المغرب.. الصحافة والمرحلة الانتقالية و"جيوب المقاومة"

بعد أسبوعين من مبايعة الملك محمد السادس وتوليه العرش خلفا لوالده الحسن الثاني سنة 1999، صدرت جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، التي كان مديرها آنذاك، الراحل الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وكان في الوقت نفسه يشغل منصب الوزير الأول، بعنوان عريض ومثير: "من يحب ملكه يجب أن يقول له الحقيقة كاملة".

تصدر هذا العنوان استجوابا أجراه الصحفي عبد الرحيم أريري مع القيادي بحزب الوزير الأول، محمد الساسي. وكان الاستجواب عبارة عن قراءة وتحليل لأول خطاب للعرش يلقيه الملك محمد السادس، كذلك كان بمنزلة ترافع و"مذكرة مطالب إصلاحية" موجهة إلى الملك الجديد.

مضامين الاستجواب، التي صدرت بجريدة الوزير الأول، ستخلق رجة وتداعيات، وسط الجريدة ووسط الحزب والحكومة، وستؤدي إلى معاقبة الصحفي الذي أجرى الاستجواب ثم توقيفه إداريا لمدة أسبوع، وليس السياسي الذي صدرت عنه تلك التصريحات.

كانت مبررات الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول ومدير الجريدة، أن التقاليد المغربية لا تقبل توجيه هذا الخطاب، أو هذا الترافع، خلال فترة العزاء التي يعيشها الملك.

بدا الأمر وكأن خطوطا حُمْرا ترسم في دور الإعلام في الإسهام في هذه المرحلة الانتقالية، خصوصا على مستوى "الإعلام الحزبي" الذي يقود التجربة الحكومية. بدأ، إذًا، يبرز نوع من المحافظة في التعامل الإعلامي مع الشأن السياسي في عهد الملك الشاب، من طرف إعلام كافح طيلة عقود من أجل استمرار التقاليد الصحفية في المغرب، وكان يتمتع بنفوذ واسع وتأثير كبير في التأثير في الرأي العام.

 

الإعلام الحزبي.. الفرصة الضائعة

كان "العهد الجديد"، التسمية التي أعطيت لبداية مرحلة الملك محمد السادس، قد ولّد آمالا وانتظارات كبيرة، مثلما نال استحسانا وتعاطفا كبيرا ومشجعا، وهو ما عكسه الانتقال السلس والسريع للسلطة بين ملكين من دون حوادث أو مشكلات تذكر، معزَّزا بالقرارات الأولى التي اتخذها الملك الشاب.

كانت الأحلام واسعة، والآمال معقودة على أن يكون للصحافة دور ريادي في مصاحبة المرحلة الانتقالية، ولكن سرعان ما تعرضت أولى مبادرات الترافع الإعلامي من أجل "مغرب جديد" لأزمة حقيقية لضمان المرور إلى السرعة الثانية في مرافقة الانتقال السياسي الذي يعرفه المغرب ومواكبته.

لقد تحولت صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" من رافعة لمطالب فئات ونخب عديدة بالمجتمع إلى أشبه بجريدة حكومية تتولى تسويق منجزات الحكومة وتبرير قراراتها. اكتفت أو حبست نفسها في تسويق صورة الحزب والحكومة، وتحولت من "الدعوة" إلى "الدعاية"؛ من الدعوة إلى الإصلاح والتغيير إلى الدعاية للحكومة ووزرائها.

كانت الآمال معلقة على أن تقود وتنهض بهذه المهمة الصحف الحزبية، وعلى رأسها يومية "الاتحاد الاشتراكي"، بما لها من تجربة وخبرة ومصداقية راكمتها طيلة سنوات المعارضة أو ما يعرف في التحقيب السياسي المغربي بـ "سنوات الرصاص".

فإلى حدود 4 فبراير/ شباط 1998، تاريخ وصول حزب الاتحاد الاشتراكي إلى قيادة الحكومة، قبل وفاة الحسن الثاني بسنة ونصف، كانت الصحيفة تتربع على عرش مبيعات الجرائد المغربية، وتجر وراءها تجربة طويلة وتقاليد عريقة في العمل الصحفي، إضافة إلى توفرها على طاقم صحفي يضم كفاءات قلما اجتمعت في جريدة ما.

