بعد أسبوعين من مبايعة الملك محمد السادس وتوليه العرش خلفا لوالده الحسن الثاني سنة 1999، صدرت جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، التي كان مديرها آنذاك، الراحل الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، وكان في الوقت نفسه يشغل منصب الوزير الأول، بعنوان عريض ومثير: "من يحب ملكه يجب أن يقول له الحقيقة كاملة".
تصدر هذا العنوان استجوابا أجراه الصحفي عبد الرحيم أريري مع القيادي بحزب الوزير الأول، محمد الساسي. وكان الاستجواب عبارة عن قراءة وتحليل لأول خطاب للعرش يلقيه الملك محمد السادس، كذلك كان بمنزلة ترافع و"مذكرة مطالب إصلاحية" موجهة إلى الملك الجديد.
مضامين الاستجواب، التي صدرت بجريدة الوزير الأول، ستخلق رجة وتداعيات، وسط الجريدة ووسط الحزب والحكومة، وستؤدي إلى معاقبة الصحفي الذي أجرى الاستجواب ثم توقيفه إداريا لمدة أسبوع، وليس السياسي الذي صدرت عنه تلك التصريحات.
كانت مبررات الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول ومدير الجريدة، أن التقاليد المغربية لا تقبل توجيه هذا الخطاب، أو هذا الترافع، خلال فترة العزاء التي يعيشها الملك.
بدا الأمر وكأن خطوطا حُمْرا ترسم في دور الإعلام في الإسهام في هذه المرحلة الانتقالية، خصوصا على مستوى "الإعلام الحزبي" الذي يقود التجربة الحكومية. بدأ، إذًا، يبرز نوع من المحافظة في التعامل الإعلامي مع الشأن السياسي في عهد الملك الشاب، من طرف إعلام كافح طيلة عقود من أجل استمرار التقاليد الصحفية في المغرب، وكان يتمتع بنفوذ واسع وتأثير كبير في التأثير في الرأي العام.
الإعلام الحزبي.. الفرصة الضائعة
كان "العهد الجديد"، التسمية التي أعطيت لبداية مرحلة الملك محمد السادس، قد ولّد آمالا وانتظارات كبيرة، مثلما نال استحسانا وتعاطفا كبيرا ومشجعا، وهو ما عكسه الانتقال السلس والسريع للسلطة بين ملكين من دون حوادث أو مشكلات تذكر، معزَّزا بالقرارات الأولى التي اتخذها الملك الشاب.
كانت الأحلام واسعة، والآمال معقودة على أن يكون للصحافة دور ريادي في مصاحبة المرحلة الانتقالية، ولكن سرعان ما تعرضت أولى مبادرات الترافع الإعلامي من أجل "مغرب جديد" لأزمة حقيقية لضمان المرور إلى السرعة الثانية في مرافقة الانتقال السياسي الذي يعرفه المغرب ومواكبته.
لقد تحولت صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" من رافعة لمطالب فئات ونخب عديدة بالمجتمع إلى أشبه بجريدة حكومية تتولى تسويق منجزات الحكومة وتبرير قراراتها. اكتفت أو حبست نفسها في تسويق صورة الحزب والحكومة، وتحولت من "الدعوة" إلى "الدعاية"؛ من الدعوة إلى الإصلاح والتغيير إلى الدعاية للحكومة ووزرائها.
كانت الآمال معلقة على أن تقود وتنهض بهذه المهمة الصحف الحزبية، وعلى رأسها يومية "الاتحاد الاشتراكي"، بما لها من تجربة وخبرة ومصداقية راكمتها طيلة سنوات المعارضة أو ما يعرف في التحقيب السياسي المغربي بـ "سنوات الرصاص".
فإلى حدود 4 فبراير/ شباط 1998، تاريخ وصول حزب الاتحاد الاشتراكي إلى قيادة الحكومة، قبل وفاة الحسن الثاني بسنة ونصف، كانت الصحيفة تتربع على عرش مبيعات الجرائد المغربية، وتجر وراءها تجربة طويلة وتقاليد عريقة في العمل الصحفي، إضافة إلى توفرها على طاقم صحفي يضم كفاءات قلما اجتمعت في جريدة ما.
