ترجم هذا المقال بالتعاون مع نيمان ريبورت - جامعة هارفارد
بقلم مايكل بلاندينغ
كتب بول سالوبيك الأخبار الدولية طيلة أكثر من عشرين عامًا، قبل أن يقرر إبطاء وتيرته.. وعن ذلك يقول: "كنت مراسلاً دولياً تقليدياً مندفعاً حول العالم أكتب الأخبار من مناطق ساخنة". فأثناء عمله في "شيكاغو تريبيون"، أُرسل في تغطيات صحفية لمناطق نزاعات، ولمدة أسبوع أو اثنين كان يتواصل خلالهما مع الصحيفة، أنجز عددا من التقارير المميزة التي أكسبته إشادة عالمية وبعض جوائز بوليتزر.
وأخيرًا، استقر ليؤلف كتابًا عن أسفاره، إلا أن هذا كان مشروعًا محبطًا لسالوبيك الذي كان يرغب أن يكون في الميدان لا أن يكتب عن تجربته فيه. ويتذكّر قائلا: "جلست إلى مكتبي وأنا أتخيّل كيف سأهرب، وبدأت أفكّر بأروع قصة يمكنني متابعتها.. ما البحث الأقصى الذي يمكنني القيام به؟". وكان الجواب بالنسبة إليه: "انتشار البشر الأوائل خارج إفريقيا". عندها وضع تصوّرًا لمشروع يتتبع فيه هذه الهجرة من إثيوبيا إلى الشرق الأوسط وآسيا، نزولاً إلى الأميركيتين، وصولا إلى أقصى الطرف الجنوبي للأرجنتين.
ولتتبع هذا الطريق، سيستخدم الوسيلة نفسها التي استخدمها أجدادنا القدامى، ألا وهي الأقدام.
وبذلك وُلد مشروعه "رحلة الخروج من عدن"، وهو رحلة سير حول العالم لمدة سبع سنوات يغطّي خلالها كل خطوة يقوم بها في طريقه. واليوم، بعد عامين من انطلاق المشروع (1)، وصل سالوبيك إلى تبليسي في جورجيا، وكتب تقارير مطولة لـ"ناشيونال جيوغرافيك" وقصصًا أقصر لمدوّنة خاصة بالرحلة. وفي يناير/كانون الثاني 2013، أمضى وقتًا مع باحثين ينقّبون عن الأحفوريات البشرية في إثيوبيا، ليكتب لاحقا عن المخاوف من أن تهدد هجمات القراصنة الصوماليين أبحاث علوم المحيطات. أما في فبراير/شباط 2015، فقد سار جنبًا إلى جنب مع لاجئين سوريين أثناء هربهم إلى المنفى في تركيا، وأعد تقارير منحته بُعدًا وجدانيا جديدا عن أزمة تتم تغطية أخبارها منذ أربع سنوات.
يقول سالوبيك: إن "الجميع يسرعون أكثر فأكثر ويزدادون سطحية، إذًا لماذا لا نتمهَّل قليلا لننتزع بعض الصيت عبر الذهاب في الاتجاه المعاكس؟.. وبالفعل تجاوزت النتائج توقعاتي بكثير، على الصعيدين المهني والشخصي، ومنحني ذلك شعورًا بأنّي أعتمد توجهًا سرديًّا لم أعتمده من قبل حين كنت أسافر حول العالم أخبر قصصا بدت غير مترابطة عن أزمات يومية".