للأسف، أخلفت الصحافة الحزبية  الموعد مع التاريخ؛ ففي مرحلة انتقالية مزدوجة وحساسة في تاريخ المغرب، أي وصول حزب الاتحاد الاشتراكي الى قيادة الحكومة بعد أربعين سنة من المعارضة، وانتقال الحكم بين ملكين، لم تكن الصحيفة مهيأة ومستعدة للعب دور تاريخي في الانتقال المزدوج الذي تعيشه البلاد. لقد تحولت من جريدة كانت رافعة لمطالب فئات ونخب عديدة بالمجتمع إلى أشبه بجريدة حكومية تتولى تسويق منجزات الحكومة وتبرير قراراتها. اكتفت أو حبست نفسها في تسويق صورة الحزب والحكومة. تحولت من "الدعوة" إلى "الدعاية"؛ من الدعوة إلى الإصلاح والتغيير إلى الدعاية للحكومة ووزرائها.

يمكن القول إن صحيفة الاتحاد الاشتراكي، التي عشت داخلها أجواء الانتقال المزدوج، قد تخلفت عن ركوب قطار مرافقة الانتقال السياسي بالمغرب إعلاميا والترافع من أجل تجويده وتحصين ضمانات إنجاحه.

هذا الإخفاق سيكون له انعكاس سلبي على مبيعات الصحيفة وعلى مكانتها التاريخية؛ إذ ضعف الإقبال على "الجريدة الأولى بالمغرب" لصالح اليوميات المستقلة الصاعدة، وهو ما دعا قيادة حزب "الاتحاد الاشتراكي" إلى دعوة هيئة تحرير الجريدة إلى اجتماع عاجل.

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، شهدت قاعة الاجتماعات بالطابق الخامس بمقر الجريدة بمدينة الدار البيضاء، حالة استنفار بـإنزال" قيادة الحزب كافة" برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي. وكانت طبيعة الجو المكهرب تشي بأن إعلام الحزب يعيش حالة موت سريري.

كان السؤال الرئيس الذي طرحه اليوسفي على أعضاء هيئة التحرير: ما العمل؟ ولكنه جاء متأخرا نوعا ما. لذلك، لم يسفر الاجتماع عن خطة عمل ولا عن تحول في السياسة التحريرية، واستمرت مبيعات الصحيفة في الانحدار وفقدان ثقة القارئ.

في ذلك الاجتماع، الأول والأخير بشأن أزمة الصحيفة، قلت للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي: "أنت أكثر واحد في هذه القاعة تعرف علاج أزمة الصحيفة، أسهمت في تأسيس إعلام الحزب، وواكبتَ تطوره، وتحملت مسؤولية إدارة تحريره ونشره، وأنت قارئ ومتابع محترف للتجارب الإعلامية. يجب أن تفصل الجريدة عن الحزب، وتحول الجريدة الى مؤسسة حقيقية تنتصر للمهنة".

في ذلك الاجتماع، الأول والأخير بشأن أزمة الصحيفة، قلت للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، رئيس الحكومة: "أنت أكثر واحد في هذه القاعة تعرف علاج أزمة الصحيفة، أسهمت في تأسيس إعلام الحزب، وواكبتَ تطوره، وتحملت مسؤولية إدارة تحريره ونشره، وأنت قارئ ومتابع محترف للتجارب الإعلامية. يجب أن تفصل الجريدة عن الحزب، وتحول الجريدة إلى مؤسسة حقيقية تنتصر للمهنة".

في الحقيقة، لم يكن اليوسفي في حاجة إلى تذكيره بمهمة الانتقال الإعلامي، فهو قارئ ومتابع جيد لوسائل الإعلام. المشكل كان يكمن في الثقافة السياسية لجيل من زعماء الأحزاب، وهي ثقافة تقوم على الكتمان وعلى الولاء ومحورية الزعيم والدعاية؛ لذلك لم يكن بمستطاع هذا الجيل المؤسس أن يذهب بعيدا في الانتقال الإعلامي، ولم يكن مستعدا لذلك. وأكثر من ذلك، لم يسمح بتسليم المشعل إلى أجيال جديدة. لقد نجح في دور المعارضة، لكنه افتقر إلى الرؤية والإرادة السياسية للفصل بين المشاركة في الحكومة والسماح للإعلام الحزبي بالتغريد الحر.

