يقال إن مقارنة النفس بالآخرين نقمة، فهناك مقارنات لا أساس لها، وأخرى يستحيل الخروج منها على قيد الحياة، تماما مثل مقارنة مستوى الرعاية الصحية بين مالاوي وكندا، أو مستوى التعليم في كوريا الجنوبية والنيجر.. الفوارق صارخة، وهذا التمرين ضرب من الجنون.
كل من ترعرع بالمغرب لا بد أنه سمع العبارات أسفله آلاف المرات، خاصة بعد عودة الجالية المغربية المقيمة في "ماما فرنسا" كما تسميها معظم الدول الأفريقية "فرنسا لا تقارن بالمغرب! فرنسا أحسن بكثير من المغرب! لا تقارنوا أبدا فرنسا بالمغرب.. فرنسا وطأت القمر".
كبرنا، وظلت هذه العبارات تكبر بداخلنا وتزيد من استيائنا، بل من شوقنا إلى معانقة ما صار يشبه الحلم: الدراسة بفرنسا.. كيف لا، وصور جامعة السوربون والحي اللاتيني تملأ مقرراتنا المدرسية.
لن يختلف اثنان على تفوق الجامعات الفرنسية في الترتيب العالمي لأفضل الجامعات بالعالم. ولن يندهش أحد إذا لم يجد المغرب في مقدمة القائمة.
لكنها تبقى أرقاما، فماذا عن الواقع؟ الفوارق صارخة فعلا، لكن في بعض المجالات دون أخرى.. لو كان التكوين في المغرب سيئا فعلا، لما استقطبت "بلاد الأنوار" آلاف المهندسين سنويا وبأجور عالية جدا.
المقصود هنا، أن بعض العلوم والمعارف قد لا يختلف تدريسها بين دولة وأخرى، فهي في الأخير علوم صرفة لن تتغير معادلاتها فقط باجتياز المحيط.
ماذا عن مجالات لا أرقام فيها ولا منطق، لا آلة حاسبة فيها ولا برمجيات! ماذا عن ميدان تشكل فيه الأخلاقيات والإبداع كل شيء؟ ماذا عن الصحافة؟ هل تدرس هنا كما تدرس هناك؟ هل يدرس الفرنسيون هرما مقلوبا غير هرمنا؟ أسئلة تتساقط على خريج الإعلام المغربي وهو يتجه نحو معهده الجديد في باريس وتحديدا المعهد الفرنسي للصحافة، معهدهم العتيد الذي أنجب أعمدة المشهد الإعلامي الفرنسي.
صدمة البداية
أول ما يلفت الانتباه بعد اقتحام تلك الأسوار الصماء، هو الجرائد والمجلات المعروضة مجانا في كل شبر من المدخل الرئيسي، معروضة بعناية، ولا تحتاج رهن بطاقة الطالب أو بطاقتك الشخصية لقراءتها كما يحدث عندنا.
إذا سألت مسؤولا سيسخر من استفسارك ويرد: إنه معهد صحافة، من الطبيعي عرض الصحف التي قد تصيرون يوما ما، أحد أقلامها.
على بعد أمتار، مكتبة زجاجية أقل ما يقال في حقها: مغرية. فكيف تصير صحفيا دون الاطلاع على أبجديات علوم الاجتماع والسياسة والفلسفة؟ كيف تصير صحفيا دون قضاء ساعات وأيام بين مؤلفات بورديو (Bourdieu) وباسرون (Passeron) أو دولوز (Deleuze) وفوكو (Foucault)؟
يمكنك استعارة كل الكتب التي تريدها، بل ستكون أحيانا مجبرا على ذلك، لأنها مدرجة ضمن المراجع الرئيسية لبعض المواد.
طالب الإعلام المغربي قد يعتبر ذلك بذخا، إلى أن يرنّ هاتفه "ألو.. مرحبا، أرسلنا لك للتو كلمات المرور اللازمة لتحميل كل المقالات العلمية مجانا بكل المجلات الدولية.. إذا واجهت مشكلة فاتصل بنا".
هنا يُصدم الطالب المغربي وهو يتذكر كل تلك النقود التي سخرها لشراء جرائد "لوموند" يوميا، أو تصفحها في عجالة على حين غفلة من الباعة الذين يعرضونها أرضا بشارع محمد الخامس في الرباط، أو وهو يقتني مجلات -على ندرتها- بثمن باهظ.