وبالفعل، بدأ المزيد من الصحفيين اللحاق بالركب، معتمدين شكلا جديدا من "الصحافة المتأنية" التي تستغرق زمنا لكتابة القصص الصحفية حتى في الوقت الذي يزداد فيه ضغط دورات الأخبار المتسارعة جدًّا للإعلام الاجتماعي، مما يحمل الصحفي على أن يكون سريعًا وأول من يورد الخبر. ففي يناير/كانون الثاني 2015، أعلن مدير وصاحب المدوّنة السياسية "الطبق اليومي" (Daily Dish) أندرو سوليفان عن توقّفه عن التدوين. فطيلة 15 عاماً، كان سوليفان وفيًّا لاسم مدونته، حيث كتب الرسائل اليومية التي تشرح الأخبار بشكل فوري. وفي واحدة من آخر رسائله، شرح قرار توقفه قائلا: "لقد اكتفيت من الحياة الرقمية وأرغب في العودة إلى العالم الحقيقي مجددًا.. أرغب في أن تخطر ببالي فكرة وأتركها تتبلور ببطء، بدلا من أن أسارع إلى تدوينها فورًا.. أرغب في كتابة مقالات طويلة تعطي إجابات أعمق وأكثر حذاقة عن العديد من الأسئلة التي تطرح عليّ".
وقبل سوليفان، كانت المحررة التنفيذية السابقة في "نيويورك تايمز" جيل أبرامسون قد أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أنها تتعاون مع الصحفي ورجل الأعمال ستيفان بريل لإطلاق شركة إعلامية ناشئة، تعطي الكتّاب حتى مئة ألف دولار لكتابة قصص أطول من مقالة وأقصر من كتاب. كما أن منتجتي البرنامج الإذاعي "هذه الحياة الأميركية" (This American Life) سارة كوينغ وجولي سنايدر أمضتا عاما في إعادة التحقيق في جريمة قتل تعود إلى العام 1999 في بالتيمور كاونتي، قبل تسجيل التحقيق على مقاطع من 12 ساعة كوّنت برنامج "سيريال" الإذاعي الذي أصبح الأكثر شعبية من نوعه في التاريخ. وأحد الأسباب التي جعلت البرنامج ساحرًا إلى هذا الحد، هو الطريقة البطيئة التي تكشّفت بها القصة مع الوقت، حيث كانت كل حلقة تعقّد سابقتها، بل تتعارض معها.
يقيس الصحفيون المتأنّون تغطيتهم الصحفية بالأشهر والسنوات بدلا من الأيام، ويعتبرون ما يقومون به أكثرَ من مجرّد سرد قصصي مطوّل. وتمامًا مثل تيار "الطعام البطيء" الذي أخذت الصحافة المتأنية (البطيئة) اسمها منه، تشدد الأخيرة على أهمية الانفتاح والشفافية، كاشفة لجمهورها عن مصادرها ومناهجها وداعية إياه إلى المشاركة في المنتج النهائي.
وهذا النوع من الصحافة يعتبر مكمّلا للأخبار العاجلة ويقدّم تصحيحا لها، فَتَحت ضغط المواعيد النهائية التي تواجه الصحفيين دائما، يمكن "للتخمين" أن يحلّ مكان التقرير. أستاذة الإعلام والتواصل في جامعة سيدني ميغان لوماسورييه كتبت مقالا أكاديميا لمجلة "الممارسة الصحفية" (Journalism Practice) يشير إلى أننا "لو تابعنا الأخبار يوميا في عصر الحمولة الإعلامية الزائدة، الذي تنهال فيه علينا الكثير من المعلومات بسرعة، فسنحصل على المستجدّات، ولكنّنا لن نحصل على صورة عن أسباب التطورات".
ظهرت عبارة "الصحافة المتأنية" لأول مرة في مقالة نشرت في فبراير/شباط 2007 بمجلة "بروسبكت" (Prospect) المختصة بالقضايا السياسية والثقافية البريطانية، كتبتها سوزان غرينبيرغ وهي محاضِرة أولى في اللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية في جامعة "روهامبتون". فقد رأت غرينبيرغ أنه على النقيض من الأخبار اليومية، تصبح الصحافة المدعومة بالمهارة والصوت والعناية أكثر فأكثر نوعا من "الترف". وأوضحت: "ما أعنيه هو ترف الاستغراق في الشيء، أي الاستغراق في اكتشاف الأمور وبلورتها والقيام بشيء جديد ونقله بطريقة منصفة". ولوصف الظاهرة، استعارت عبارة "الطعام البطيء"، وهي حركة عالمية بدأت في ثمانينيات القرن الماضي واحتجّت على ماكدونالدز في أوروبا، مدافعة عن الطعام المحلي المنتج بشكل أخلاقي والذي يطبخ ويقدّم ويتم الاستمتاع به بما يكفي من الوقت لتذوّق مكوّناته.