لذلك، لم نكن نستغرب من غضب اليوسفي من غياب صوره وتغطية أنشطته بوصفه وزيرا أول على صفحات الجريدة التي يديرها، رغم أن أنشطته كافة تحظى بالتغطية من طرف وسائل الإعلام الرسمية. وحدث ذات يوم أن وبخ رئيس التحرير بشدة، فقط لأن الخبر الرئيسي، بشأن نشاط الوزير الأول، بالصفحة الأولى لم يكن على ثمانية أعمدة، وإنما على خمسة فقط.

هكذا، كان جيل السياسيين الذين عاشوا الانتقال السياسي بالمغرب يتصور دور الإعلام. وهكذا كان قدر الإعلاميين الذين اشتغلوا بالإعلام الحزبي خلال هذه المرحلة: كبح أدوارهم، خلال مرحلة انتقالات كبرى عاشها المغرب، في توسيع قوس الحريات الذي انفتح، والانتصار لقيم الديمقراطية، وإسناد الآمال التي فتحها تولي الملك محمد السادس العرش، ومرافقة هذه الانتظارات بفتح ملفات كانت مغلقة في عهد الحسن الثاني، خصوصا أنه خلال السنوات الأولى من حكم محمد السادس تنفس مجال الحريات، وكانت مبادرات الملك تشجع على المغامرة بإعلاء سقف التناول الإعلامي لـ"العهد الجديد" وتقوية ضمانات وأسس لممارسة إعلامية حديثة ومستقلة. وهذه مفارقة؛ لقد أُجهِض الانتقال الإعلامي حزبيا، وانتصرت رؤية السياسي الذي يفضل الترافع والمفاوضة والمناورة خلف الأبواب المغلقة، عوض تمكين الإعلاميين من طرح القضايا الكبرى في الفضاء العام. فاختفت، بذلك، النبرة النقدية، وغاب التناول والمعالجة لقضايا مثل الفساد الإداري والانتهاكات الحقوقية والهشاشة الاجتماعية والريع الاقتصادي، وكان محرما الاقتراب من قضايا مصيرية لديها ارتباط بتدبير الدولة نفسها للشأن العام.

المشكل كان يكمن في الثقافة السياسية لجيل من زعماء الأحزاب، وهي ثقافة تقوم على الكتمان وعلى الولاء ومحورية الزعيم والدعاية؛ لذلك لم يكن بمستطاع هذا الجيل المؤسس أن يذهب بعيدا في الانتقال الإعلامي، ولم يكن مستعدا لذلك.

 

الصحافة المستقلة.. رافعة الانتقال

كانت معالم الانفتاح السياسي واضحة خلال أواسط سنوات التسعينيات وأواخرها في عهد الملك الراحل الحسن الثاني: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، الكشف عن السجون السرية وإغلاقها، دينامية متصاعدة للأحزاب والنقابات، تعديل الدستور…

هذه الدينامية ستنتهي بتولي المعارضة مهام التدبير الحكومي، في 4 فبراير/ شباط 1998، بعد عقود من الصراعات والمواجهة السياسية مع الحسن الثاني.

في هذه الفترة، سترى النور تجارب صحفية مستقلة، أو خاصة، مستفيدة من جو الانفتاح السياسي والحقوقي الذي بات يعرفه المغرب. هكذا، ستخرج إلى الوجود يوميات جديدة، مثل "الصباح" و"الأحداث المغربية"، إضافة إلى أسبوعيات عديدة، لعل أبرزها: "الصحيفة" و"لوجورنال" و"دومان" و"الأيام"، وبعد ذلك مجلة "تيل كيل" و"نيشان"، ثم يومية "المساء".

الباعث الرئيسي لميلاد هذه المنابر كان جو الانفتاح الذي بدأت ملامحه تظهر في السنوات الأخيرة من عهد الملك الحسن الثاني، وتواصل مع خلفه الملك محمد السادس، خلال السنوات الأولى من توليه العرش؛ فقد سمح بعودة المعارض السياسي أبراهام السرفاتي، الذي كان والده الحسن الثاني قد نفاه إلى فرنسا بعد إطلاق سراحه، ورفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين، الزعيم الروحي لجماعة "العدل والإحسان"، والأهم إقالة إدريس البصري، وزير الداخلية والرجل القوي في عهد الحسن الثاني.

اختفت النبرة النقدية، وغاب التناول والمعالجة لقضايا مثل الفساد الإداري والانتهاكات الحقوقية والهشاشة الاجتماعية والريع الاقتصادي، وكان محرما الاقتراب من قضايا مصيرية لديها ارتباط بتدبير الدولة نفسها للشأن العام.

