يولد الصحفي مرتين، الأولى عندما يقرر أن يكون أحد جنود السلطة الرابعة. أما الثانية فتكون عند الانتقال إلى بلد جديد، للعمل في مؤسسة صحفية تنطق بلغة جديدة، وتسير وفق سياسة تحريرية مختلفة، وتتبع أسلوبًا مغايرًا.
هذا بالضبط ما حصل معي، فقبل 6 سنوات أصبحت أحمل في هويتي الإعلامية صفة صحفي مغترب، وذلك عندما سافرت من فلسطين إلى تركيا، إذ لم يكن الأمر سهلا لأني شعرت بكثير من التيه.
والتيه هنا مصدره ضعف التمكن من اللغة الجديدة، وصعوبة الوصول إلى المصادر، وغياب معالم خطة الطريق التي يُفترض السير عليها في السنوات الأولى من الغربة، وهو الأمر الذي يواجهه كثير من الصحفيين.
لا شك أن هناك إجماعًا على تصدّر مسألة اللغة قائمةَ الصعوبات التي تعترض عمل الصحفي المغترب، فضلا عن سؤال يبحث الصحفيون حديثو الاغتراب عن إجابة له: "ماذا أفعل؟ ومن أين أبدأ؟".
الإجابة عن السؤال يمكن إيجادها إذا استجمع الصحفي قدراته وسنوات خبرته، وبدأ يرسم خريطة طريقه، متجاوزا العامل النفسي الذي يساهم بشكل كبير في تحديد مدة الانخراط في بيئة البلد الجديدة.
العائق الأكبر
الصحفي المقيم في ألمانيا سليم سليم يرى أن تجربته مختلفة كثيرا عن سابقاتها، خاصة أنها في بلد تعدّ فيه فرص الإعلاميين العرب شبه معدومة، لكنها أضافت له تجربة نوعية رغم صعوبتها.
وفي حديثه لمجلة "الصحافة" يقول سليم: "تعلمت اللغة، التي تعد العائق الأكبر بطبيعة الحال، لكون الألمانية من اللغات الصعبة في العالم وتتطلب وقتًا طويلا لتعلّمها".
ولكي يعزز انخراطه في البيئة الإعلامية الألمانية، التحق سليم بتدريب مع مؤسسة "زي.دي.أف" (ZDF) الألمانية، وانضم إلى برنامج ينظمه "المركز الأوروبي للصحافة والإعلام"، وهو ما ساعده في العمل مع أحد التلفزيونات المحلية لفترة محدودة.
لكن بالنسبة للإعلامي البرازيلي من أصل فلسطيني أمجد أبو سيدو، فالأمر مختلف بعض الشيء، إذ يشير إلى اعتقاد البعض أن "اللغة المختلفة عن لغتك هي التحدي الأبرز، والأمر ليس كذلك، فمعظمنا يتحدث الإنجليزية".
ويستدرك في حديثه لمجلة "الصحافة" متسائلا: "لو انتقل الصحفي للعمل في بلد ناطق بالإنجليزية، هل سيكون الأمر سهلا؟ بالتأكيد لا".
ويضيف أبو سيدو الذي يعمل مراسلا لقناة "تي.آر.تي عربي" أن "اللغة جزء من التحدي، ولكن الأمر الأهم يتمثل في التأقلم مع البيئة الجديدة، لأن الصحفي ينقل واقعًا ويتعايش معه ويصبح جزءًا من مجتمعه الجديد، ويبدأ ببناء شبكة علاقاته التي ستكون أساس عمله".
تعقيدات العمل
يقول الصحفي سليم إن الحصول على عمل ثابت في الإعلام بألمانيا مهمة صعبة للغاية، وتلك من الصعوبات التي تواجه الصحفي هناك، إضافة إلى أن الإعلام العربي لا يفرد مساحة للقضايا الألمانية.
ومن الصعوبات أيضا، تعقيدات طرق جمع المعلومات، فمثلا إذا ما أردت إجراء مقابلة صحفية فالأمر يحتاج إذنًا خطيًّا، أما إذا كان التقرير مصورًا فيحتاج تصريحًا من الجهات الأمنية للمكان والموعد، كلّ على حدة.
وهنا يشير سليم إلى حادثة مهمة تعرض لها، إذ "حصل أن استدعتني الشرطة شاهدًا في قضية عالجتها ضمن تقرير، بسبب كلمات لأحد شهود العيان في إحدى المدن الألمانية".
وبناء عليها ينصح الصحفيين المغتربين وكلَّ من يريد خوض مثل هذه التجارب، أن يكون مدرَّبًا بشكل جيد؛ ليس في خارج البلد، بل في داخله، ويفهم جيدا قوانينه وخصوصياته.