وعلى الرغم من أن مبادئ الصحافة المتأنية ليست جديدة، فإن الفكرة باتت مطلبًا ملحًّا، فهي تشترك مع الصحافة الروائية في الخصائص نفسها، خصوصًا التركيز على الإسهاب في التقارير. ومن هذا المنطلق أمضى الكاتب والصحفي الأميركي تيد كونوفر شهورًا كحارس في سجن سينغ سينغ لتأليف كتابه "نيوجاك" (Newjack)، وعاشت الصحفية الأميركية أدريان نيكول لوبلان عقدًا من الزمن مع عائلة في برونكس لتأليف كتابها "العائلة العشوائية" (Random Family)، ومكثت الصحفية الاستقصائية الأميركية كاثرين بو ثلاث سنوات في حي فقير بمومباي لتأليف كتابها "ما وراء اللامتناهيات الجميلة" (Behind the Beautiful Forevers). ولا ننسى الصحفي والكاتب الأميركي روبرت كارو الذي أمضى أكثر من ثلاثين عاما يؤرخ لحياة الرئيس الأميركي ليندون بي. جونسون، حيث نشر أربعة مجلدات حتى الآن بانتظار مجلد خامس يتناول الجزء الأكبر من رئاسته.
والحاجة إلى تدعيم الأخبار بالمزيد من المحتوى والتحليل هي ما دفع الصحفيَّيْن روب أوركارد وماركوس ويب إلى إطلاق مجلة "الإرضاء المتأخّر" (Delayed Gratification) في المملكة المتحدة عام 2011 والتي تعرّف عن نفسها بأنها "مجلة الصحافة المتأنية".
يقول أوركارد محرر المجلة "يجد الصحفيون أنفسهم مرتدّين على أعقابهم بشكل دائم وهم يحاولون مواكبة الأخبار العاجلة على تويتر والإعلام الاجتماعي، لذلك أردنا توفير ملاذ للصحفيين يستغرقون فيه ما يكفي من الوقت لتكوين ردّة فعل على التطورات، ومحاولة العثور على قصص لم يُعثر عليها خلال ردة الفعل الأولى غير المدروسة".
تصدر هذه المجلة -التي تتميز بأسلوب خاص- فصليًّا، ويعيد كل عدد تناول أخبار الأشهر الثلاثة السابقة، مغربلاً العناوين الرئيسية لتحديد القصص الهامة وتغطيتها بشكل أعمق وقرائن أكثر. ففي أحد الأعداد الأخيرة مثلا وردت تغطية لكارثة منجم في بلدة صوما التركية التي راح ضحيتها أكثر من 300 شخص، وطغت لفترة وجيزة على أخبار شهر مايو/أيار 2014. يقول أوركارد: "كانت هذه مأساة مرعبة وحظيت بتغطية شاملة، فقد أرسلت جميع المؤسسات الإخبارية طواقمها إلى هناك حيث مكثوا عدة أيام قبل أن تنتقل أجنداتهم إلى موضوع آخر كما يحصل دائما. غير أن القصة لم تنتهِ هنا".