شجعت هذه الأجواء الصحف المستقلة على استثمار الفترة الانتقالية لـ "العهد الجديد" إلى أقصى درجة. وكان التنافس الإعلامي شديدا في تكسير التابوهات والخطوط الحمراء. هكذا، بتنا نطالع أغلفة تقول بكل جرأة إنه على وزير الداخلية القوي، إدريس البصري، أن يرحل. كذلك أصبح معارضون بارزون يتصدرون أغلفة الصحف الأسبوعية المستقلة، بل، ولأول مرة، سيتعرف المغاربة على موضوعات وقضايا لم يكن مسموحا بتناولها في السابق، وستفتح الصحف المستقلة صفحاتها لمسؤولين سابقين بالأجهزة الأمنية المغربية.

انزَوَت، إذًا، الصحافة الحزبية، بعد عقود من الصدارة والهيمنة، إلى الخلف، وأصبحت الصحافة المستقلة تتصدر المشهد الإعلامي على مستوى التأثير والانتشار والمبيعات. وبات واضحا أن الإعلام الخاص، أو المستقل يتولى تنشيط النقاش العمومي، وفتح ملفات الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والنبش في ملفات كانت تعد قبل سنوات محرمة على الصحافة، مثل مساءلة تدبير قضية الصحراء المغربية، وتسليط الضوء على سلطة المال والأعمال... إلى غير ذلك من الموضوعات التي اقتحمتها الصحافة المستقلة ولم تعد تخلو صفحاتها الأولى وأغلفتها من عناوينها المثيرة.

حتى الأوضاع والنقاشات الداخلية للأحزاب ستصبح مادة أساسية في الصحافة المستقلة، وسيُخرج الشأن الحزبي من طابع الكتمان والأسوار المغلقة إلى رحاب الفضاء العام، ويصبح متاحا للعموم. هذه الدينامية المغرية التي شهدها العمل الصحفي بدت للوهلة الأولى صحية ومشجعة، فقد ساعدت الرأي العام على مواكبة المرحلة الانتقالية التي يعيشها المغرب، وأصبح تدفق المعلومات متيسرا شاملا قضايا حساسة.

بات واضحا أن الإعلام الخاص، أو المستقل يتولى تنشيط النقاش العمومي، وفتح ملفات الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والنبش في ملفات كانت تعد قبل سنوات محرمة على الصحافة، مثل مساءلة تدبير قضية الصحراء المغربية، وتسليط الضوء على سلطة المال والأعمال...

ورغم "حوادث السير" التي كانت تحاول فرملة هذه الدينامية، مثلما وقع حين مُنِعت ثلاث صحف مستقلة دفعة واحدة (الصحيفة، لوجورنال، دومان) في ديسمبر/ كانون الأول 2000، فإن إصرار هذه المنابر والجيل الجديد من الصحفيين على مواصلة المغامرة، وخروج الصحفيين وهيئات المجتمع المدني للاحتجاج في الشارع على هذا المنع، جعل الاصطدام مع السلطات يتأجل إلى حين.

في أسبوعية "الصحيفة"، التي التحقت بهيئة تحريرها، خلال هذه الفترة، استقطب موضوع الملكية اهتمامنا، مثل بقية الصحف المستقلة. كان حافزنا في ذلك أجواء الانفتاح النسبية التي فتحت، وتعطش الرأي العام لمعرفة طريقة تفكير الملك الجديد وعمله.

فخلال المراحل الانتقالية، في تاريخ الدول، يكون فضول الناس لمعرفة اختيارات الحاكم الجديد وتوجهاته في تدبير دواليب الدولة، مشروعا. وقد تولت الصحافة المستقلة بالمغرب هذه المهمة الإعلامية، وكان لها دور مهم في تحقيق هذه المعرفة، وحاولت، في حدود ما تسمح به إمكاناتها، أن تسهم في فتح مزيد من الآمال المعلقة على تلك الفترة الانتقالية.

ولكن منتصف سنة 2003 شكل بداية مرحلة جديدة. ارتبط ذلك بما حدث يوم الجمعة 16 ماي 2003، عندما هزت خمسة تفجيرات إرهابية مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة، راح ضحيتها 41 شخصا.

