مساء يوم الجمعة من الشهر المنصرم، ساعاتٌ فقط بعد الإعلان التاريخي لدونالد ترامب بنقل سفارة الاحتلال الإسرائيلي من تل أبيب إلى القدس، كان مئات من الإندونيسيين يتدفقون أمام سفارة الأمم المتحدة، منددين بما وصفوه بالموقف المخزي لدولة يفترض فيها أن تعمل على حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي دون انحياز.
"قرار ترامب قد يؤدي لغضب شعبي" هكذا علقت جريدة كومباس، أما جريدة ديتيك فكتبت: "قرار ترامب يؤدي إلى غضب شعبي"، وتريبونيز.. "إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل سيسبب مشاكل جديدة في الشرق الأوسط". وكتبت إنترناشيونال ريبوبليكا: "قرار ترامب بفسد محاولات السلام". ريبوبليكا، تيمبو، وميديا إندونيسيا، أكثر الجرائد قراءة هنا في إندونيسيا، لم تكن لغة عناوينها الرئيسية أقل حدة، كما أن تداعيات الخبر بقيت لأسابيع تتصدر صفحاتها الأولى، ورقياً وإلكترونياً.
الإعلام الإندونيسي الذي عانى الويلات في ظل حكم الديكتاتور سوهارتو لثلاثة عقود متواصلة، يبدو اليوم متناغماً مع مواقف الحكومة. فالرئيس جوكو كان أول من يخرج ببيان نشرته الصحف الإلكترونية على مواقعها، يعتبر فيه إعلان ترامب الأخير انتهاكا لمختلف قرارات الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وأن بإمكانه زعزعة الأمن والاستقرار في العالم.
موقف الحكومة ذاك لم يتغير منذ استقلال البلاد سنة 1945. وقد جاء في كلمة ألقاها الزعيم وأول رئيس لإندونيسيا سنة 1992 بمناسبة ذكرى الاستقلال: "طالما أن فلسطين لم تنل استقلالها، فالأمة الإندونيسية ستقف دوماً ضد إسرائيل" كانت فلسطين أول دولة تعترف باستقلال جمهورية إندونيسيا، هذا الجميل الذي لم ينسه الإندونيسيون حكومة وشعباً..
عند لقائي بأزهر سويحمي، المسؤول الإعلامي بجمعية اللجنة الوطنية لدعم فلسطنين (KNRP) بجاكارتا سلاتان، أخبرني أن المنصات الإلكترونية كان لها الفضل في توسيع دائرة نشاطهم، وكذا في سرعة نشر الأخبار والإعلانات التي تخص الجمعية: "كان من أصعب تحدياتنا عندما بدأنا العمل بعد حرب تموز 2006، الوصول إلى الناس في الجزر البعيدة.. كان يتطلب الأمر منا أخذ طائرة وتنظيم لقاء تواصلي هناك.. أما الآن فكل تحركاتنا متاحةٌ على صفحاتنا بمواقع التواصل الاجتماعي".
إذاً المنصات الإلكترونية اختصرت المكان والزمان، فهل كان لتأثيرها نفس البصمة؟
في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2017، احتشد خمسة ملايين إندونيسي بميدان موناس بالعاصمة جاكارتا، ومظاهرات بمئات الآلاف كانت بالموازاة في كل جزر الجمهورية. يقول لي أزهر، إن رسالة واحدة عبر تطبيق سناب شات مثلا، كانت كفيلة بنزول مئات الآلاف إلى ساحات التظاهرات.
وقد اختار محافظ جاكارتا أنيس باسويدان تطبيق الإنستغرام للإعلان عن موقفه عبر صورة له يتصفح إحدى الجرائد المحلية، يرتدي كوفية فلسطينية، شرح للصحافة فيما بعدُ أنه حصل عليها أثناء زيارته لقطاع غزة المحاصر.
عندما التقينا بفخري حمزة في قبة البرلمان، وقد كان أحد رموز المظاهرة المليونية، محتلاً الأخبار الأولى للصحف، وهو أحد الثوار القدماء ضد حكم سوهارتو، قال.. "باستطاعتك كتابة ما شئت، ونشر ما تريدين، السلطة مهما كانت قمعية فهي عاجزة عن كبح هذه الثورة الرقمية"، وأضاف، وقد كان مساعده يسجل لقاءنا ليبث لاحقاً على صفحة موقعهم.. "لكن باستطاعتي القول إن الإعلام الإندونيسي كان دائماً إلى جانب القضية الفلسطينية.
وشرح لي حمزة هذا الإحساس الوطني بالقضية، والذي يكمن في معرفة الإندونيسيين مرارة الاستعمار.
ومنذ قيام الجمهورية الإندونيسية لم تطبع أي حكومة متعاقبة العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك فتح سفارة لها هنا، لكن أعضاء برلمانيين من حزب كولكار سافروا خلال السنوات الماضية بشكل غير رسمي لتل أبيب، وهو ما أدى لضجة إعلامية عارمة.
