بعد نحو 6 أشهر على ظهور أول إصابة معلنة بجائحة "كوفيد-19"، بات واضحاً مدى حاجة البشرية إلى الصحافة الصحية، خصوصا أن تراكم المعلومات وسرعة انتشارها ساهما في الكثير من الأحيان في وقف التدهور الصحي لمجتمعات ودول، لكنها لم تكن كافية، لأنها لم تكن أولوية لدى الإعلام العالمي عموماً والعربي خصوصاً.
ويقيناً أنه لو كان الإعلام الصحي منتشراً قبل مئات السنين في زمن الأوبئة والأمراض، لما سقط الآلاف بل الملايين من الضحايا بسببها، ولكانت حملات التوعية والبرامج الوقائية الصحية نجحت في إرساء ثقافة صحية طبية، كما حصل ويحصل مع جائحة "كوفيد-19"، ولكان العالم بأسره -بطبيعة الحال- ينتظر بشائر توصّل العلماء إلى اللقاحات والعلاجات. ذلك لأن حياة الإنسان وصحته وسلامته مؤشر هام على حياة الأمم ومستقبلها. لا بد إذن من حلقة وصل بين عالم الطب والرأي العام.. إنها الصحافة العلمية المتخصصة.
يكفي مراقبة سلوكيات الناس في الفترة الأخيرة كي نتثبت من ذلك: لم تعد أسئلتهم اليومية متمحورة حول حدث سياسي أو رياضي أو فني، بل أضحى في صلب التفاصيل الطبية. من كان يتخيّل قبل الإعلان عن "كوفيد-19"، أن يتحدث الناس عن ضرورة اعتماد طريقة وقائية للحماية من الفيروس؟ من كان يعتقد أن البشرية التي بحثت عن رفاهيتها بين مجتمعات اشتراكية ورأسمالية وليبرالية، انخرطت في عالم من النقاشات الصحية، في سعي لتوسيع أفقها المعرفي؟
الصحافة الصحية عملياً، هي أحد أنواع الصحافة المتخصصة التي تُعنى بدراسة قضايا صحة الإنسان وسلوكياته الصحية. كما تسلط الضوء على أبرز التطورات في مجال الطب لمكافحة الأمراض المحتملة والوقاية منها، من خلال تقديم المعلومات الصحية الدقيقة بالإضافة إلى النصح والإرشاد، بهدف زيادة الوعي والثقافة الصحية لدى الأفراد. ولكن ماذا يعني أن تكون صحفياً صحيا؟ وهل يتطلب العمل في الصحافة الصحية أن تكون طبيبا؟
بحسب مدير المعهد العالي للصحافة في جامعة "ليل" الفرنسية بيار سافاري، فإنه لا يتعيّن على الصحفي المتخصص في الشؤون الصحية أن يكون طبيبا، بل يجب عليه بناء قاعدة معرفية تمكنه من معالجة المواضيع المراد تناولها، وعليه أن يكون قارئاً نهماً دائم الاطلاع على كل ما يتعلق بالأمور الصحية. فقد علمّتنا يومياتنا في العام الحالي، أن الكثير من المستجدات اليومية تبرز من اكتشافات وأبحاث، بالإضافة إلى إقرار حقائق جديدة قد تكون معقّدة، ولا يستطيع صحفي آخر فهم طبيعة هذه المعلومات وكيفية التعامل معها بغية تبسيطها ونقلها إلى الجمهور. وعلاوة على ذلك، فإن بناء قاعدة المعارف ستُمكّن الصحفي من الوصول إلى المعلومات من مصادرها الأساسية، وبناء جسر ثقة بينه وبين الجهات الصحية التي تتخوف في كثير من الأحيان من الصحفيين الذين ينشرون معلومات صحية خاطئة نتيجة عدم إلمامهم بالمواضيع الصحية.
في هذا السياق، برز موقف للمراسلة الصحفية المتخصصة في الشأن الصحي في موقع "فرانس إنفو" سولين لو إن التي تحدثت عن تجربتها أثناء تغطية جائحة "كوفيد-19"، مؤكدة أن على الصحفي الصحي نقل الصورة كما هي، من دون إضافات. وعليه تحديدا نقل ما يقوله الأطباء وعلماء الأوبئة والفيروسات، وما تقوله الحكومة والأصوات المعارضة. وأضافت: "كان من صميم عملنا على مدى أربعة أشهر نقل ما يجري في المستشفى الفرنسي بشكل حصري، كما كان علينا التكيّف مع طريقة عملنا الجديدة، أي ارتداء الكمامة بصورة دائمة والحفاظ على مسافة آمنة بين الأشخاص، وأجرينا مقابلات مع أشخاص لم نر منهم سوى العينين".