وأوضح أوركارد أنه بينما سلّط الضوء على البلدة، تضامن السياسيون مع أسر الضحايا وتعهّدوا بتقديم المساعدات المالية للناجين وبإصلاح صناعة التعدين في البلاد، غير أنه بعد مرور ثلاثة أشهر تبخّرت جميع الوعود. لذلك فإن القصة الصحفية الناتجة عن ذلك تناولت بالتفصيل أحوال المجتمع المحلي الذي يغلي بسبب الصدمة والغضب، ويناضل ليلملم نفسه ويقف مجددًا على قدميه.. يقول أوركارد "حين تعود إلى الأحداث بعد انقشاع الغبار، ستجد قصة مختلفة تماما".
لا يرى أوركارد أن المجلة تتنافس مع الأخبار "السريعة" بقدر ما تدعّمها، ويوضح: "جميعنا مدمنون على الأخبار كغيرنا، ونتحقق بشكل دائم من هواتفنا، ولكن ما تُعنى به المجلة هو الرغبة في شيء أكثر تأنيًّا وثراء".
منذ العام 2008 حين أثقلت الأزمة الاقتصادية كاهل الصحافة، بدأ الباحثون عن تلك الزاوية من التناول ينتقلون أكثر فأكثر إلى المنصات الرقمية حيث برزت مواقع سردية ذات إطار جديد مثل: "مجلة أتافيست" (The Atavist Magazine) و"نرّاتيفلي" (Narratively) و"لونغ فورم" (Longform)، تتحدى الحكمة التقليدية القائلة بأن متصفّحي الإنترنت يهتمّون فقط بقراءة الأخبار القصيرة.
فوفق شركة "تشارتبيت" لتحليل البيانات، يمضي نصف القراء أقل من 15 ثانية على صفحة ويب، بينما من يبقون على الصفحة يمضون وقتا أطول، والذين يمكثون أكثر يعودون على الأرجح. ومؤخراً، غيّرت "تشارتبيت" مقاييسها لتركّز على "الوقت المكرّس" على الصفحات بدلا من "مشاهدة الصفحات" أو "الزوار الفريدون" كمقياس للجودة أكثر دقة. وبدورها تنشر منصة "كيندل للنشر المباشر" التابعة لشركة "أمازون" مقاييس الاهتمام، فبرنامج الاشتراك لديها يدفع الآن للكتّاب المستقلين على عدد الصفحات التي تتم قراءتها بدلا من عدد مرات استعارة الكتاب. فانهماك القارئ مهم لأنه -بحسب "تشارتبيت"- من المرجّح أن يتذكّر القرّاء الإعلانَ الموجود على الصفحة أكثر بنسبة 20 إلى 30% مما إذا مكثوا 20 ثانية على الأقل.
يهتم الصحفيون أمثال المراسل الهولندي آرنولد فان بروغن والمصوّر روب هورنسترا بمقاييس الاهتمام، فقد أمضيا خمس سنوات يتنقلان في مناطق حروب في أبخازيا وجورجيا وشمال القوقاز ضمن إطار "مشروع سوتشي"، وهو سلسلة من الكتب والقصص الإلكترونية التي تتناول الأولمبياد الشتوي في سوتشي الروسية من منظار جديد. كل عام، كانا يقضيان ثلاثة أشهر في منطقة مختلفة لإنتاج فصل جديد مذهل بصوره الحميمة والغنية وبأسلوبه الكتابي الموثوق. وعلى الجانب الآخر من الجبال في سوتشي، يقع شمال القوقاز، أحد أفقر الأماكن في المنطقة وأكثرها تأثرًا بالحروب، والذي شهد ثلاثة عقود من النزاع مع روسيا، شملت حربين مع الشيشان في الفترة بين عامي 1994 و1996 والفترة بين عامي 1999 و2006، وحربا قصيرة بين جورجيا والجمهوريتين الانفصاليتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008، فضلا عن تزايد التطرّف بين السكان المسلمين في داغستان مسقط رأس عائلة الشقيقين تسارنايف منفّذي تفجيرات ماراثون بوسطن. ويقول فان بروغن إن "الألعاب الأولمبية تتعلق بوحدة الأمم، أما القوقاز فمنطقة حروب ونزاعات، لذلك كان من السوريالي أن نرى الاختيار يقع على سوتشي لتنظّم الأولمبياد".
