-rumeurs-parodies…
(11) http://arabic.cnn.com/world/2016/05/06/idb-bmgf-and-morocco-lives-and-l…