ويعود الصحفي أبو سيدو للقول إنه لم يكن يعرف الكثير عن البرازيل، "لكن حينذاك لم أكن أملك خيارًا سواها.. أذكر أني بعد وصولي التقيت شخصية فلسطينية اعتبارية، وحين عرّفته بنفسي كصحفي، قال لي: إياك أن تفكر بالعمل صحفيًّا في البرازيل.. هذه بلاد للتجارة".
لكن أبو سيدو وضع نصيحة الرجل جانبًا، وسرعان ما بدأ العمل صحفيًّا ومؤسسًا في "المعهد الفلسطيني البرازيلي" بالعاصمة ساو باولو لعدة شهور، ثم أسس مع صديقه شركة خاصة بالإنتاج الإعلامي، كواحدة من أولى الشركات العربية العاملة في مجال الإعلام هناك.
ويضيف: "تقدمت بطلب للانضمام إلى نقابة الصحفيين البرازيليين، ورغم أن الشروط لا تنطبق عليّ، فإنه تقديرًا لعملي الصاعد في البرازيل وتجربتي السابقة، حصلت على العضوية بشقيها المحلي والدولي، رغم أني لم أكن برازيليًّا".
القدرة على الاستمرار
يقول أبو سيدو إن الغربة تنضجك في كل شيء، بما في ذلك عملك الصحفي، لكنها ستكون قاسية جدًّا، "وستسأل نفسك في كل صباح: هل أنا قادر على الاستمرار؟".
قبل الغربة، أنت تمارس عملك بكثير من المساعدين والزملاء والأصدقاء، لكنك لاحقًا تمارسه وحيدًا بأدنى جزئية فيه، وكل خطوة في الواقع الجديد تحتاج منك وقتًا طويلا لإنجازها، وهو ما يجعلك في المحصلة أكثر مهارة وقوة.
وفي الغربة -بحسب أبو سيدو- تكتشف أن واحدا من أهم تحديات الصحفي "أنه لا يستطيع إلا أن يكون صحفيًّا"، ولعل السبب يكمن في أن هذه المهنة تُمارَس أوّلا كهواية وحبّ، قبل أن تكون عملا ومهنة ومصدر دخل.
ومن حسناتها أن أبو سيدو تعلّم فيها كل الأشياء التي كان يظن أنها ليست مهمة.. "في الغربة وجدتُ أنه لا يمكن أن تكون صحفيًّا دون أن تكون مصورًا ومخرجًا ومنتجًا ومونتيرًا ومهندس صوت وكل ما يخطر ببالك".
لذلك يؤكد "لو أنني لم أكن أملك خلفية بسيطة لاحتجت إلى سنوات طويلة قبل البدء بالعمل الصحفي في البرازيل، ومع ذلك حصلت على العديد من التدريبات وعملت على تطوير نفسي بنفسي".
30 سنة غربة
مستشار التدريب الإعلامي الدكتور عبد الله السعافين الذي عمل في حقل الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، والذي بدأت تجربته في صحافة الاغتراب عام 1990، يؤكد أن فرق التوقيت كان وما زال يخلق بعض الصعوبة.
ويوضح السعافين في حديثه لمجلة "الصحافة" أن تلك الصعوبة تكمن في توفر الاتصال بالمصدر البشري وقت الحاجة، فضلا عن تكلفة الاتصال المادية قبل عصر الهواتف الذكية وانتشار ثورة الاتصالات.
ويضيف إلى قائمة الصعوبات، عدم إتقان لغة بلد الاغتراب مما يعقد الوصول إلى المصادر المكتوبة والمرئية والإلكترونية، "وهي مشكلة لم أعشها نظرًا لإتقاني اللغة في البلاد (بريطانيا) وبشكل رصين لأني كنت طالب دراسات عليا".
وينصح السعافين بإعطاء تعلم لغة بلد الاغتراب أولوية وبشكل طارئ باعتبارها مفتاح التواصل، إضافة إلى معرفة الخريطة المهنية هناك من حيث المؤسسات والوسائل الإعلامية الرئيسية على تنوع توجهاتها ومنطلقاتها السياسية أو المستقلة.
وينوه بأهمية نسج شبكة علاقات مع صحفيين محليين، والتعرف على المؤثرين منهم، والاستفادة من الأفق الجغرافي والثقافي الذي توفره عملية الانتقال إلى بلد جديد، وعدم التقوقع في أساليب ومعايير ومصادر البلد الأم.
خلاصة القول.. ابدأ غربتك بتعلم اللغة، وبناء شبكة علاقات مع صحفيين عاشوا التجربة، إضافة إلى رسم خريطة للعمل تتجاوز فيها صعوبات الغربة، وتخصيص وقت للاطلاع على تجارب الإعلاميين العرب، ومطالعة وسائل الإعلام في بلد الاغتراب بشكل يومي، والإلمام بمتطلبات الصحفي المتكامل.