في الواقع، إن الوقت الذي أمضاه فان بروغن وهورنسترا هناك، منحهما إمكانية فريدة للوصول إلى قصص مميزة. فمن خلال المقابلات التي أجرياها في مدارس المصارعة في شمال القوقاز على سبيل المثال، استطاعا التعرّف إلى عائلة في داغستان على علاقة بمتمردين يقاتلون في الجبال، مما وفّر لهما فرصة نادرة لإخبار القصة الإنسانية وراء التمرد الإسلامي المستمر في المنطقة. ومع انطلاق الألعاب عام 2014، كان مشروع سوتشي قد جذب اهتمام صحفيين من حول العالم، فلجؤوا إلى فان بروغن وهورنسترا للحصول على قصص إخبارية عن المنطقة. ويضيف فان بروغن أن "الطريقة التي نظّمت بها ألعاب سوتشي جعلت المدينة تبدو كأنها ضاحية من ضواحي موسكو، غير أنّي أعتقد أننا غيّرنا الرواية بشكل أظهر أن سوتشي تقع وسط هذه المنطقة المضطربة".
وبالإضافة إلى تقديم نظرة أكثر عمقا، غالبًا ما تتميّز تجارب الصحافة المتأنية بشفافية أكبر في عملية إعداد التقارير. ففي "سيريال"، كشفت كوينغ عن منهجيتها إلى حد كبير، كما عبّرت عن شكوكها، وكانت تغيّر رأيها من حلقة إلى أخرى.
تقول سنايدر "كان هناك محتوى لكل وجهة نظر، لذلك احتجنا إلى الوقت كي نفهم حقاً ما كنا نحاول قوله وأن نعطيه معنى. وقد رغبنا في أن يشعر المستمعون أنهم داخل القصة ويفهمونها بالطريقة التي فهمناها".
غير أن تردد وتأرجح كوينغ على الهواء جعلها محط انتقاد بعض المتابعين، وحتى سخرية موقع الفيديوهات الفكاهية "فاني أور داي" (Funny or Die) وبرنامج "ساترداي نايت لايف" (Saturday Night Live)، إلا أن سنايدر دافعت عن ذلك قائلة: "أشعر أننا اعتمدنا الخيارات الصحيحة، فأي شخص يحقق في القضية سيواجه لحظات مماثلة للتي واجهناها. ومن جهتي كنت أواجه الكثير من الغموض، وبدا مهمًّا أن أكون صادقة في ذلك وألا أدّعي أننا نعرف كل شيء". ويوافقها الرأي مارك بيركي جيرارد، وهو أستاذ مساعد في الصحافة بجامعة "رووان" في نيوجرسي، إذ يعتبر أن "ما أحبّه الناس في البرنامج هو متابعة كيف تتم العملية، والغوص في كل الأمور التي يمر بها المراسل للوصول إلى الحقيقة، وأيضًا رؤية أنه رغم قضائك مئات الساعات في التحقيق في موضوع واحد، قد لا تصل أبدًا إلى الحقيقة".
في الواقع، إن للشفافية تحدياتها الخاصة، فوفقا لسنايدر، تؤثر الطبيعة العامة جدًّا لارتباط المستمع بـ"سيريال" -بعضه تخمين طائش- على اختيار القصص وعلى الوعود بعدم كشف هوية المصادر في الموسمين الثاني والثالث اللذين أنتجا سوية، علمًا بأن الموسم الثاني يبث في الخريف المقبل.
