يُعرف كل عصر من العصور بالاكتشافات والمخترعات التي تتم فيه، فقد عرفت البشرية العصر الحجري وعصر البخار وعصر الحاسوب والإنترنت، والآن نعيش عصر الثورة المعلوماتية. وتظل حاجة الإنسان إلى الاتصال والتواصل هي السمة المشتركة بين هذه العصور والحقب التاريخية باختلاف ما شهدته من اختراعات واكتشافات.
وقد وفر الإنترنت منصة آمنة للكتابة والنشر، كأحد إفرازات الثورة المعلوماتية كمولود هجين يحمل سمات الإعلام التقليدي مع إبراز الآنية والتشاركية والتفاعلية مع تعدد الأشكال التحريرية وذوبان الحدود الفاصلة بين الوسيلة والرسالة والمتلقي والمرسل في النموذج التقليدي للاتصال.
سطع نجم المدونات إلى جانب المنتديات في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين كواحد من أهم التطبيقات التي يوفرها الإنترنت. وهي منصات يلوذ بها الصحفيون وكتاب الرأي هربا من التضييق الذي تمارسه السلطات وتحديدا في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية بفرض المزيد من القيود والتشريعات التي تضبط الممارسة الصحفية وتكثر العقبات والمطبات التي تحد من حريات الكتاب في الجهر بآرائهم في كافة القضايا وتسويرها بالخطوط الحمراء.
المدونات التي يرجع الفضل في ظهورها إلى المدون الأميريكي يورن بارغر Jorn Barger (مواليد 1953)، حيث استخدم المصطلح لوصف موقعه الشخص "Robot Wisdom" الذي يشير إلى عملية تسجيل الويب، بينما ظهرت كلمة مدونة "Blog" بعد أن قام بيتر ميرهولز(Peter Merholz) (1)، وهو من المهتمين بهذه النوعية من المواقع عام 1999 بكتابة المصطلح "Weblog" في موقعه.
ظهور مواقع التواصل الاجتماعي على السطح بذات مزايا المدونات جعل الأخيرة تنزوي وتتماهى كليا في المنصات الجديدة، ولم تحتفظ المدونات إلا بفعل "التدوين" الذي تشكل حسب طبيعة الموقع أو الشبكة. فمثلا تميّز التدوين في موقع تويتر الذي بالتدوين المصغر "Micro Blogging" فتحوّل الفعل إلى تغريد "Tweet"، ما أغرى الصحفيين لاتخاذه منصة جيدة للتعبير والنقاش الحر، وأصبح من اليسير أن تصل التدوينات في دقائق معدودة وفي آن واحد إلى ملايين القراء المنتشرين على امتداد الكرة الأرضية، طالما تتوفر شبكة للاتصال بالإنترنت، ويستطيعون بذات القدر التفاعل معها – التدوينة- والتوفيق بين الجمهور المتنوع الاهتمامات.
وكذا الحال في فيسبوك الذي اعتمد للتدوين مصطلح "Post" إشارة إلى ما تعارف عليه في الصحافة التقليدية بالـ"عمود"، وما تتمتع به مواقع التواصل الاجتماعي من شعبية في الاتصال حفّز الصحفيين الانتقال إليها، وتغذيتها بكتاباتهم الناضجة كمتنفس يتيح للهواء الساخن أن يتمدد في الفضاء دون رقيب أو حسيب، خاصة وأن فيسبوك يتوفر على قاعدة أمنية صعبة التحكم فيها من سلطات الدول أو إمكانية تتبع الكُتّاب دون مساعدة من فريق إدارة الموقع (فيسبوك).
على الرغم من التحولات الكبيرة التي حدثت في بنية المدونات واتساع المظلة التي تنضوي تحتها إلى شيوع الأمر كفعل يمارسه المتصل بالإنترنت، إلا أن هناك من الباحثين من يرى أن القليل من المدونات يستحق أن نطلق عليه منصة صحفية ، ومن بين هؤلاء معتصم بابكر مصطفى (2) الذي يشير إلى أن المدونات بشكل عام، ليست منصة صحفية لأنها لا تقوم بوظائف الإعلام المعروفة، وتركيزها على وظائف دون أخرى كالتحليل والتثقيف والتعليم، وإن كان كثيرون يعتبرونها بديلا جيدا من أجل نشر ما ترفض وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية نشره أو تحذف من المادة ما تراه مضرا بها سواء فعلت ذلك بدعوى السياسة التحريرية أم غيره.
من حيث التشريعات ومساحات حرية التعبير، نجد أن هناك حساسية تنتاب الأجهزة الأمنية ضد مصادر الأخبار المفتوحة التقليدية أو الحديثة وبصورة أكبر في بلداننا العربية، لتغيير مسار تدفق المعلومات وسريانها من أعلى إلى أسفل، الأمر الذي أوقع المدونين تحت طائلة قوانين النشر وفي بعض الحالات يحاكمون بالحبس تحت بنود القوانين الجنائية حال تجاوز الخطوط الحمراء أو المساس بالأمن العام أو الإضرار بمصالح البلاد العليا وغيرها من الجرائم.
