شهد المغرب اعتقال مجموعة من الصحفيين في السنوات الأخيرة، كرشيد نيني وعلي أنوزلا وحميد المهدوي، لكنها المرة الأولى التي توجَّه فيها اتهامات خطيرة بالاعتداء الجنسي، في قضية لا تمس بشكل مباشر الصحفي المتهم لوحده، بل تمسّ كذلك عددا من الصحفيات، اللائي استدعتهن المحكمة في مواجهة المتهم يوم الثامن من مارس/آذار، وهو تاريخ يتزامن مع اليوم العالمي للمرأة، في مصادفة غريبة.
توفيق بوعشرين، مدير نشر جريدة "أخبار اليوم"، يوجد حاليا في سجن عين البرجة بالدار البيضاء، وهو السجن الذي نقل إليه الصحفي يوم 26 فبراير/شباط بعد انقضاء الحراسة النظرية. أوقفت عناصر الأمن بوعشرين مساء الجمعة 23 فبراير/شباط، إثر مداهمة مجموعة من رجال الأمن لمقرّ الجريدة، بشكل أثار استنكار الصحفيين العاملين في الجريدة والكثير من المتتبعين الذين اعتبروا طريقة التوقيف غير مناسبة.
بقيت حيثيات التوقيف في سر الكتمان، خاصة وأن النيابة العامة لم تتحدث ليلة الجمعة عن الأسباب حفاظا على "قرينة البراءة"، حسب ما ورد في بلاغها. لكنها عادت في اليوم التالي لتكشف أن سبب الاعتقال يعود لـ"شكايات بالاعتداء الجنسي"، قبل أن يأتي البلاغ الصادم يوم الاثنين الماضي، حيث وجهت تهماً متعددة لبوعشرين، أخطرها "الاتجار بالبشر"، و"الاغتصاب" و"جلب واستدراج أشخاص للبغاء".
جدل الضحايا المفترضات
وما زاد من غموض القضية، أن بلاغ النيابة العامة تحدث عن وجود 50 شريطا يوثق لهذه "الاعتداءات الجنسية" بحق ثماني ضحايا. ظهرت لاحقاً الأسماء الكاملة للضحايا المفترضين في الاستدعاء الذي وجهته المحكمة لهن لحضور الجلسة القادمة. وبين الأسماء الحاضرة بالاستدعاء، هناك عاملات في المؤسسة التي يديرها بوعشرين، وبعض منهن سبق لهن أن أعلن عن تضامنهن مع بوعشرين غداة توقيفه.
خلود، صحفية سابقة بموقع "اليوم 24"، وهو موقع جزء من المؤسسة التي يديرها بوعشرين، كانت الأولى التي خرجت بوجه مكشوف في لقاء إعلامي، حيث أكدت أنها وضعت شكايتها ضد بوعشرين، متحدثة عن أنه حاول اغتصابها ولم ينجح في ذلك حسب قولها، متحدثة عن أنه كان يتحرّش بها جنسيا أكثر من مرة، وأن أسرتها من شجعتها على الشكوى به.
نعيمة، سيدة ثانية، لا علاقة مهنية لها بمؤسسة أخبار اليوم، كتبت لاحقا في تدوينة أنها قدمت بالفعل شكوى ضد بوعشرين، متهمة إياه بـ"الاعتداء المرفوق بالغصب والإكراه والتعنيف، والمتبوع بالتهديد والابتزاز". ثم جاء توضيح من صحفية لم تعمل في مؤسسة بوعشرين بدورها، جاء اسمها ضمن المشتكيات في استدعاء المحكمة، أشارت من خلاله أنها لم تشتك بوعشرين، وأنه لم تكن بينهما أيّ علاقة جنسية أو غرامية!
عبد الصمد الإدريسي، عن دفاع بوعشرين، قال في تصريحات صحفية إن الأمر يتعلّق فقط بشكايتين واضحتين، الأولى من لدن الصحفية خلود، والثانية من لدن نعيمة. وأشار المحامي أنه لا توجد مشتكية معروفة أخرى بعد الاثنين، وأن كل النساء اللواتي جرى استدعاؤهن في الأيام الماضية، منهن الستة الأخريات اللائي سيحضرن في قاعة المحكمة، أعطين إفاداتهن في التحقيق الذي تقوم به الفرقة الوطنية للشرطة القضائية ولم يشتكين بوعشرين.