كما أن هناك صراعا أساسيا آخر يخوضه المراسلون من هذا النوع، وهو كيف يعيلون أنفسهم أثناء قيامهم بهذا العمل المضني والمستهلك للوقت في متابعة قضية ما؟
وفي هذا السياق، شكّل ماكينزي فانك مؤلف كتاب "الكسب المفاجئ.. الأعمال المزدهرة للاحتباس الحراري" (Windfall: The Booming Business of Global Warming) الذي يتناول السباق إلى تحقيق الأرباح في القطب الشمالي.. شكل إلى جانب تسعة كتّاب آخرين ما أطلقوا عليه اسم "ديكا" (Deca) (البادئة التي تعني 10 باللغة اليونانية)، وهي عبارة عن مجموعة مؤازرة يساعد أعضاؤها بعضهم البعض في إنتاج وتوزيع أعمالهم السردية. وبعد جمع 32 ألف دولار عبر موقع "كيكستارتر" العام الماضي، التزمت المجموعة بدفع نفقات نصف الأعضاء، حتى 2500 دولار لكل منهم، فضلا عن تأمين الدعم لعملية التحقق من الوقائع وتصميم الغلاف، وصولا إلى النشر على شكل كتب إلكترونية في "أمازون كيندل سينغل". وفي كل مشروع، يقوم عضو آخر في "ديكا" بدور المحرر، على أن يحصل الكاتب على 70% من الأرباح والمحرر على 5% ونسبة الـ25% الباقية تذهب إلى المجموعة.
مساهمة فانك في كتاب "من جليد ورجال" منذ أن أعيد نشره باسم "حطام كولوك" (في إشارة إلى منصة الحفر النفطية التابعة لشركة "شل")، تطوّرت من مقالة عرضها في الأصل على مجلة "نيويورك تايمز" تتعلق بالمواجهة التي كانت تلوح في الأفق بين شركة "شل الملكية الهولندية" ومنظمة السلام الأخضر (غرينبيس) عام 2012. ولكن حين لم تظهر "شل" أبدًا في القطب الشمالي في ذلك العام، لم تنشر المجلة المقالة. إلا أن فانك حافظ على القصة، مكتشفًا أن سبب اختفاء "شل" كان تحطّم منصّة نفطية ضخمة، وهي قضية حقق فيها على مدى الأشهر الـ18 التالية لكتابة تحقيق معمّق حول ممارسات السلامة التي تتخذها "شل".
والمفارقة أن فانك قبل أن ينشر في "أمازون سينغل"، باع مقتطفًا من الكتاب الإلكتروني إلى مجلة "نيويورك تايمز". ولكن هذا كلّه لم يكن ليحصل لولا الدعم المالي والنفسي من "ديكا". ويقرّ فانك بأن "الأمر كان مضنيًا"، مضيفا: "لم أعلم ما عليّ أن أفعل به، ولكن مجرّد إدراكي بأنّ لديّ مكانا أنشره فيه، جعلني أستمر قدُمًا". ورغم النجاح، يعترف فانك بأن أمله خاب من العائدات التي جمعها من "أمازون"، وقال إن "المبلغ الذي حصلت عليه من مجلة نيويورك تايمز كان أكبر من المبلغ الذي أجنيه منه (أمازون) حتى الآن".
الوقت من ذهب بالنسبة إلى الإعلام المتأني ربما أكثر من مشاريع المؤسسات الأخرى، وقد حصلت معظم تجارب الصحافة المتأنية على الدعم حتى الآن بطريقتين: المنح الخيرية أو التمويل الجماعي. فسالوبيك يموّل مسيرته الطويلة بواسطة منحة بقيمة مليون دولار تقريباً من مؤسسة "جون أس. وجيمس أل. نايت" التي من دونها لم يكن تنفيذ المشروع ممكنًا، على حد قوله. أما فان بروغن وهورنسترا فيغطّيان نفقاتهما من التمويل الجماعي وعائدات الكتاب، وهي نفقات نادرًا ما تجاوزت الـ1200 دولار سنويا حتى العام الأخير. ويتحسّر فان بروغن الذي يعمل مع هورنسترا على مشروع جديد في غرب أوروبا، قائلا: "إنها تجربة اقتصادية سيئة"، مضيفا "نحتاج أن نجد مصدر رزق خلال مشروعنا المقبل".
