رغم تحرير القطاع السمعي- البصري عام 2005 بإنشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري "الهاكا" التي تعمل على تنظيم القطاع، وقبل ذلك تأكيد الحكومة عام 2002 إنهاء احتكار الدولة للمجال، إلّا أن المغرب، وحتى عام 2017، لا يتوفر على قنوات تلفزيونية خاصة؛ فباستثناء قناة "ميدي 1 تيفي" الذي يدخل في رأسمالها استثمار من مجموعتين إماراتيتين إلى جانب استثمار محلّي، لا توجد قنوات يمكن وصفها بالخاصة وسط هيمنة للقنوات التابعة للدولة.
الغياب شبه الكلي للقنوات الخاصة في المغرب، في وقت تشهد فيه غالبية بلدان المنطقة قنوات خاصة لا مجال هنا لتقييم أدائها، يثير الكثير من الأسئلة؛ فالبلد يتوفر على تقاليد إعلامية في المنطقة، من ذلك مسار صحافته الورقية التي دخلت مجال الاستثمار الخاص منذ التسعينيات، وقوة إعلامه الإلكتروني (من حيث أرقام الزوار وعدد الصحف الرقمية العاملة في إطار مقاولات) وكذا تنوّع محطاته الإذاعية التي كانت الوحيدة المستفيدة من تحرير القطاع السمعي البصري.
من الناحية القانونية، يتوّفر المغرب على قانون للاتصال السمعي- البصري، يحمل رقم 77.03 (1)، جرى تغييره وإتمامه شهر أغسطس/آب الماضي 2016. ويؤكد هذا القانون حرية إنشاء قنوات إذاعية وتلفزيونية خاصة، ويشترط لأجل ذلك الحصول على ترخيص من الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري التي تقوم بتقديم ترددات لمتعهدي الاتصال السمعي-البصري (أي أصحاب القنوات)، بتنسيق مع الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات.
ومن المبادئ التي يفرض القانون احترامها هناك عدم الإخلال بالثوابت الوطنية (الدين الإسلامي والوحدة الترابية والمؤسسة الملكية)، وعدم المس بالأخلاق العامة، والابتعاد عن التحريض على العنف أو الكراهية وأيّ سلوك يضر بالصحة والبيئة، وكل أشكال الإساءة والضرر للطفل والمرأة، وعدم الإشادة بالجرائم، ويؤكد القانون على عدة مقتضيات منها تقديم الأحداث بحياد وموضوعية.
وإذا كان وزير الاتصال في الحكومة السابقة، مصطفى الخلفي، قد أكد أكثر من مرة أن إطلاق القنوات الخاصة مسألة وقت فقط وأن هناك ضرورة لاستكمال تحرير القطاع السمعي-البصري، فإنه أكد كذلك أن هذا الأمر يبقى من اختصاص الهاكا التي تملك لوحدها قرار إعلان طلبات عروض القنوات الخاصة (2).
وأصدرت الهاكا بداية هذا العام مسطرة الترخيص (3) لإحداث واستغلال الخدمات السمعية - البصرية، بناء على القانون السابق، وكذا بناء على القانون 11.15 الخاص بإحداثها، وتشير هذه المسطرة إلى إمكانية اضطلاع الهاكا بإعلان فتح ترددات معيّنة أمام القنوات الخاصة بناء على عدة إجراءات تبدأ بوضع طلب من المعنيين ثم إعلان المنافسة، وبعد ذلك حصر لائحة الطلبات المتوصل بها، وإعلان من تمكن من الظفر بالمنافسة.
ورغم كل هذه القوانين، فحتى اللحظة لم يتم منح الترخيص لقناة خاصة، مع ضرورة الإشارة أن قناة ميدي 1 تيفي تبقى حالة خاصة بدأت منذ إعلان إطلاق ميدي 1 راديو عام 1980 -أي قبل إعلان إنهاء احتكار الدولة للقطاع- كإذاعة باستثمار أجنبي تتوجه إلى منطقة المغرب الكبير وليس المغرب فقط، وبعدها تحوّل المشروع إلى المجال التلفزيوني بدءا من عام 2006 مع الحفاظ على خصوصيته الإقليمية.
ويملك المغرب حاليا قنوات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، وهي شبكة من القنوات التلفزيونية الحكومية يوجد مقرها بالرباط، تصل إلى ثماني قنوات، لكن الإنتاج الأهم يبقى مركزا في القناة الأولى، أكبر قنوات هذه الشركة الوطنية، كما يتوفر كذلك على القناة الثانية التي تدخل بدورها في ما يعرف بالقطب العمومي، ومقرها الرئيسي بمدينة الدار البيضاء، زيادة على ميدي 1 تيفي الموجودة في طنجة.
ولأجل مواجهة غياب الترخيص داخل المغرب، وعدم فتح الهاكا لطلبات عروض في هذا السياق، لجأت بعض القنوات الخاصة إلى افتتاح مقرّات لها خارج المغرب، إذ تبث من عدة مدن أجنبية ويمكن للمغاربة التقاط برامجها عبر المستقبلات الرقمية، ويمكن أن نعطي أمثلة "مغرب تيفي" التي تبث برامجها من بلجيكا، و"بزاف تيفي" التي تبث برامجها من الإمارات، دون نسيان المشروع الضخم "ماروك تيلي" الذي أعلن عنه الصحفي رشيد نيني، وهي قناة تبث برامجها من إسبانيا.