في عاصمة الأنوار، لا يكاد يوجد حاجز بين الطالب والمعرفة، فكل المراجع القديمة منها والجديدة في متناوله.. يقول المثل الفرنسي: الزبون ملك. والحقيقة أن الطالب هو الملك دون منازع.
الملك في قاعات الدرس أيضا؛ قاعات لا تشبه مدرجات الجامعة التقليدية، ولا تشبه القاعات الذكية التي قد نراها في اليابان أو كندا، بل تشبه ببساطة قاعات التحرير كما تعودنا على رؤيتها في معظم المنابر الإعلامية. كل درس -سواء كان تطبيقيا أو نظريا- تشبه اجتماع تحرير؛ فلكل الطلاب حق الرد وحق الرفض، ولكل منهم حيز من الزمن لقول ما يشاؤون بحرية مطلقة.
هناك حرية التعبير لا تدرس، بل هي حق مشروع وأساس من أسس المنظومة التعليمية.
كم يندهش الطالب المغربي أمام المشادات الكلامية بين زملائه والأساتذة الذين رغم تجاربهم الطويلة وخبرتهم المعترف بها دوليا، يجدون أنفسهم في وضعية لا يُحسدون عليها. فقد يشكك طالب ما في تحيزهم الحزبي أو الأيدولوجي، بل يطالبهم بتفسير سبب اللجوء إلى الفيلسوف هايدغر كإطار مرجعي، بدلا من ليفيناس؛ الأستاذ يتأرجح بين الفخر بطالبه والتريث، فوراء هذا السؤال اتهام واضح بتفضيل الفكر المعادي للسامية.
الطالب قد يشكك في كل شيء، ينتقد الجمهورية الخامسة بكل مؤسساتها، وينتقد الرئيس والوزير والعامل والأستاذ، بكل حرية فهي في النهاية أفكار وآراء قابلة للمناقشة.. لا يساور طالب الإعلام في باريس ذلك الهاجس الذي يرعب البعض في دول العالم الثالث: النقطة.
باجتياز الامتحان، على حد قول أحد الأساتذة المرموقين بالمعهد الفرنسي للصحافة، أنتم تضعون فقط الكرز فوق الحلوى.. لا تعيروا كل هذا اهتماما كبيرا. ينهض الأستاذ ويكتب بخط رفيع معادلته المفضلة: الصحفي = الميدان، والميدان يبقى النقطة الفارقة في تدريس الإعلام هنا وهناك.
أصل الفرق
أساتذة الصحافة في باريس، يعلمونك أولا وقبل كل شيء كيفية ربط الاتصال بمسؤولي جميع القطاعات، ولا يرمونك في عرض البحر من دون بوصلة.
ربط الاتصال مرحلة أساسية للحصول على السبق الصحفي وإن كنت طالبا..
لم يتخيل الطالب المغربي يوما ما أنه سيجري مقابلة مع رئيس الجمهورية السابق، ولا مع أحد كبار أعضاء حزب الجبهة الوطنية، ولا مع أشهر رؤساء دور النشر العالمية.
التواصل فن، وربط الاتصال الأول يشكل 90% من المقابلة، والباقي يبقى ترتيبات روتينية فقط.
أساتذة الإعلام هنا لا يطالبونك بمادة لتنقيطها، بل يدفعونك لتكون أفضل نسخة من نفسك، قادرا على "خوض الحروب" كما يقول الأساتذة، لأن الميدان هناك لا يختلف كثيرا عن ميدان الحرب، فالمشهد الإعلامي الفرنسي مركب جدا، بل يشكل حقلا اجتماعيا يستلزم سبر فهمه نفسا طويلا.
باختصار شديد، يحظى الطالب الصحفي في فرنسا بعناية خاصة نظرا لارتباط مهنته المستقبلية ارتباطا وثيقا بأول مبدأ من مبادئ الشعار الفرنسي "حرية، مساواة وإخاء"، أحد أهم رموز الجمهورية منذ اندلاع الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر.
لا يمكن الحديث عن إعلام ناجح دون المقومات السابقة. سيقول البعض إن الإعلام الفرنسي لا يخلو من ثغرات ونقائص لكون معظم المنابر الإعلامية هناك تابعة لشركات ومجموعات صناعية كبرى، مما يجعل استقلاليتها على المحك. لنقل إن ذلك وارد، لكن فرنسا تحتل المرتبة 32 في حرية التعبير والصحافة، وهذا أصل الفرق.