للأسف، أخلفت الصحافة الحزبية الموعد مع التاريخ؛ ففي مرحلة انتقالية مزدوجة وحساسة في تاريخ المغرب، أي وصول حزب الاتحاد الاشتراكي الى قيادة الحكومة بعد أربعين سنة من المعارضة، وانتقال الحكم بين ملكين، لم تكن الصحيفة مهيأة ومستعدة للعب دور تاريخي في الانتقال المزدوج الذي تعيشه البلاد. لقد تحولت من جريدة كانت رافعة لمطالب فئات ونخب عديدة بالمجتمع إلى أشبه بجريدة حكومية تتولى تسويق منجزات الحكومة وتبرير قراراتها. اكتفت أو حبست نفسها في تسويق صورة الحزب والحكومة. تحولت من "الدعوة" إلى "الدعاية"؛ من الدعوة إلى الإصلاح والتغيير إلى الدعاية للحكومة ووزرائها.
يمكن القول إن صحيفة الاتحاد الاشتراكي، التي عشت داخلها أجواء الانتقال المزدوج، قد تخلفت عن ركوب قطار مرافقة الانتقال السياسي بالمغرب إعلاميا والترافع من أجل تجويده وتحصين ضمانات إنجاحه.
هذا الإخفاق سيكون له انعكاس سلبي على مبيعات الصحيفة وعلى مكانتها التاريخية؛ إذ ضعف الإقبال على "الجريدة الأولى بالمغرب" لصالح اليوميات المستقلة الصاعدة، وهو ما دعا قيادة حزب "الاتحاد الاشتراكي" إلى دعوة هيئة تحرير الجريدة إلى اجتماع عاجل.
في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، شهدت قاعة الاجتماعات بالطابق الخامس بمقر الجريدة بمدينة الدار البيضاء، حالة استنفار بـإنزال" قيادة الحزب كافة" برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي. وكانت طبيعة الجو المكهرب تشي بأن إعلام الحزب يعيش حالة موت سريري.
كان السؤال الرئيس الذي طرحه اليوسفي على أعضاء هيئة التحرير: ما العمل؟ ولكنه جاء متأخرا نوعا ما. لذلك، لم يسفر الاجتماع عن خطة عمل ولا عن تحول في السياسة التحريرية، واستمرت مبيعات الصحيفة في الانحدار وفقدان ثقة القارئ.
في ذلك الاجتماع، الأول والأخير بشأن أزمة الصحيفة، قلت للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي: "أنت أكثر واحد في هذه القاعة تعرف علاج أزمة الصحيفة، أسهمت في تأسيس إعلام الحزب، وواكبتَ تطوره، وتحملت مسؤولية إدارة تحريره ونشره، وأنت قارئ ومتابع محترف للتجارب الإعلامية. يجب أن تفصل الجريدة عن الحزب، وتحول الجريدة الى مؤسسة حقيقية تنتصر للمهنة".
في ذلك الاجتماع، الأول والأخير بشأن أزمة الصحيفة، قلت للأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، رئيس الحكومة: "أنت أكثر واحد في هذه القاعة تعرف علاج أزمة الصحيفة، أسهمت في تأسيس إعلام الحزب، وواكبتَ تطوره، وتحملت مسؤولية إدارة تحريره ونشره، وأنت قارئ ومتابع محترف للتجارب الإعلامية. يجب أن تفصل الجريدة عن الحزب، وتحول الجريدة إلى مؤسسة حقيقية تنتصر للمهنة".
في الحقيقة، لم يكن اليوسفي في حاجة إلى تذكيره بمهمة الانتقال الإعلامي، فهو قارئ ومتابع جيد لوسائل الإعلام. المشكل كان يكمن في الثقافة السياسية لجيل من زعماء الأحزاب، وهي ثقافة تقوم على الكتمان وعلى الولاء ومحورية الزعيم والدعاية؛ لذلك لم يكن بمستطاع هذا الجيل المؤسس أن يذهب بعيدا في الانتقال الإعلامي، ولم يكن مستعدا لذلك. وأكثر من ذلك، لم يسمح بتسليم المشعل إلى أجيال جديدة. لقد نجح في دور المعارضة، لكنه افتقر إلى الرؤية والإرادة السياسية للفصل بين المشاركة في الحكومة والسماح للإعلام الحزبي بالتغريد الحر.
لذلك، لم نكن نستغرب من غضب اليوسفي من غياب صوره وتغطية أنشطته بوصفه وزيرا أول على صفحات الجريدة التي يديرها، رغم أن أنشطته كافة تحظى بالتغطية من طرف وسائل الإعلام الرسمية. وحدث ذات يوم أن وبخ رئيس التحرير بشدة، فقط لأن الخبر الرئيسي، بشأن نشاط الوزير الأول، بالصفحة الأولى لم يكن على ثمانية أعمدة، وإنما على خمسة فقط.