ما نقلته مراسلة "فرانس إنفو" قد يكون جزءا بسيطا مما يتعرض له الصحفيون المتخصصون في هذا المجال. فعلى الرغم من كثافة الإجهاد والتعب في الصراع مع الأوبئة، فإنه ينبغي على الصحفي متابعة أهم القصص الحصرية التي تتطلب عقلاً يقظاً، بالإضافة إلى القدرة على الحصول على معلومات صحيحة، بعيداً عن السبق الصحفي الذي يسعى إليه أهل المهنة. هنا يتوجب على المتخصص في الشؤون الصحية الاستعانة بأدوات تمكّنه من بناء قصة واضحة الأهداف ولا لبس فيها، كأن يستعين بالبيانات أو يلجأ إلى الصحافة الاستقصائية. وقد يتعرّض الصحفي إلى بعض الصعوبات والعقبات، أهمها عدم تجاوب الجهات المعنية -سواء الخاصة أو الرسمية- في تزويده بالمعلومات اللازمة، خصوصاً في الدول النامية التي لا تعير اهتماماً لوجود اختصاصيين في هذا المجال.
يشكّل ذلك -بكل تأكيد- فجوة تؤدي إلى وقوع المسؤولين بهذه الدول في أخطاء تسمح للصحفي المتخصص في الشؤون الصحية برصدها وتتبّعها للحصول على الخبر اليقين. مع العلم أن أغلب المؤسسات الصحية في الدول النامية، وبدلاً من نشر البيانات الصحفية عن الأبحاث العلمية الجادة الجارية في مؤسساتها، تركز على نشر الخطابات والأحاديث الافتتاحية للوزراء والمسؤولين التنفيذيين في الشركات ومديري الإدارات العلمية، عكس الدول المتقدمة التي تسعى إلى تنظيم المؤتمرات واللقاءات وإرسال البيانات بصورة دائمة تمكّن المتخصصين من فهم آخر التطورات ومواكبتها.
أثناء بحثك عن الصحفيين الصحيين ستجد أن كبريات الصحف والمواقع الإلكترونية تخصص مساحة لا بأس بها لتغطية القضايا الصحية، وستجد أنهم يخضعون لدورات تدريبية لتطوير قدراتهم وأدواتهم التي تساعدهم في نشر التحقيقات والتقارير الصحفية. حتى إن بعضهم أخذ على عاتقه مهمة أكبر من ذلك، وهي إنشاء مواقع إلكترونية توفر موارد ومعلومات يصعب الحصول عليها، مستندة في ذلك إلى خبراء ومصادر وبيانات موثوقة. فجمعية الصحفيين في مجال الرعاية الصحية (AHCJ) على سبيل المثال، جمعية تأسست لتعزيز فهم الجمهور لقضايا الرعاية الصحية، وتتمثل مهمتها في تحسين جودة ودقة ووضوح تقارير الرعاية الصحية. كما يجتمع في هذه الجمعية أكثر من 1500 عضو.
في مقال له عن الصحافة الصحية لشبكة الصحفيين الدوليين، يذكر الصحفي أتش. آر. فينكاتيش أنه لم يكن يفكّر في أن يصبح صحفياً صحياً، وقال: "حتى اليوم لا أعتقد أنني كذلك، ولكن بعد أكثر من 16 عاماً من الخبرة، لدي احترام جديد لأولئك النساء والرجال الذين يغطّون القضايا الصحية.. أدركت أيضاً -خلافا لما يعتقده الكثيرون- أنّ هذه الوظيفة تتطلب المهارة والالتزام فقط لإتقان الأساسيات".
الأهم، أن الصحافة الصحية لا تقف عند حدود جائحة "كوفيد-19"، وليست محطة موسمية، بل هي مسار محتوم لكل دولة ترغب في تأسيس مرحلة جديدة لمستقبلها. وقد تكون الجائحة فرصة لتوسيع آفاق هذا النوع من الصحافة في المستقبل.
مراجع:
1.https://mediateur.radiofrance.fr/chaines/franceinfo/le-travail-dune-jou…
3. https://ijnet.org/ar/story/%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D9%83%D8%AB%…