كانت الفترة بين عامي 1994 و2002 في رواندا مرحلة تحول عميق على كل المستويات؛ فبعد الخروج من الدمار الذي خلفته الإبادة الجماعية بحق التوتسي عام 1994، التي أودت بحياة ما يقدر بـ 800.000 شخص خلال 100 يوم فقط، واجهت رواندا مهمة جسيمة تتمثل في إعادة بناء مجتمعها واقتصادها وأنظمتها السياسية. خلال هذه الفترة الحرجة، أدى الإعلام دورا مزدوجا بوصفه أداة للتفرقة في أثناء الإبادة الجماعية وقبلها، ليصير، لاحقا، أداة قوية للتعافي والتوعية والتعليم والوحدة الوطنية.
تستعرض هذه المقالة تأثير الإعلام على تعافي رواندا من آثار الإبادة الجماعية لأقلية التوتسي، مع تسليط الضوء على المعطيات والفاعلين الذين شكلوا هذه الحقبة.
دور الإعلام في الإبادة الجماعية
قبل الخوض في فترة ما بعد الإبادة الجماعية، من الضروري الاعتراف بدور الإعلام السلبي في الفترة التي سبقت الإبادة وفي أثنائها. شكلت وسائل الإعلام مثل راديو وتلفزيون الألف تلة الحرة (RTLM) وصحف مثل كانغورا، أدوات رئيسة لنشر خطاب الكراهية والدعاية، وقد اشتهرت الأولى خصوصا ببثها المحرض على العنف بحق التوتسي، وفقا للتقرير (1) الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) عام 2003، إذ اتُّهمت بالمساهمة في تأجيج العنف. لقد وصل الأمر بمذيعي RTLM إلى إذاعة أسماء عائلات وعناوينها لإبادتهم.
وأدانت المحكمة الجنائية الدولية لاحقا شخصيات إعلامية رئيسة لدورها في الإبادة الجماعية، وهما: فرديناند ناهيمانا، المؤسس المشارك لـ RTLM، وحسن إنغيزي، محرر صحيفة كانغورا (2)، بتهم الإبادة الجماعية والتحريض عليها والجرائم بحق الإنسانية، وأكدت إدانتهم على القوة التدميرية للإعلام عندما يُستخدم أداة للتفرقة ونشر الكراهية في المجتمع.
أدانت المحكمة الجنائية الدولية شخصيات إعلامية رئيسة لدورها في الإبادة الجماعية، وهم: فرديناند ناهيمانا، المؤسس المشارك لـ RTLM، وحسن إنغيزي، محرر صحيفة كانغورا، بتهم الإبادة الجماعية والتحريض عليها والجرائم بحق الإنسانية، وأكدت إدانتهم على القوة التدميرية للإعلام عندما يُستخدم أداة للتفرقة ونشر الكراهية في المجتمع.
الصحافة بعد الإبادة
بعد الإبادة الجماعية، عاش المشهد الإعلامي في رواندا في حالة من الفوضى، وأدركت الحكومة، التي تقودها الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) تحت قيادة الرئيس بول كاغامي، الحاجة إلى إعادة بناء الإعلام بوصفه أداة للمصالحة والتنمية. ومع ذلك، تميزت هذه الفترة بفرض قيود صارمة لمنع عودة خطاب الكراهية وخطاب التقسيم.
في عام 1996، أنشأت الحكومة الرواندية المجلس الأعلى للصحافة للإشراف على عمليات الإعلام وضمان أخلاقيات الصحافة، وبحلول عام 2002 كانت الحكومة قد وضعت قوانين إعلامية أكثر صرامة، بما في ذلك قانون الإعلام لعام 2002، الذي يهدف إلى تعزيز الإبلاغ المسؤول والحد من المحتوى التحريضي.
كانت هذه الإجراءات مثيرة للجدل؛ إذ جادل النقاد بأنها تقيد حرية الصحافة، بينما أكد المؤيدون لها ضرورتها لمنع العودة إلى بيئة ما قبل الإبادة الجماعية ومنع تمرير خطابات الكراهية تحت ذريعة حرية التعبير.
سيطرت الحكومة على وسائل الإعلام الرئيسة، بما في ذلك راديو وتلفزيون رواندا، واستخدمتها لتعزيز الوحدة الوطنية ونشر المعلومات عن جهود إعادة الإعمار. على سبيل المثال، أصبح راديو رواندا منصة لبث رسائل المصالحة والوحدة الوطنية عبر برامج ومسلسلات وبرامج توعوية مثل المسلسل الإذاعي الشهير "أورونانا" (تعني الحوار) الذي يتناول قضايا حساسة تتعلق بالإبادة الجماعية وتداعياتها. وجُسّد المسلسل بتوظيف شخصيات خيالية من خلفيات عرقية مختلفة تتصارع لنيل الغفران والمصالحة وإعادة بناء حياتها.