وسط هذه الأجواء المشحونة والتشدد الذي باتت تتصرف به السلطات، برز الدور الكبير الذي لعبته الصحافة المستقلة، في هذا الظرف الانتقالي، على مستويين:

أولا؛ ضمان تغطية مهنية وحيادية لتفجيرات الدار البيضاء الإرهابية، وتمكين الرأي العام من الأخبار والمعلومات كافة بشأن المنفذين. وقدمت تغطية الصحافة المستقلة وتحقيقاتها روايات أكثر عمقا من الرواية الرسمية أحيانا.

ثانيا؛ "فك الحصار" الإعلامي والسياسي الذي عاشه حزب "العدالة والتنمية"، وتمكينه من شرح وجهة نظره أمام الرأي العام، وعدم الانجرار وراء خطابات حل الحزب.

ويمكن القول إجمالا إن الصحافة المستقلة استطاعت الخروج سالمة، نوعا ما، من إغراءات عودة القبضة المشددة، التي كانت تلوح في الأفق.

بعد سنة من تلك الأحداث الدامية والأجواء الاستثنائية التي خلفتها، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي، سيدخل المغرب محطة تاريخية مهمة، تتمثل في إنشاء "هيئة الإنصاف والمصالحة". تأسست هذه الهيئة بمقتضى قرار ملكي بتاريخ 7 يناير 2004 وأنيطت بها مهمة التحري عن الحقيقة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان منذ استقلال المغرب، والكشف عن مصير المختفين والمختطفين، والوقوف على مسؤولية الدولة، وتعويض الضحايا. هذه المحطة التاريخية، ذات الصلة بمحاولة الانتقال، ستعطي للصحافة المستقلة نفسا جديدا ومجالا رحبا للعمل الاستقصائي.

يمكن القول إن الصحافة المستقلة، خصوصا أسبوعيتَيْ "الصحيفة" و"الأيام"، كانت تشتغل كـ"هيئة" موازية، وشكلت "فِرَق تحقيق" خاصة بها من صحفيين لهم تكوين قانوني وإلمام بالملفات الحقوقية، ويتوفرون على شبكات علاقات بمختلف الفاعلين.

هذا المجهود الذي بذلته الصحافة المستقلة أسهم في:

أولا؛ متابعة أشغال "هيئة الإنصاف والمصالحة" وتحقيقاتها، وتمكين الجمهور من تتبع أخبارها.

ثانيا؛ إجراء تحقيقات موازية ومقابلة مختلف الضحايا وعائلاتهم والتعريف بملفاتهم.

ثالثا؛ إخضاع عمل الهيئة للمتابعة والتمحيص والتدقيق في المعلومات التي تقدمها و"تسريب" المداولات الداخلية.

رابعا؛ الضغط الإعلامي لحثّ الهيئة على الذهاب بعيدا في تحرياتها والانفتاح أكثر على الجمهور وتزويده بالأخبار.

خامسا؛ إخضاع النتائج النهائية للهيئة للنقد والمساءلة وطرحها للقراءة والتقييم من طرف الفاعلين المدنيين والسياسيين، والاستماع إلى الضحايا وعائلاتهم بشأن نتائج التحريات.

 

"جيوب المقاومة"

في الإجمال، لم يكن الطريق كله مفروشا بالورود. تحلى الإعلام المستقل بالتحدي والإصرار، وسط مقاومات من قبل أطراف في السلطة. وكما يلحظ عدد من متتبعي الشأن السياسي بالمغرب، فإن هناك ديناميتين تحكمان تطور الحياة السياسية: دينامية إيجابية تقوم على تعزيز الديمقراطية وفتح ورشات الإصلاح والانتصار للقانون، ودينامية سلبية موازية تقضم كل منجزات الدينامية الأولى وتشدها إلى الخلف. ومن ثَمّ، ليست هناك مكتسبات نهائية ودائمة. وإذا كانت السنوات العشر التي أعقبت تولي الملك محمد السادس العرش لحظة انتقالية بامتياز، فإنها خضعت لهذه الدينامية المزدوجة.

هذه المرحلة الانتقالية ستنتهي أواخر الألفية الثانية، بتركيز أسس السلطة الجديدة بالمغرب. وسيظهر أن فترة التمرين على "المصالحة" بين السلطة والصحافة سينتهي. هكذا ستختفي أسبوعيات أساسية طبعت هذه المرحلة: "الصحيفة" و"لوجورنال" و"نيشان"، نتيجة تعدد الغرامات المالية وثقلها إثر المحاكمات التي تعرضت لها و"مقاطعة" سوق الإشهار/ الإعلان لها بوصف ذلك شكلا من أشكال التضييق المالي، وقبلهما توقفت أسبوعيّتا "دومان" و"دومان ماگازين" إثر محاكمة مديرهما وسجنه ومنعه من ممارسة الصحافة عشر سنوات. كذلك سيضطر المؤسس ومدير النشر لمجلة "تيل كيل" إلى تقديم استقالته بعد تراكم الغرامات المالية الثقيلة على المجلة التي تعرضت للمنع والمحاكمة عدة مرات.