اتهامات خطيرة
المحامي ذاته تحدث في ندوة صحفية نظمت يوم الثلاثاء 27 فبراير/شباط أن ما جاء في بلاغ النيابة العامة يبقى مجرد اتهامات، وأن موكله لا يطلب غير تطبيق القانون، مضيفاً أن بوعشرين نفى كل الاتهامات الموجهة إليه وأصرّ على براءته، كما رفض الاطلاع على أيّ شريط فيديو يُتهم أنه وراء تصويره، لافتاً أن بوعشرين صرّح له أنه "مستعد لأداء ثمن الافتتاحيات المزعجة التي كان يكتب"، وأن الهدف من "صناعة ملفه أن يؤدي ضريبة كتاباته وأن تتم إخافة الآخرين".
وتابع بوعشرين على لسان محاميه أن هناك من يريد تدمير مؤسسته الإعلامية، لكنها ستستمر، متحدثا عن أنه كان يعلم بوجود مخطط للإطاحة به قبل أيام من اعتقاله، وأن إحدى الجهات ساومته قبل مدة بعدم الحديث نهائيا عن شخصيتين سياسيَّتين، واحدة يراد لها أن تنمحي وأخرى يراد لها أن تبرز في الساحة.
نقلت جريدة "أخبار اليوم" في عددها ليوم الثلاثاء اكتشاف أجهزة تجسس في مقر الجريدة، وأن هناك ترهيبا مُورس بحق بعض من جرى استدعاؤهن لأجل انتزاع الشكايات، لكن بعض من جرى الاستماع إليهم تحدثن، في تدوينات على فيسبوك، عن أن الأمن تعامل معهن بشكل جيد.
الجريدة ذاتها قالت إن حملة غير أخلاقية ضد مدير النشر وضد العاملات في المؤسسة بدأت قبل إصدار بلاغ الاتهام بالاتجار بالبشر، وهي تهمة تأتي في إطار قانون صدر بالمغرب قبل سنتين. وقد أشار عبد الصمد الإدريسي، أن موكله هو أوّل من يحاكم بهذا القانون الذي صدر في سياق محاربة الرق الدولي وشبكات الإجرام حسب قوله، غير أن مصدرا قضائيا صرّح لموقع هسبريس أنه سبق أن حوكم عدة أشخاص بناء على هذا القانون.
انقسام بين الصحفيين
تجاوزت عدد من وسائل الإعلام في المغرب تغطية وقائع ما يجري إلى كيل اتهاماتٍ خطيرة لتوفيق بوعشرين، أدانته قبل أن تقول العدالة كلمتها، ومنها من خاض بشكل غير أخلاقي في الحياة الخاصة لبوعشرين وصحفيات أخريات، لكن في المقابل غطت وسائل إعلام أطوار القضية بكثير من المهنية، لكن كان ملحوظا اتخاذ الكثير من الصحفيين لمواقف بالحياد في انتظار ما ستسفر عنه المسطرة القضائية.
كما كان لافتا اهتمام الإعلام العمومي بالقضية منذ أوّل بلاغ لوكيل الملك، حيث تحدث بوعشرين على لسان محاميه، أن عملية "تشهير كبيرة" تقع لأجل التأثير في أسرته. ويثير بثّ الإعلام العمومي والإذاعات الخاصة بلاغ النيابة العامة نقاشا متواصلا، خاصة وأن الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب، تمنع على القنوات والإذاعات بثّ أسماء متهمين في قضايا لم يصدر فيها الحكم بعد.
واستمر صحفيون آخرون في تضامنهم مع بوعشرين، معتبرين أن الأمر يتعلّق بتضييق على الصحافة عبر الاستعانة بفصول قانونية تخص الاعتداء الجنسي. لكن في الجانب الآخر، أعلنت بعض الناشطات النسائيات وقوفهن إلى جانب "الضحايا" إلى غاية ظهور الحقيقة، وطالبن بعدم غض النظر عن جرائم الاعتداء الجنسي مهما كانت صفة مقترفها.
ومثل عدد من الصحفيين الذين اختاروا الترّوي بعد إصدار بلاغ "الاتجار بالبشر"، انتظرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية مدة من الوقت، قبل أن تصدر بلاغا يؤكد ضرورة احترام المسطرة القضائية والحرص على عدم التأثير على القضاء. كما طالبت النقابة بوقف التجاوزات الأخلاقية والمهنية التي ميزت الكثير من التغطيات الإعلامية واهتمامات شبكات التواصل الاجتماعي بهذا الموضوع.
ينتقد السلطة.. ويدافع عن ابن كيران
بوعشرين هو واحد من أهم كتَّاب الافتتاحيات بالمغرب خلال السنوات الأخيرة، واستطاع أن يضمن لجريدته "أخبار اليوم" نصيباً مهماً من القراء، فضلاً عن استثماره في الإنترنت عبر موقع يحظى بنسبة متابعة محترمة هو "اليوم 24"، وموقع آخر مخصص لقضايا المرأة اسمه "سلطانة".