هكذا، كان جيل السياسيين الذين عاشوا الانتقال السياسي بالمغرب يتصور دور الإعلام. وهكذا كان قدر الإعلاميين الذين اشتغلوا بالإعلام الحزبي خلال هذه المرحلة: كبح أدوارهم، خلال مرحلة انتقالات كبرى عاشها المغرب، في توسيع قوس الحريات الذي انفتح، والانتصار لقيم الديمقراطية، وإسناد الآمال التي فتحها تولي الملك محمد السادس العرش، ومرافقة هذه الانتظارات بفتح ملفات كانت مغلقة في عهد الحسن الثاني، خصوصا أنه خلال السنوات الأولى من حكم محمد السادس تنفس مجال الحريات، وكانت مبادرات الملك تشجع على المغامرة بإعلاء سقف التناول الإعلامي لـ"العهد الجديد" وتقوية ضمانات وأسس لممارسة إعلامية حديثة ومستقلة. وهذه مفارقة؛ لقد أُجهِض الانتقال الإعلامي حزبيا، وانتصرت رؤية السياسي الذي يفضل الترافع والمفاوضة والمناورة خلف الأبواب المغلقة، عوض تمكين الإعلاميين من طرح القضايا الكبرى في الفضاء العام. فاختفت، بذلك، النبرة النقدية، وغاب التناول والمعالجة لقضايا مثل الفساد الإداري والانتهاكات الحقوقية والهشاشة الاجتماعية والريع الاقتصادي، وكان محرما الاقتراب من قضايا مصيرية لديها ارتباط بتدبير الدولة نفسها للشأن العام.
المشكل كان يكمن في الثقافة السياسية لجيل من زعماء الأحزاب، وهي ثقافة تقوم على الكتمان وعلى الولاء ومحورية الزعيم والدعاية؛ لذلك لم يكن بمستطاع هذا الجيل المؤسس أن يذهب بعيدا في الانتقال الإعلامي، ولم يكن مستعدا لذلك.
الصحافة المستقلة.. رافعة الانتقال
كانت معالم الانفتاح السياسي واضحة خلال أواسط سنوات التسعينيات وأواخرها في عهد الملك الراحل الحسن الثاني: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، الكشف عن السجون السرية وإغلاقها، دينامية متصاعدة للأحزاب والنقابات، تعديل الدستور…
هذه الدينامية ستنتهي بتولي المعارضة مهام التدبير الحكومي، في 4 فبراير/ شباط 1998، بعد عقود من الصراعات والمواجهة السياسية مع الحسن الثاني.
في هذه الفترة، سترى النور تجارب صحفية مستقلة، أو خاصة، مستفيدة من جو الانفتاح السياسي والحقوقي الذي بات يعرفه المغرب. هكذا، ستخرج إلى الوجود يوميات جديدة، مثل "الصباح" و"الأحداث المغربية"، إضافة إلى أسبوعيات عديدة، لعل أبرزها: "الصحيفة" و"لوجورنال" و"دومان" و"الأيام"، وبعد ذلك مجلة "تيل كيل" و"نيشان"، ثم يومية "المساء".
الباعث الرئيسي لميلاد هذه المنابر كان جو الانفتاح الذي بدأت ملامحه تظهر في السنوات الأخيرة من عهد الملك الحسن الثاني، وتواصل مع خلفه الملك محمد السادس، خلال السنوات الأولى من توليه العرش؛ فقد سمح بعودة المعارض السياسي أبراهام السرفاتي، الذي كان والده الحسن الثاني قد نفاه إلى فرنسا بعد إطلاق سراحه، ورفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين، الزعيم الروحي لجماعة "العدل والإحسان"، والأهم إقالة إدريس البصري، وزير الداخلية والرجل القوي في عهد الحسن الثاني.
اختفت النبرة النقدية، وغاب التناول والمعالجة لقضايا مثل الفساد الإداري والانتهاكات الحقوقية والهشاشة الاجتماعية والريع الاقتصادي، وكان محرما الاقتراب من قضايا مصيرية لديها ارتباط بتدبير الدولة نفسها للشأن العام.
شجعت هذه الأجواء الصحف المستقلة على استثمار الفترة الانتقالية لـ "العهد الجديد" إلى أقصى درجة. وكان التنافس الإعلامي شديدا في تكسير التابوهات والخطوط الحمراء. هكذا، بتنا نطالع أغلفة تقول بكل جرأة إنه على وزير الداخلية القوي، إدريس البصري، أن يرحل. كذلك أصبح معارضون بارزون يتصدرون أغلفة الصحف الأسبوعية المستقلة، بل، ولأول مرة، سيتعرف المغاربة على موضوعات وقضايا لم يكن مسموحا بتناولها في السابق، وستفتح الصحف المستقلة صفحاتها لمسؤولين سابقين بالأجهزة الأمنية المغربية.