وكيفما كانت مآلات الانتقال بالمغرب، فإن من بين الأسئلة التي لا يمكن إغفال طرحها تلك التي تتعلق بالإعلام وموقعه في الانتقال. ولعل من أهمها: هل نجح الإعلام بالمغرب في مرافقة المرحلة الانتقالية وإنجاحها؟ وهل نجح في تكريس قواعد آمنة ودائمة للممارسة الصحفية السليمة؟

المزيد من المقالات

صحافة المواطن.. "الصوت الأخير" وسط الإبادة

كيف ساهم المواطنون الصحفيون بغزة في تغطية حرب الإبادة الجماعية؟ وما الذي دفعهم لدخول مجال الصحافة؟ وما هي التحديات المهنية التي يواجهونها؟ يقدم المقال قراءة في مسارات مواطنين صحفيين جاؤوا من مشارب أكاديمية مختلفة، وجدوا أنفسهم في مواجهة النسق الإبادي لـ "الجماعة الصحفية" في فلسطين.

فاطمة الزهراء زايدي نشرت في: 8 يونيو, 2025
من معسكرات البوسنة وشوراع كيغالي إلى مجازر غزة.. عن جدوى تغطية الصحفيين الأجانب للإبادات الجماعية

كيف غطّى الصحفيون الأجانب عمليات القتل في كل من البوسنة والهرسك ورواندا؟ هل ساهموا في إيصال الحقيقة وإحداث تأثير؟ هل كان دخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة سيغير من واقع الإبادة المستمرة؟ وهل كانت تغطياتهم للمجاعة والمجارز ستقدم إضافة للتغطية اليومية للصحفيين المحليين؟ لماذا يُنظر إلى تغطية الصحافة المحلية للحروب بأنها تغطية قاصرة مقارنة بالصحافة الغربية على الرغم من أنها تتكبد الخسائر والضحايا بشكل أكبر؟

Saber Halima
صابر حليمة نشرت في: 1 يونيو, 2025
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

Al Jazeera Journalism Review
مجلة الصحافة نشرت في: 27 مايو, 2025
كيف تتحرر الصحافة السورية من إرث الماضي؟

التركة التي خلفها نظام حزب البعث في سوريا مست كل هياكل الدولة في مقدمتها الصحافة التي كانت أداة مكينة في يد السلطة. سؤال الاستقلالية وبناء نموذج إعلامي في المرحلة الجديدة قائم على المساءلة، وينبغي أن يطرح بجرأة بحثية في هذا التوقيت الحساس.

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 20 مايو, 2025
عن أثر شيرين أبو عاقلة

قبل ثلاث سنوات من الآن، قتل الاحتلال الإسرائيلي الزميلة شيرين أبو عاقلة، صحفية قناة الجزيرة، لكن أثرها وثراء تجربتها المهنية والإنسانية جعل تأثيرها ممتدا في الزمن، يلاحق القتلة رغم أن العدالة ما تزال مفقودة.

حياة الحريري نشرت في: 11 مايو, 2025
الصحافة وسؤال المهنية في المراحل الانتقالية

هل تستطيع الصحافة أن تلعب دورًا فاعلًا في ترسيخ العدالة الانتقالية وسط هشاشة المؤسسات، وتضليل الروايات، وغياب التوافق المجتمعي؟ محمد زيدان، عضو هيئة تحرير مجلة الصحافة، يضيء على بعض التجارب الانتقالية وارتباطها بأدوار الصحافة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 9 مايو, 2025
هل تكفي شهادات الصحافة في العراق لدخول "سوق العمل"؟

المزيد من خريجي كليات الصحافة في العراق يعيشون البطالة، والمتهم الأول: المناهج الدراسية. تحاول هذه المقالة، بناء على رأي الفاعلين في عملية تدريس الصحافة سوق العمل، فهم الأسباب الحقيقية التي تجعل الفجوة تتسع بين الكلية والميدان.