ووفق مصادر من داخل الهاكا، فالتبرير الحاصل لعدم منح الترخيص لمجموعة من أصحاب مشاريع القنوات الخاصة خلال فترة من الفترات هو عدم قدرة سوق الإعلانات على تلبية الحاجيات المالية لهذه القنوات، خاصة وأن هذه الأخيرة يطغى عليها البعد التجاري، كما أن القنوات العمومية قد تجد نفسها متضررة ماديا من تراجع العائدات الإعلامية بما أنها ستشاطرها مع قنوات خاصة.
ويرى محمد الركراكي، أستاذ مادة الصحافة وصحفي بجريدة "الأيام" أن المغرب شهد طفرة على مستوى تطوير قوانين القطاع السمعي- البصري منذ بدء عملية التحرير عام 2005، لكنه لم يخطُ بعد نحو تحرير فعلي وعملي يسمح بخلق قنوات خاصة، رغم التطوّر التكنولوجي الحاصل الذي لم يعد يتيح استمرار عملية ضبط الإعلام المرئي، ومن ذلك ما نراه في الصحافة الرقمية.
ويُعيد الركراكي في حديث لمجلة الصحافة، أسباب تأخر القنوات الخاصة بالمغرب إلى أمرين أساسين، الأول غياب جرأة سياسية، إذ لا تزال السلطة ترى في الإعلام المرئي مجالا للاحتكار، في وقت تطوّرت فيه نظرة السلطة في بلدان مجاورة لهذا الإعلام وسمحت للقطاع الخاص بالاستثمار.
أما السبب الثاني فيتعلق بتعقيدات السوق الاقتصادية للإعلام المرئي الذي يتطلب تكاليف باهظة، وبالتالي التخوّف من إمكانية فشل بعض المشاريع بعد بدئها، ومن ذلك أن القناة الثانية المغربية، لم تعد قادرة على الاستمرار دون دعم مادي من الدولة، رغم أنها كانت تعتمد سابقا بشكل أساسي على قطاع الإشهار، كما أعطى الركراكي مثال تدخل الدولة في وقت سابق لدعم قناة ميدي 1 تيفي بعد أن تبيّن أنها لن تصمد بإمكانياتها الخاصة.
ويشير بنعيسى عسلون، الخبير في الإعلام المرئي، أن الوقت قد حان في المغرب حتى ينال قطاع القنوات الخاصة حظه من الترخيص، فـ"تحفيز الخدمة الخاصة في الإعلام له عدة فوائد اقتصادية في خلق الاستثمار، وله كذلك عدة فوائد على المستوى الديمقراطي".. يقول عسلون، متحدثا عن أن الإعلام السمعي- البصري أضحى في ظل الدستور الجديد قطاعا يجب الانكباب عليه، خاصة مع وجود هيئة مختصة وتشريعات قانونية وقُرب ميلاد المجلس الأعلى للصحافة، مؤكدًا أن التكريس لأيّ ممارسة ديمقراطية لا يتحقق إلّا بتنويع الإعلام الداخلي.
ويضيف عسلون، منسق ماجستير إنتاج المحتوى السمعي البصري والرقمي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط في حديث لمجلة الصحافة، أن فتح المجال أمام القنوات الخاصة بالمغرب سيؤدي إلى تنويع العرض وبالتالي إلى خلق المنافسة ثم إلى تطوير الجودة، وما ينجر عن ذلك من استعادة ثقة الجمهور في المنتوج المحلي، ناهيك عن تأثير إيجابي على صورة المغرب، متحدثا عن أن هذه الدولة لا تملك خيارا آخر غير فتح المجال أمام القنوات الخاصة، لأن هذه الأخيرة تمثل صيرورة إعلامية لا بد منها.
وعاد عسلون إلى المبرّرات التي سيقت عند رفض منح الترخيص لعدد من القنوات الخاصة عام 2009، إذ قال إن المبرّر الذي ساقته الهاكا، والمتمثل في أن فتح المجال من شأنه تهديد التوازن المالي للقنوات العمومي، لم يعد قائما الآن، بما أنه منذ 2012 وقطاع الإعلانات بالمغرب في تنامٍ واسع، وهناك دراسات حسب قوله تؤكد ذلك، كما أن مبرّرات أخرى ترددت في ذلك الحين كنقص الموارد البشرية ووجود تحديات تقنية والتخوّف من ضخامة الاستثمار لم تعد تقنع اليوم نظرا للتطوّر الكبير الحاصل في المشهد الإعلامي المغربي والعالمي.
هوامش
(1) http://www.haca.ma/pdf/Loi%2066-16%20modifiant%20et%20completant%20la%20loi%2077.03.pdf
(3) http://www.haca.ma/html/pdf/Ar/Decision%2004-17%20VA.pdf