لا تكشف "أمازون" عن العائدات التي يحققها الكتّاب من بيع "كيندل سينغل"، إلا أن المحرر ديفد بلوم أشار إلى أنهم يحصلون على 70% من أرباح البيع ويحتفظون بحقوق العمل. ووفقاً لبلوم، تدفع "أمازون" أحياناً نفقات من ألف دولار إلى عشرة للتقارير الصحفية، كما فعلت مع "سينغل" حول كارثة رحلة سفينة "كوستا كونكورديا". ويحتفظ الكتّاب بكامل الأرباح عن أي صفقات أفلام، كما فعل الكاتب ستيفان تالتي الذي شارك في تأليف كتاب "مهمّة قبطان" (A Captain's Duty) حول احتجاز القبطان ريتشارد فيليبس على يد قراصنة صوماليين، مع "كيندل سينغل" بعنوان "عملية راعي البقر" (Operation Cowboy). ويقول بلوم: "ليس من السهل أبدًا أن تكسب عيشك من كونك كاتبًا، ولكن الناس يشعرون أن كيندل سينغل يساعدهم في كسب عيشهم ويمنحهم متنفسًا إبداعيًّا لم يكونوا ليحصلوا عليه في أي مكان آخر".
من جهتها صمدت مجلة "الإرضاء المتأخّر" لأربع سنوات عبر فرض قيمة اشتراك بقيمة 57 دولارا سنويا. غير أن المحرر روب أوركارد يتحسّر على كونه غير قادر على دفع أكثر من 32 سنتا للكلمة مقارنة بـ50 إلى 65 سنتا كمعدّل نموذجي للكلمة في المملكة المتحدة. وكذلك الأمر بالنسبة لموقع "نرّاتيفلي" الذي يقول مؤسسه ورئيس تحريره نواه روزنبرغ إنه يدفع فقط "بضع مئات من الدولارات" للقصة الصحفية، وهذا أمر من الصعب أن يتقبّله الكتّاب المعتادون على معدل دولار إلى ثلاثة للكلمة من مجلات وطنية.
وأخيرًا، بدأ الموقع يوظّف كتّابا لإنتاج محتوى خاص بعلامات تجارية بينها "شيفروليه" و"جنرال إلكتريك" و"صندانس تي في". ورغم أن هذه الخطوة قد تثير القلق حيال مسألة فصل التحرير عن الإعلان، يقول روزنبرغ إن مثل هذه الإجراءات ضرورية لتأمين الدعم المالي للصحافة الإبداعية، مضيفاً أن الموقع يقظ تمامًا حيال مسألة تضارب المصالح.
ولكن في خضمّ ذلك، استطاعت وسيلة واحدة أن تكسر القاعدة في جعل الصحافة المتأنية مستدامة، وهي موقع "أتافيست ماغازين" الذي ينشر مقالات سردية مطوّلة تتراوح بين 10 و20 ألف كلمة، وتعهّد منذ انطلاقه عام 2011 بأن يدفع للكتّاب كما تفعل دور النشر الكبرى. ويقول المدير التنفيذي والمحرر إيفان راتليف: "حين بدأنا، دفعنا آلاف الدولارات للكتّاب من حساباتنا المصرفية الخاصة". ومنذ ذلك الوقت، حصلت الشركة على أكثر من أربعة ملايين دولار من مستثمرين بينهم باري ديلر وأندريسين هوروفيتز. وأحد أسباب نجاح الشركة هو منصة النشر المنفصلة عن المجلة والتي يستخدمها المشتركون الأفراد لنشر محتواهم الخاص الذي يدرّ عائدات على الشركة ككل. وتدفع "أتافيست" لكل مقالة رسمًا معيّنًا ومن ثم تقسّم أي عائدات من الاشتراكات ومبيعات النسخة الواحدة وحقوق التلفزيون والفيلم. ويشير راتليف إلى أنه "بمعدّل وسطي، يحصل الكتّاب على حوالي عشرة آلاف دولار للقصة الواحدة".