أصبح راديو رواندا منصة لبث رسائل المصالحة والوحدة الوطنية عبر برامج ومسلسلات وبرامج توعوية مثل المسلسل الإذاعي الشهير "أورونانا" (تعني الحوار) الذي يتناول قضايا حساسة تتعلق بالإبادة الجماعية وتداعياتها.
ومن خلال تقديم هذه الموضوعات بطريقة جذابة وقابلة للتفاعل، يشجع "أورونانا" المستمعين على التفكير في تجاربهم الخاصة والنظر في وجهات نظر بديلة تحث على تقبل الآخرين والتعايش معهم. سعت مثل هذه التجارب إلى تكريس التعايش السلمي وتحقيق المصلحة الوطنية بين فرقاء الأمس وتثقيف المجتمع بشأن أهمية الوحدة والتعايش السلمي والاستفادة من تجارب الماضي ومنع تكرارها في المستقبل.
كذلك شملت المبادرات الإعلامية في أثناء مرحلة الانتقال:
البرامج التعليمية والتوعوية
استُخدمت البرامج الإذاعية والتلفزيونية في نشر الجلسات والندوات والبرامج التعليمية التي تنظمها جهات مختلفة، مثل نقل فعاليات اجتماعات لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية (NURC)، وكذلك برنامج إنغاندو المقام في معسكرات التضامن المحلية بما فيها المدارس والجامعات والمعاهد التعليمية. ولعل الغاية الأساسية كانت تعزيز الوطنية ومحاربة أيديولوجية الإبادة الجماعية، وتثقيف المجتمع وتوعيته بشأن مخاطر التفرقة العرقية وأهمية التعايش السلمي بين أفراد المجتمع. كذلك قدمت الدراما الإذاعية الشهيرة موسيكوييا (الفجر الجديد) التي أطلقت في عام 2004 بتخطيط خلال الفترة الانتقالية، موضوعات عن حل النزاعات والمصالحة، ووصلت إلى ملايين المستمعين.
تعزيز محاكم الجاكاكا التقليدية
اعتمدت محاكم الجاكاكا (3) (وهي محاكم تقليدية محلية يلجأ إليها الأفراد في المجتمع لحل قضاياهم قبل وصول الاستعمار والمحاكم الحديثة، وقد نظرت في أكثر من 1.2 مليون قضية إبادة جماعية بين عامي 2001 و2012) بصورة كبيرة على التغطية الإعلامية لإعلام الجمهور بإجراءاتها ومداولاتها، وساعد البث الإذاعي والتقارير الصحفية في توضيح العملية وتشجيع المشاركة ونشر الحقائق والفظائع التي ارتُكِبت خلال الابادة الجماعية بحق أقلية التوتسي.
تسليط الضوء على قصص النجاح
سلطت وسائل الإعلام الضوء على قصص الناجين والجناة المتصالحين، ما منح الأمل والإلهام لشعب تعرض لصدمات شديدة، ومثلت هذه الروايات أداة أساسية لتعزيز رؤية الحكومة لرواندا موحدة ومتصالحة.
ومن القصص البارزة التي تسلط الضوء على دور الصحافة خلال الفترة الانتقالية، ما حدث مع موغابو وتيشيميري، وهما طفلان في السابعة من العمر، فرّا مع 40 ألف شخص آخر من بطش ميليشيات الهوتو المتطرفة إلى مخيم للاجئين على الحدود الرواندية الكونغولية. بعد سنوات من المعاناة والتنقل بين المخيمات في الكونغو الديمقراطية، أسهم بث برنامج إذاعي على "بي بي سي" (4) بالتعاون مع الصليب الأحمر في لم شملهما بعائلتهما وعودتهما إلى وطنهما.
يُبرِز كالفن موتسينزي، خبير الاتصال الرواندي، في تصريح لمجلة الصحافة، الدور المحوري الذي أدّاه الإعلام بامتياز في المرحلة الانتقالية في رواندا، موضحا أن "الإعلام كان أداة قوية في عملية تعافي البلاد من آثار المذبحة التي تعرضت لها أقلية التوتسي".