Hassan Akram
حسن أكرم نشرت في: 6 مايو, 2025
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الانتخابات الأوروبية

ألغت المحكمة الدستورية في وقت سابق في رومانيا الانتخابات الرئاسية بسبب شبهات حول تأثير جهات أجنبية باستخدام منصات التواصل الاجتماعي. النقاش في أوروبا حول التدخل في الانتخابات وصل ذروته خاصة بعدما أعلن إيلون ماسك، مالك إكس، مساندته الصريحة لتيارات أقصى اليمين. هل أصبحت منصات التواصل الاجتماعي تهدد مستقبل الديمقراطية في العالم؟

عبد المجيد الفرجي نشرت في: 27 أبريل, 2025
في رواندا.. الإعلام شريكا في الإبادة وفي المصالحة

كان من النادر أن يحاكم صحفيون أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية بتهمة التحريض على الإبادة. في رواندا، ساهم الإعلام في تأجيج مشاعر الكراهية قبل أن يصبح فضاء للحوار والمصالحة في فترة ما بعد الانتقال رغم انتقادات واسعة لعدم استكمال مسار الانتقال. ما هي أسس هذا التحول؟ وكيف ساهمت الصحافة في تجاوز مرحلة حساسة من تاريخ البلد؟

جبرين أحمد عيسى نشرت في: 23 أبريل, 2025
"صحوة" الصحافة الإلكترونية في السودان وسؤال المهنية

أثر الصراع المسلح في السودان على الكثير من المؤسسات الإعلامية خاصة الورقية التي كانت إلى وقت قريب الأكثر تأثيرا. لجأ الصحفيون إلى إنشاء مواقع إلكترونية هربا من التعقيدات الإدارية والكلفة المادية المرتفعة، لكنها مغامرة لا تخلو من انتهاكات أخلاقية ومهنية تعزز في الكثير من الأحيان خطاب الكراهية.

أفراح تاج الختم نشرت في: 20 أبريل, 2025
"الانتقال الإعلامي" الموؤود في تونس

بشرت التجربة التونسية في الانتقال السياسي، بتحرير المجال الإعلامي من تركة الاستبداد السياسي المتوارثة من نظام بنعلي. في ظرف عشر سنوات فقط، وباستثناء تجارب قليلة، استحضرت أسس المرحلة الانتقالية، تحولت الكثير من وسائل الإعلام إلى واجهة للسلطة بينما غرق الإعلام الخاص فيما بات يسميه التونسيون بصحافة "بيع المستلزمات المنزلية".

عائشة غربي نشرت في: 9 أبريل, 2025
الصحافة المستقلة في سوريا والبحث عن ولادة جديدة

هل ستحرر المرحلة الجديدة في سوريات مساحات لحرية التعبير للصحفيين المستقلين؟ وما هي الضمانات المهنية التي يمكن أن تساعدهم في ممارسة أدوار الرقابة والمساءلة؟ وإلى أي مدى تشكل وسائل التواصل الاجتماعي فضاء حرا لممارسة الصحافة بعيدا عن قيود وسائل الإعلام الحكومية أو الممولة؟

رؤى الزين نشرت في: 5 أبريل, 2025
الإعلام المساند للثورة في سوريا.. سياقات النشأة وإكراهات الاستدامة

كيف نشأ الإعلام السوري المساند للثورة؟ وماهي مراحل تطوره ومصادر تمويله الأساسية؟ وهل استطاع الانتقال من النضال السياسي إلى ممارسة المهنة بمبادئها المؤسسة؟

ميس حمد نشرت في: 3 أبريل, 2025
هل تحتاج ليبيا إلى إعلام حكومي؟

في ليبيا تزداد مخاوف الصحفيين وشريحة كبيرة من الرأي العام من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لـ "إصلاح" الإعلام الحكومي. وبين التوجس من أن تصبح مؤسسات الإعلام تابعة لهيكل الدولة والآمال في مسايرة تطور المجتمع يطرح السؤال الكبير: هل تحتاج ليبيا ما بعد الثورة إعلاما حكوميا؟

عماد المدولي نشرت في: 27 مارس, 2025
لماذا الجزيرة 360؟

ما دوافع إطلاق منصة الجزيرة 360؟ وما الذي يميزها عن باقي المنصات الأخرى أو التابعة لشبكة الجزيرة الإعلامية؟ وما هي القيمة المضافة التي ستثري بها المحتوى العربي؟ وكيف استطاعت المنصة أن تصل إلى أكبر شريحة من الجمهور في وقت قصير؟

أفنان عوينات نشرت في: 6 مارس, 2025
شيرين أبو عاقلة.. الحضور والغياب

اغتال الاحتلال الإسرائيلي الصحفية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة كما اغتال مئات الصحفيين في غزة، لكنها لا تزال مؤثرة في المشهد الصحفي الفلسطيني والعالمي، ولا تزال تغطياتها الميدانية على مدار سنوات، تشكل درسا مهنيا للصحفيين، ووثيقة تدين الاحتلال إلى الأبد.