عُرف بانتقاده السلطات في تعاطيها مع مجموعة من الملفات، منها حراك الريف وحركة 20 فبراير، كما كان ينتقد من حين لآخر طريقة عمل الجهاز القضائي بالمغرب. وهو من المعارضين بشدة لحزب "الأصالة والمعاصرة"، الذي حلّ ثانيا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وكان قد هاجم بشدة عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، ووزير الفلاحة والصيد البحري في الحكومة، خاصة منذ إعفاء الملك لعبد الإله بنكيران، الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، الإسلامي المرجعية، من رئاسة الحكومة. لكن بوعشرين أدى مؤخراً ضريبة هذا النقد عندما حكمت المحكمة لصالح أخنوش ومحمد بوسعيد، وزير المالية عن الحزب ذاته، بـ45 ألف دولار، بسبب مقال نشرته أخبار اليوم حول موضوع يهم أموال التنمية القروية.
لكن في المقابل، كان بوعشرين من المدافعين عن تجربة عبد الإله بنكيران على رأس الحكومة المغربية. وكان يرى فيه رجلا إصلاحيا يمكنه المساهمة في تطوير المغرب من الناحية الديمقراطية. وقوف بوعشرين إلى جانب بنكيران، جرّ عليه انتقادات من كثير من القراء الذين رفضوا سياسات بنكيران في الحكومة أو يختلفون معه أيديولوجياً، لكنها كذلك جرّت عليه إشادة من قراء آخرين وثقوا في رئيس الحكومة السابق.
بوعشرين الذي كان ينتقد من الداخل، حسب التعبير الشائع، أيْ أنه ينتقد السلطة دون أن يفقد إيمانه بالمؤسسات المغربية وعلى طليعتها المؤسسة الملكية، له مسار مع المحاكمات، فقد حُوكم عام 2009، وهو مدير نشر الجريدة ذاتها، على كاريكاتير صحفي أظهر أحد أفراد المؤسسة الملكية ووراءه علم المغرب في وضع، قالت السلطات إنه يهين شعار المملكة، وإنه قريب من نجمة داوود بشكل يكشف عن توجهات لمعاداة السامية. أغلقت السلطات الجريدة، وحكم القضاء على بوعشرين ورسام الكاريكاتير بالحبس غير النافذ والغرامة. صدرت الجريدة مجددا بعد ذلك تحت اسم "أخبار اليوم المغربية"، قبل أن تعود مؤخرا إلى اسمها الأول.
بدأ بوعشرين مساره المهني في يومية "الأحداث المغربية"، ثم انتقل إلى أسبوعية "الأيام"، لكن اسمه انتشر بشكل أكبر لاحقا في تجربة يومية "المساء"، عندما كان أحد المساهمين في تأسيسها عام 2006، حيث تقلد منصب رئيس التحرير، لكنه غادر مركب السفينة بعد ذلك إثر خلافات مع مدير نشرها، رشيد نيني، الذي سُجن بدوره عام 2011 لمدة سنة، ثم استقال من "المساء" وأسس جريدة "الأخبار".
ختاما، تعدّ محاكمة بوعشرين، قضية ذو وجهين، من الصعب أن تتخلى عنهما. الأول يخصّ حرية الصحافة التي تتحدث منظمة "مراسلون بلا حدود" عن أنها تراجعت خلال السنوات الأخيرة في المغرب وباتت خطوط حمراء كثيرة تضيّق الخناق على الصحافيين المستقلين، خاصة وأن بوعشرين يبقى، حسب المتتبعين، أحد رموز هذه الصحافة خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع مغادرة الكثير من الصحفيين المستقلين المشهد الإعلامي، لأسباب متعددة.
أما الوجه الثاني، فيخصّ اتهامات الاعتداء الجنسي التي لا تتسامح غالبية الدول معها وتضع بشأنها عقوبات مشددة، خاصة وأن الحملة الواسعة لفضح التحرّش الجنسي ME TOO كشفت عن اتهامات تلاحق شخصيات معروفة على المستوى العالمي.
فهل يُدين القضاء المغربي رسمياً توفيق بوعشرين ويتضح للمتتبع أن هناك اعتداءات جنسية بالفعل؟ أم أن بوعشرين قادر على إثبات براءته؟ هل يتعلّق الأمر بتطبيق واضح للقانون رغم هول التهم الموجهة للمدعى عليه؟ أم أن صراع الصحافة والسلطة قد يتكرّر في هذه القضية؟
الأيام ستحكم..