ويعتقد كالفن أن وسائل الإعلام أصبحت منبرا لتبادل القصص المؤلمة للناجين والجناة السابقين، ما فتح الباب أمام الحوار والتفاهم المتبادل. و"ساعدت هذه الجهود ببطء، ولكن بثبات، على تحطيم جدران انعدام الثقة والانقسام التي بدت في يوم من الأيام مستعصية على الحل".
الفاعلون السياسيون ووسائل الإعلام
لفهم كيف تشكل المشهد الإعلامي والتوعوي للفترة الانتقالية، لا بد من تسليط الضوء على الشخصيات البارزة التي كان لها دور محوري في إحداث التغيير في هذه الفترة المهمة في تاريخ رواندا الحديث في علاقتها بوسائل الإعلام.
بوصفه زعيما للجبهة الوطنية الرواندية، ولاحقا رئيسا لرواندا، كان بول كاغامي شخصية مركزية في إعادة الإعمار والوحدة والتماسك المجتمعي خلال الفترة الانتقالية، بعد الإبادة الجماعية. وقد وضعت حكومته إصلاح الإعلام أولوية في جزء من إستراتيجيتها الأوسع لإعادة بناء الأمة ووحدة المجتمع وتجاوز مرحلة الإبادة الجماعية؛ ففي فترة توليه الحكم تُوّج بتأسيسه المجلس الأعلى للإعلام.
ومن الشخصيات الرئيسة التي لها دور مهم في مستقبل الإعلام في رواندا، السياسي جوزيف سيبارينزي. وبوصفه ناجيا من الإبادة الجماعية ورئيسا سابقا للبرلمان الرواندي، دعا إلى حرية الإعلام مع تأكيد أهمية الصحافة المسؤولة في تعزيز المصالحة.
أدى جان بوسكو غاساسيرا، وهو صحفي بارز ومؤسس صحيفة "أوموسيسو" المستقلة، دورا مهما في تطور الإعلام في رواندا في الفترة الانتقالية؛ فقد مثل صورة الصحافة المستقلة والتحديات التي واجهتها في بيئة خاضعة لتنظيم صارم، وغالبا ما أدى عمله إلى تصادم مع الحكومة يختصر التوتر بين حرية الصحافة والرقابة الحكومية لضبط الإعلام وتنظيمه.
كذلك أدى جان بوسكو غاساسيرا، وهو صحفي بارز ومؤسس صحيفة "أوموسيسو" المستقلة، دورا مهما في تطور الإعلام في رواندا في الفترة الانتقالية؛ فقد مثل صورة الصحافة المستقلة والتحديات التي واجهتها في بيئة خاضعة لتنظيم صارم، وغالبا ما أدى عمله إلى تصادم مع الحكومة يختصر التوتر بين حرية الصحافة والرقابة الحكومية لضبط الإعلام وتنظيمه.
بين عامي 1994 و2002، تطور الإعلام في رواندا من أداة للتفرقة إلى قوة للوحدة والمصالحة، بينما تعرضت الرقابة الحكومية الصارمة على الإعلام لانتقادات من المنظمات الحقوقية الدولية ومراكز الإعلام المستقل، إلا أنها ضمنت أيضا عدم تكرار أخطاء الماضي تحت مسوغات مثل حرية الإعلام وحرية التعبير.
ومن خلال تعزيز التعليم والمساءلة والمصالحة، أدى الإعلام دورا حيويا في التعافي الملحوظ لرواندا. ومع استمرار البلاد في إعادة البناء، تظل دروس هذه الفترة شهادة على قوة الإعلام في قيادة المجتمعات للأفضل أو للأسوأ.
المراجع
-
الأمم المتحدة. "UN Tribunal Convicts 3 Rwandan Media Executives for Their Role in 1994 Genocide." أخبار الأمم المتحدة، 3 ديسمبر 2003. تم الوصول في 11 فبراير 2025. https://news.un.org/en/story/2003/12/87282.
-
المحكمة الجنائية الدولية لرواندا. "Hassan Ngeze's Indictment Confirmed." بيان صحفي، 6 أكتوبر 1997. تم الوصول في 11 فبراير 2025. https://unictr.irmct.org/en/news/hassan-ngezes-indictment-confirmed.
-
الأمم المتحدة. The Justice and Reconciliation Process in Rwanda. تم الوصول في 11 فبراير 2025. https://www.un.org/en/preventgenocide/rwanda/pdf/bgjustice.pdf.
-
"The Rwandan Radio Show Which Brought Children Back from the Dead." BBC News, 23 سبتمبر 2019. تم الوصول في 11 فبراير 2025. https://www.bbc.com/news/world-africa-48948073.