Linda Shalash
لندا شلش نشرت في: 23 فبراير, 2025
الوقفة أمام الكاميرا.. هوية المراسل وبصمته

ماهي أنواع الوقفات أمام الكاميرا؟ وما وظائفها في القصة التلفزيونية؟ وكيف يمكن للصحفي استخدامها لخدمة زوايا المعالجة؟ الزميل أنس بنصالح، الصحفي بقناة الجزيرة، راكم تجربة ميدانية في إنتاج القصص التلفزيونية، يسرد في هذا المقال لماذا تشكل الوقفة أمام الكاميرا جزءا أصيلا من التقارير الإخبارية والإنسانية.

أنس بن صالح نشرت في: 18 فبراير, 2025
قتل واستهداف الصحفيين.. لماذا تفلت إسرائيل من العقاب؟

لماذا تفلت إسرائيل من العقاب بعد قتلها أكثر من 200 صحفي؟ هل بسبب بطء مساطر وإجراءات المحاكم الدولية أم بسبب فشل العدالة في محاسبة الجناة؟ ألا يشجع هذا الإفلات على استهداف مزيد من الصحفيين وعائلاتهم ومقراتهم؟

ناصر عدنان ثابت نشرت في: 16 فبراير, 2025
الصحفيون الفريلانسرز.. تجارب عربية في مواجهة "الحرس القديم"

في الأردن كما في لبنان ما يزال الصحفيون الفريلانسرز يبحثون عن الاعترافيْن النقابي والقانوني. جيل جديد من الصحفيين إما متحررين من رقابة مؤسسات وسائل الإعلام أو اضطرتهم الظروف للعمل كمستقلين يجدون أنفسهم في مواجهة "حرس قديم" يريد تأميم المهنة.

بديعة الصوان, عماد المدولي نشرت في: 12 فبراير, 2025
العنف الرقمي ضد الصحفيات في لبنان

تواجه الصحفيات اللبنانيات أشكالا مختلفة من العنف الرقمي يصل حد التحرش الجنسي والملاحقات القضائية و"المحاكمات الأخلاقية" على وسائل التواصل الاجتماعي. تحكي الزميلة فاطمة جوني قصص صحفيات وجدن أنفسهن مجردات من حماية المنظمات المهنية.

فاطمة جوني نشرت في: 9 فبراير, 2025
الصحافة والجنوب العالمي و"انتفاضة" مختار امبو

قبل أسابيع، توفي في العاصمة السنغالية داكار أحمد مختار امبو، الذي كان أول أفريقي أسود يتولى رئاسة منظمة دولية كبر

أحمد نظيف نشرت في: 3 فبراير, 2025
الصحفي الرياضي في مواجهة النزعة العاطفية للجماهير

مع انتشار ظاهرة التعصب الرياضي، أصبح عمل الصحفي محكوما بضغوط شديدة تدفعه في بعض الأحيان إلى الانسياق وراء رغبات الجماهير. تتعارض هذه الممارسة مع وظيفة الصحافة الرياضية التي ينبغي أن تراقب مجالا حيويا للرأسمال السياسي والاقتصادي.

أيوب رفيق نشرت في: 28 يناير, 2025
الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا يجب أن يحْذر الصحفيون من المصادر الإسرائيلية؟

دعاية وإشاعات وأخبار متضاربة رافقت المفاوضات العسيرة لصفقة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، اعتمدت خلالها الكثير من المؤسسات الإعلامية العربية على المصادر العبرية لمتابعة فصولها. ما هو الفرق بين نقل الخبر والرأي والدعاية إلى الجمهور العربي؟ وكيف أثرت الترجمة "العشوائية" على الجمهور الفلسطيني؟ وما الحدود المهنية للنقل عن المصادر الإسرائيلية؟

Ahmad Al-Agha
أحمد الأغا نشرت في: 20 يناير, 2025