انزَوَت، إذًا، الصحافة الحزبية، بعد عقود من الصدارة والهيمنة، إلى الخلف، وأصبحت الصحافة المستقلة تتصدر المشهد الإعلامي على مستوى التأثير والانتشار والمبيعات. وبات واضحا أن الإعلام الخاص، أو المستقل يتولى تنشيط النقاش العمومي، وفتح ملفات الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والنبش في ملفات كانت تعد قبل سنوات محرمة على الصحافة، مثل مساءلة تدبير قضية الصحراء المغربية، وتسليط الضوء على سلطة المال والأعمال... إلى غير ذلك من الموضوعات التي اقتحمتها الصحافة المستقلة ولم تعد تخلو صفحاتها الأولى وأغلفتها من عناوينها المثيرة.
حتى الأوضاع والنقاشات الداخلية للأحزاب ستصبح مادة أساسية في الصحافة المستقلة، وسيُخرج الشأن الحزبي من طابع الكتمان والأسوار المغلقة إلى رحاب الفضاء العام، ويصبح متاحا للعموم. هذه الدينامية المغرية التي شهدها العمل الصحفي بدت للوهلة الأولى صحية ومشجعة، فقد ساعدت الرأي العام على مواكبة المرحلة الانتقالية التي يعيشها المغرب، وأصبح تدفق المعلومات متيسرا شاملا قضايا حساسة.
بات واضحا أن الإعلام الخاص، أو المستقل يتولى تنشيط النقاش العمومي، وفتح ملفات الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، والنبش في ملفات كانت تعد قبل سنوات محرمة على الصحافة، مثل مساءلة تدبير قضية الصحراء المغربية، وتسليط الضوء على سلطة المال والأعمال...
ورغم "حوادث السير" التي كانت تحاول فرملة هذه الدينامية، مثلما وقع حين مُنِعت ثلاث صحف مستقلة دفعة واحدة (الصحيفة، لوجورنال، دومان) في ديسمبر/ كانون الأول 2000، فإن إصرار هذه المنابر والجيل الجديد من الصحفيين على مواصلة المغامرة، وخروج الصحفيين وهيئات المجتمع المدني للاحتجاج في الشارع على هذا المنع، جعل الاصطدام مع السلطات يتأجل إلى حين.
في أسبوعية "الصحيفة"، التي التحقت بهيئة تحريرها، خلال هذه الفترة، استقطب موضوع الملكية اهتمامنا، مثل بقية الصحف المستقلة. كان حافزنا في ذلك أجواء الانفتاح النسبية التي فتحت، وتعطش الرأي العام لمعرفة طريقة تفكير الملك الجديد وعمله.
فخلال المراحل الانتقالية، في تاريخ الدول، يكون فضول الناس لمعرفة اختيارات الحاكم الجديد وتوجهاته في تدبير دواليب الدولة، مشروعا. وقد تولت الصحافة المستقلة بالمغرب هذه المهمة الإعلامية، وكان لها دور مهم في تحقيق هذه المعرفة، وحاولت، في حدود ما تسمح به إمكاناتها، أن تسهم في فتح مزيد من الآمال المعلقة على تلك الفترة الانتقالية.
ولكن منتصف سنة 2003 شكل بداية مرحلة جديدة. ارتبط ذلك بما حدث يوم الجمعة 16 ماي 2003، عندما هزت خمسة تفجيرات إرهابية مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة، راح ضحيتها 41 شخصا.
وسط هذه الأجواء المشحونة والتشدد الذي باتت تتصرف به السلطات، برز الدور الكبير الذي لعبته الصحافة المستقلة، في هذا الظرف الانتقالي، على مستويين:
أولا؛ ضمان تغطية مهنية وحيادية لتفجيرات الدار البيضاء الإرهابية، وتمكين الرأي العام من الأخبار والمعلومات كافة بشأن المنفذين. وقدمت تغطية الصحافة المستقلة وتحقيقاتها روايات أكثر عمقا من الرواية الرسمية أحيانا.
ثانيا؛ "فك الحصار" الإعلامي والسياسي الذي عاشه حزب "العدالة والتنمية"، وتمكينه من شرح وجهة نظره أمام الرأي العام، وعدم الانجرار وراء خطابات حل الحزب.
ويمكن القول إجمالا إن الصحافة المستقلة استطاعت الخروج سالمة، نوعا ما، من إغراءات عودة القبضة المشددة، التي كانت تلوح في الأفق.