ومقابل كل وسيلة صحافة متأنية تصمد، هناك أخرى تخرج من الإطار. ففي العام 2010، أسس محررا "أل.أي ويكلي" جو دونيلّي ولوري أكوا "سلايك" (Slake)، وهي نشرة مطبوعة جميلة تتضمن مقالات صحفية مطوّلة تركّز على لوس أنجلوس كملتقى الثقافات في القرن الواحد والعشرين. يقول دونيلّي: "كل قطعة نشرت في المجلة كانت تعدّ بأقصى درجة من العناية بالتفاصيل، وهذا ما تسبب -إلى حد ما- في انهيارها لأن عملية التدقيق هذه كانت مكلفة جدًّا". وفي أوجها، كان لدى المجلة 500 مشترك بقيمة اشتراك بلغت ستين دولاراً، ووصلت المجلة 14 مرة إلى لائحة "لوس أنجلوس تايمز" للقصص الأكثر رواجًا. غير أن المال نفد من المجلة بعد عامين.
ولاحقًا، تم التعاقد مع دونيلّي لتحرير نشرة إلكترونية تحمل اسم "ميشن أند ستايت" (Mission and State)، تضمنت قصصا متنوّعة حول منطقة سانتا بربرا، وتم تمويلها من منحة لمدة عامين من مؤسسة "نايت". ولكن النشرة فشلت في تطوير مشروع تجاري يوقفها على قدميها، وأقفلت بعد عام ونصف. ويقول دونيلّي: "يجب علينا كمستهلكين أن نكون راغبين في دعم مثل هذه المشاريع، ولكن كيف تعيد الأمور إلى نصابها لو كنا مشروطين بعدم الدفع لأي شيء؟".
كانت مسألة الاستدامة أيضا إحدى العراقيل في وجه حركة "الطعام البطيء" التي طوّرت نماذج مثل الزراعة المدعومة من المجتمع من أجل دعم المزارعين المحليين، إذ غالبًا ما يشتري السكّان في المنطقة الحضرية القريبة من المزرعة الأسهم في بداية موسم النمو، مما يسمح للمزارع بالحصول على البذور والمعدات التي يحتاجها مقابل توصيل المنتجات كل أسبوع أو أسبوعين في موسم الحصاد. وبدورها جرّبت بعض المؤسسات الإعلامية الصحافة الممولة من المجتمع. وكانت إحدى النشرات الناجحة "مجلة بيلت" (Belt Magazine) التي بدأت في كليفلاند وتوسّعت بعدها إلى عدد من مدن راست بيلت. وبدلاً من الاشتراكات، تم تمويل "بيلت" من رسوم "العضوية" التي تتراوح بين عشرين دولارا وألف دولار سنويًّا والتي يحصل بموجبها صاحبها على نسخ من المجلة، فضلا عن قمصان وبطاقة عضوية تقدّم حسومات على فعاليات ومنتجات محلية.
ولكن رغم تمويلها -كما هو حال الطعام المحلي والعضوي- يأتي معظم نجاح الصحافة المتأنية من مستهلكين راغبين في الدفع لها.. تقول لوماسورييه: "نحن نفعل ذلك بفرح لأننا نتحمّل مسؤولية تجاه الصحة والبيئة، وفي الوقت ذاته وبالطريقة نفسها يجب على المستهلكين أيضًا أن يتحمّلوا مسؤولية تجاه الصحافة".
(1) نشر المقال يوم 19 أغسطس/آب 2015، ويمكن قراءته من المصدر الأصلي بعنوان The Value of Slow Journalism in the Age of Instant Information على موقع http://niemanreports.org