ويعتبر القانونيون أن المدونات وجميع وسائط الاتصال البديلة تمثل مهربا جيدا للصحفيين من الوقوع تحت قبضة حراس البوابة الصحفية لاستحالة السيطرة على النص من جهة ولصعوبة الحجب الكلي من جهة أخرى.
أما ما يعاب على المدونات في الجانب المهني فهو تجاهل الأخذ بمعايير جودة المادة –المحتوى- كالصدق والتوثيق والموضوعية والاقتصار على رواية واحدة أو مصدر واحد في حدث يمس مصادر متعددة سعيا لتحقيق سبق النشر إضافة إلى عدم الإشارة إلى مصدر المادة أو نقلها بطريقة –النسخ واللصق- من وسيلة إعلامية –تقليدية وحديثة- أو مواطن صحفي دون ذكر المصدر، ما يعتبر انتهاكا صريحا لحقوق الملكية الفكرية.
ورأي آخر يختلف مع من لا يعترفون بالمدونة كمنصة صحفية، حيث ترى مجموعة "باحثون" (3) ومن بينهم عثمان أبو زيد (4) عن تجربة سابقة في الكتابة للصحافة الورقية، وما تبين له من فروق عند الانتقال إلى التدوين الإلكتروني، إذ يقول إنه في بعض الأحيان، يكون الجمهور الذي تصل إليه عبر المواقع الإلكترونية أكثر عددا وتنوعا، ولا سيما إذا أتيح للنص الظهور في منصة أكثر انتشارا، وتستطيع التدوينة الوصول إلى ملايين من المتلقين ويتفاعل معها الكثيرون. وبالنسبة للجانب الأمني فيمكن أن يُحلَّ بوضع قوانين واضحة الدلالة والمعايير وبالتزام الصحفي بحرية الرأي والتعبير والدفاع عنها مع إنتاج مواد إعلامية غير مسروقة ولا منقوصة المهنية.
الصحفي العربي -حسب سيف الدين حسن العوض (5)- باستطاعته استخدام المدونات وغيرها من وسائل الصحافة غير التقليدية استخداما مفيدا ومؤثرا عبر التدرب على إتقان الكتابة نفسها من حيث مضامينها ومن حيث الاهتمام بمتلقي الرسالة (الفئة العمرية-الشريحة الثقافية-دائرة الاهتمام.. إلخ) حتى تتحقق الاستدامة والثبات النسبي للمتلقي.
وكانت معظم الصحف الأميريكية والبريطانية تتيح لصحفييها حتى وقت قريب مساحة خاصة للتدوين في موقع الصحيفة، لكن اليوم ما عادت هذه المدونات ترفد الصحافة والصحفيين بالمعلومات لأن شبكات التواصل الاجتماعي استطاعت أن تغير مجرى الاهتمام، علما أن شبكات التواصل الاجتماعي لا ترقى إلى مرتبة المدونة للفروق الواضحة بين الفئتين.
كانت المدونات بمثابة فرصة للهروب من الرقابة والرقيب ولكن في ظل إمكانية الكشف عن كاتب تلك المدونات ما عاد الصحفي يستطيع أن يكتب فيها إلا ما يتوافق مع سياسة الصحيفة أو الوسيلة التي يعمل فيها أو الحزب الذي ينتمي إليه، بل أضحت كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ولهذا لا نستطيع اعتبار تلك المدونات بديلا جيدا للصحفيين في الهروب من قبضة حراس البوابة. ومع جدِّية الكثير من المدونات، إلَّا أنَّها لا تزال أدنى جودة من حيث المضمون لو كانت في الصحافة التقليدية، لأسباب عديدة أهمها: عدم مهنية الصحفيين الذين يكتبون للمدونات ويمارسون المهنة دون اشتراطات أو تأهيل محدد، على العكس من الصحافة التقليدية. إلى جانب أن ما ينشر في المدونات يُنظر اليه كرأي شخص واحد لعدم وجود مؤسسة لها رأي سياسي أو سياسة تحريرية معينة.
ماهي العقبات التي تعترض جودة المحتوى وفقا للمعايير المتبعة في الصحافة التقليدية؟
ليس المحتوى في المدونة بأجود مما هو موجود في الصحافة التقليدية لأنه رأي فرد بينما ما موجود في الصحافة التقليدية هو رأي مؤسسة ضخمة يراعي فيها أي كاتب رأي سياسة تحرير الوسيلة الإعلامية.
هوامش
(1) خبير التصميم الاستراتيجي، أول من صاغ مصطلح المدونة.
(2) مستشار اعلامي بوزارة الداخلية القطرية، صاحب كتاب أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام.
(3) مجموعة بحث افتراضية تهتم بمناقشة القضايا الإعلامية وإجراء بحوث في مجالات علوم الاتصال، أنشئت على تطبيق واتساب في نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
(4) أستاذ الاعلام بالجامعات السودانية، مستشار برابطة العالم الاسلامي.
(5) عميد كلية الإعلام، جامعة أم درمان الإسلامية ( السودان).