في حياتي، كنتُ أرسم دائما خريطة لطموحاتي، لكن لم أتخيل يوما أن يقودني الطموح إلى بلاد تعج بالأحداث وبالموت المحدق في كل مكان.
الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا، رن هاتفي وعلى الجهة المقابلة مدير التخطيط الإخباري يخبرني أن عليّ الحضور إلى مكتبه بشأن تكليف بتغطية إعلامية خارج الدوحة.
لحظات السعادة التي عشتها في مسافة الطريق حجبتها مفاجأة الوجهة.. خاطبني مسترسلا وبهدوئه المعتاد: أريدك في مكتبي غدًا في تمام الساعة الثامنة صباحًا ومعك جواز سفرك، لديك موعد في السفارة الأفغانية بالدوحة للحصول على التأشيرة للقيام بمهمة في العاصمة كابل.
ما وراء تفاصيل تغطيتي الإعلامية الأولى، كانت تثوي أحلام كبيرة لصحفي يريد اختبار طموحه، لكن ربما ليس على أرض مزدحمة بالأحداث الكبرى.
تناسلت الأفكار وتوالت الأسئلة الصعبة، فماذا عساي أن أفعل في أفغانستان وأنا أعمل صحفيا في قناة رياضية.. لم تسعفني كل الإجابات التي استحضرتها إلا عندما أخبرني منسق قسم المراسلين باقتضاب عن تفاصيل المهمة.. أخبرني أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) سيشرف على مباراة ودية دولية بين أفغانستان وجارتها اللدودة باكستان، لعله يفلح في إنهاء قطيعة سياسية دامت زهاء 56 عاما.
طُلب مني حينها، إنجاز بعض التقارير عن أجواء ما قبل اللقاء، ثم عن المباراة الدولية، وإن كانت هناك بعض ردود الفعل من مسؤولي البلدين، فضلا عن مسؤولي الفيفا.
حان موعد السفر، وبدأت نوبات الرهبة تتبدد كلما اقتربت ساعة الحلم.. الرحلة الأولى من الدوحة نحو دبي لا تستغرق سوى 40 دقيقة، وبعدها رحلة المجهول نحو البلاد التي تشرق منها الشمس كما كانت تسمى قديما.. سافرتُ على متن شركة طيران أفغانية في رحلة دامت ثلاث ساعات، تشابكت فيها الأفكار.. خليط من الصمت ومن الطموح، لا يكاد ينقطع حتى نزلت الطائرة في كابل.
حطت بنا الطائرة في مطار حامد كرزاي الدولي بالعاصمة الأفغانية عند حدود العاشرة صباحا. كل ما كان يجول في ذهني همس صار يضج بعدما دلفت إلى محطة القادمين.. فجوة الواقع والخيال تبدو جلية في هذا المطار المدني ذي الحلة العسكرية.
مررنا بتدابير أمنية صارمة جدًّا.. الابتسامة يبدو أنها غادرت منذ زمن محيا موظفي المطار أصحاب البدلات شبه العسكرية.. عبرنا جهاز السكانير أو آلة الزمن كما سميتها حينها، ثم خضعنا لتفتيش يدوي دقيق جدا كما لم أشهده في مكان آخر.
بعدما استنشقتُ أولى نسمات هواء كابل العليل، تأكدت فعلا من الوهلة الأولى أني عبرت آلة الزمن.. بلاد جارت عليها نوائب الزمان وتخلى عنها الأصدقاء، وكدّر عيشها الجيران..
مرحبا بك في أفغانستان..
في بوابة مطار حامد كرزاي الدولي، استقبلني بحرارة الزميل حميد الله محمد شاه، وهو شاب أفغاني في مقتبل العمر يتحدث الإنجليزية، بشوش الملامح دائم الابتسامة وكأنه يتحدى القسمة الجائرة للحياة بالبسمة.. حميد الله يعمل منتجا للأخبار في مكتب قناة الجزيرة بكابل.
ركبنا سيارة دفع رباعي بيضاء اللون، وانطلقنا نحو فندق في المدينة.. فتحت نافذة السيارة أشاهد الطرقات والدهشة تتملكني.. الشوارع لا تشبه أشكالها، والأزقة شاحبة اللون خالية من الحياة ومن وجوه الناس أيضا.
بعد دقائق فقط من الطريق، رأيت مجموعة من مدرعات الجيش الأميركي يمتطيها قناصة المارينز تسير بجانبنا.. شبح الاحتلال والإرهاب ورائحة الموت لا يبدو أنها ستراوح سماء المدينة.
الدهشة وفضول الصحفي لم يمهلاني ولو ثانية.. أمسكت هاتفي النقال كي ألتقط لهم صورة ربما للذكرى، ذكرى الاحتلال.
رفيقي حميد الله مد يده بسرعة نحو ذراعي ومنعني من ذلك، وقال لي إن أي حركة مشبوهة قد تستدعي إطلاق النار من قبل هؤلاء القناصة.. في الحقيقة أرعبني ما سمعت، وأنهكني المشهد نفسيا، لكنني لا أنا امتنعت ولا خوفي امتنع.
في أفغانستان، سأحدثكم عن زيارة رياضية بمأساة سياسية.. عن الموت الذي إما أن يأتي إليك أو تذهب إليه.