فرغم أن التطبيع لا يحمل نفس الصدى الذي يتردد في الوطن العربي. حيث أن شركات سياحية بالعشرات هنا تقدم عروضاً استثنائية لأبناء الشعب الراغبين في تأدية الشعائر الدينية، أولئك الذين تأتي القوانين وانعكاساتها السياسية في آخر اهتماماتهم، إلا أن صحفاً ورقية وإلكترونية لا تزال تقف موقف الحكومة الرافض لكل أنواع التطبيع.
فبعد زيارة الصحفيين، عبد الله راخيم من جريدة جاوا بوس، وتومي أريانتو من صحيفة تيمبو، وجيمس لوهوليما من صحيفة كومباس، ومارغاريتا بالقناة الفضائية ميترو تيفي، والصحفي الخامس الذي ظهر معهم في الصورة التي تداولتها كافة وسائل الإعلام والذي لا يعرف عنه أي معلومة سوى أنه "صحفي"، كتبت صحيفة مردكا: "زيارة الصحفيين الخمسة تثير غضباً شعبياً". العنوان ليس سوى مقتطف مما جاء في بيان المتحدث باسم وزارة الخارجية أرماناثا ناصر، دون زيادة ولا نقصان!
ولأن الإعلام والحكومة على نفس الموجة، فإن جريدة مردكا لم تتجرأ على تصعيد حدة الخطاب أو نقل صدى الشارع الغاضب على الأقل بشيء من الحرية والتصرف، انتظرت بصبر أيوب تصريح أرمانثا ناصر لتكتب مرة أخرى دون زيادة ولا نقصان: " إسرائيل تستغل صحفيين إندونيسيين من أجل تأسيس علاقات رسمية بين البلدين".
أزهر سويحمي ناشط جمعوي وصحفي سابق يحكي لي: "تلقى الصحفيون دعوة من الرئيس الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. لا ندري كيف حصل ذلك.. والأنكى أنهم جاؤوا من تل أبيب برسالة مفادها أن على إندونيسيا وإسرائيل تطبيع العلاقة وهو ما نرفضه حكومة وشعباً".
- "وإعلاميين"؟ سألت. فأجاب: "على الإعلام ألا يثير الفتن والبلبلة.. بل أن يكون في خدمة البلد".
- في خدمة البلد أم في خدمة الحكومة؟
تمتلك الدولة قناة فضائية واحدة هي "التلفزة الوطنية لإندونيسيا" (TVRI) وإذاعة واحدة هي: "الإذاعة الوطنية الإندونيسية "(RRI) أما باقي المحطات فهي في ملكية رجال أعمال إندونيسيين، أو صينيين حصلوا على الجنسية، لكن القانون هنا لا يفرق بين صحيفة مستقلة وأخرى حكومية، فعندما يتعلق الأمر بـ"أمن الدولة"، فإن قضبان السجن ستكون مآلاً لمن غرد خارج السرب لا محاله. وأمن الدولة يكاد يشمل كل ما يتبناه الرئيس من مواقف ويتخذه فريقه من إجراءات، فإن كان قد قرر مثلاً أن الأديان المعترف بها خمسة أديان هي: الإسلام والكاثوليكية والبروتيستانتية والبوذية والكنفوشوسية، فإن بناء دير يهودي أو مسجد شيعي يعتبر "مساسا بأمن الدولة".
وبعيداً عن قضية فلسطين، يتساءل البعض أين دور الإعلام الإندونيسي في كشف النقاب عن سرقة الذهب والنحاس ومعادن أخرى في جزر كسولاويسي وبابوا، وعن الهجرة غير الشرعية والمخدرات والدعارة والاحتلال الصيني لاقتصاد البلاد وازدياد الفقراء.. إن مثل هذه العناوين ما زالت الصحافة تمر عليها بحذر.
يحدثني الصحفي م.خ بجريدة الأمانة بمدينة مَكَسر: "علينا تغطية أخبار الزلازل والبراكين والفياضانات أولاً.. وهي ما يهم الشعب.. أما الأخبار التي تثير الفوضى فمن شأنها أن تزج بنا خلف قضبان السجن".
كنا بمكتبة جامعة إندونيسيا عندما اهتزت الأرض من تحت أقدامنا (13:40 23/2018)، أنيرت الإشارات التحذيرية واندفعنا جميعنا إلى الخارج، قلتُ له: "وهذا خبر عاجل لنقله يا رفيق!".
فخري حمزة الذي بدا مرتاحاً لبضع ساعات وهو يشرح لي على موقع غوغل مابس بالشاشة المسطحة المثبتة على الحائط المجاور لمكتبه طريقه إلى الأردن، استأذنني فجأة قائلاً: "علي الانصراف الآن.. بثنا المباشر على يوتيوب على وشك البدأ".
هنا في إندونيسيا، حيث يقف زورق وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها بين ضفتين: القانون وحرية التعبير، ما زال بإمكانه أن يطفو إلى بر المعلومة دون غرق.
فخري حمزة مودعاً: نكمل الحديث على الواتس آب.