بعد سنة من تلك الأحداث الدامية والأجواء الاستثنائية التي خلفتها، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي، سيدخل المغرب محطة تاريخية مهمة، تتمثل في إنشاء "هيئة الإنصاف والمصالحة". تأسست هذه الهيئة بمقتضى قرار ملكي بتاريخ 7 يناير 2004 وأنيطت بها مهمة التحري عن الحقيقة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان منذ استقلال المغرب، والكشف عن مصير المختفين والمختطفين، والوقوف على مسؤولية الدولة، وتعويض الضحايا. هذه المحطة التاريخية، ذات الصلة بمحاولة الانتقال، ستعطي للصحافة المستقلة نفسا جديدا ومجالا رحبا للعمل الاستقصائي.
يمكن القول إن الصحافة المستقلة، خصوصا أسبوعيتَيْ "الصحيفة" و"الأيام"، كانت تشتغل كـ"هيئة" موازية، وشكلت "فِرَق تحقيق" خاصة بها من صحفيين لهم تكوين قانوني وإلمام بالملفات الحقوقية، ويتوفرون على شبكات علاقات بمختلف الفاعلين.
هذا المجهود الذي بذلته الصحافة المستقلة أسهم في:
أولا؛ متابعة أشغال "هيئة الإنصاف والمصالحة" وتحقيقاتها، وتمكين الجمهور من تتبع أخبارها.
ثانيا؛ إجراء تحقيقات موازية ومقابلة مختلف الضحايا وعائلاتهم والتعريف بملفاتهم.
ثالثا؛ إخضاع عمل الهيئة للمتابعة والتمحيص والتدقيق في المعلومات التي تقدمها و"تسريب" المداولات الداخلية.
رابعا؛ الضغط الإعلامي لحثّ الهيئة على الذهاب بعيدا في تحرياتها والانفتاح أكثر على الجمهور وتزويده بالأخبار.
خامسا؛ إخضاع النتائج النهائية للهيئة للنقد والمساءلة وطرحها للقراءة والتقييم من طرف الفاعلين المدنيين والسياسيين، والاستماع إلى الضحايا وعائلاتهم بشأن نتائج التحريات.
"جيوب المقاومة"
في الإجمال، لم يكن الطريق كله مفروشا بالورود. تحلى الإعلام المستقل بالتحدي والإصرار، وسط مقاومات من قبل أطراف في السلطة. وكما يلحظ عدد من متتبعي الشأن السياسي بالمغرب، فإن هناك ديناميتين تحكمان تطور الحياة السياسية: دينامية إيجابية تقوم على تعزيز الديمقراطية وفتح ورشات الإصلاح والانتصار للقانون، ودينامية سلبية موازية تقضم كل منجزات الدينامية الأولى وتشدها إلى الخلف. ومن ثَمّ، ليست هناك مكتسبات نهائية ودائمة. وإذا كانت السنوات العشر التي أعقبت تولي الملك محمد السادس العرش لحظة انتقالية بامتياز، فإنها خضعت لهذه الدينامية المزدوجة.
هذه المرحلة الانتقالية ستنتهي أواخر الألفية الثانية، بتركيز أسس السلطة الجديدة بالمغرب. وسيظهر أن فترة التمرين على "المصالحة" بين السلطة والصحافة سينتهي. هكذا ستختفي أسبوعيات أساسية طبعت هذه المرحلة: "الصحيفة" و"لوجورنال" و"نيشان"، نتيجة تعدد الغرامات المالية وثقلها إثر المحاكمات التي تعرضت لها و"مقاطعة" سوق الإشهار/ الإعلان لها بوصف ذلك شكلا من أشكال التضييق المالي، وقبلهما توقفت أسبوعيّتا "دومان" و"دومان ماگازين" إثر محاكمة مديرهما وسجنه ومنعه من ممارسة الصحافة عشر سنوات. كذلك سيضطر المؤسس ومدير النشر لمجلة "تيل كيل" إلى تقديم استقالته بعد تراكم الغرامات المالية الثقيلة على المجلة التي تعرضت للمنع والمحاكمة عدة مرات.
وكيفما كانت مآلات الانتقال بالمغرب، فإن من بين الأسئلة التي لا يمكن إغفال طرحها تلك التي تتعلق بالإعلام وموقعه في الانتقال. ولعل من أهمها: هل نجح الإعلام بالمغرب في مرافقة المرحلة الانتقالية وإنجاحها؟ وهل نجح في تكريس قواعد آمنة ودائمة للممارسة الصحفية السليمة؟