يعيش المشهد الإعلامي التونسيّ حاليا، على وقع "تسجيلات صوتيّة"، يقف وراءها النائب راشد الخياري تحت عنوان "الغرف المظلمة". وهي تسجيلات سريّة لأحاديث منسوبة لأطراف برلمانية مُعارضة تتطرّق إلى واقع المشهد السياسي؛ بشقيه التشريعي والتنفيذي.
التسجيلات التي اختار مذيعها راشد الخياري، أن يكون نشرها على شكل حلقات متتابعة، وجدتْ طريقها، ليس إلى الجغرافيات السياسية والحزبية المتصارعة والمتصدّعة فحسب، بل إلى المشهد الإعلامي التونسي وصُلْب التّغطيات الصّحفيّة بكافّة محاملها التي اختارت أن تُطلق عليها مُسمّى "تسريبات".
إن هذا المسمى لا يعبّر عن إشكاليات "مفاهيمية" عميقة لدى الفاعلين الإعلاميين بتونس -حيث كثيرا ما يتمّ إسقاط عناوين على غير مدلولاتها الحقيقية والأصليّة- بل يعبّر أيضا عن راهنيّة مسألة التسريبات وحداثتها في المشهد الإعلامي والسياسي التونسي.
لم تعرف تونس التسريبات، بالمعنى الذي عرفته الولايات المتحدة الأمريكية منذ بدايات منتصف القرن العشرين؛ فيما يُعرف بتسريب "وثائق البنتاغون" إلاّ بعد أحداث 14 يناير 2011 وفي قضايا قليلة وجدّ استثنائية.
صحيح أنّ تونس كانت جزءا من شبكة تسريبات "ويكيليكس" - والتي تُعتبر واحدة من أكبر التسريبات في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية- حيث نشرت الوثائق الخاصة والسرية بالسفارة الأمريكية في تونس، غير أنّها في تلك الحالة كانت جزءا من كلّ وعلى هامش مركز التسريب الذي استهدف المؤسسات الرسمية الأمريكية وحلفاءها الإقليميين وخصومها الدوليين.
وكان على المشهد الإعلامي التونسي أن ينتظر أحداث 14 يناير 2011، حتى يكون على موعد مع تسريب وثيقة إقامة في فندق "الشيراتون" باسم وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام، لتحوم، وقتها، حوله شبهة إهدار مال عمومي. ثم تلا ذلك، إسهاب من الفضاء الإعلامي التونسي في نشر التسجيلات السرية والشخصية، الكثير منها لا يرتقي إلى مستوى التسريب في حدّه وحدوده الأخلاقية والمهنية.
قيمة "المبلغين" في التسريبات
ومكمن هذا "الانتظار الطويل" نسبيا، يعود لعدة أسباب؛ من أهمها: غياب ثقافة المساءلة والمحاسبة للفاعلين الرسميين، وتبعية قطاع الإعلام لفترة طويلة للطرف الحكومي، وتمثل وسائل الإعلام لدور الدعاية والدعاية المضادة. وقد أفضى ذلك إلى ندرة وجود "المبلغين عن الفساد" والذين يمثلون اللبنة الأساس لأي تسريب يؤدي إلى كشف التجاوز أو لأي تحقيق استقصائي يؤصل لفكرة المحاسبة.
ارتبطت التسريبات الكبرى في العالم بفكرة "المبلغين عن التجاوزات les lanceurs d’alerte". من دانييل إيلسبيرغ، الموظف السابق في جهاز مجلس الأمن القومي الأمريكي، والذي كان عام 1971 وراء تسريب "وثائق البنتاغون" التي غيّرت الكثير من اتجاهات الرأي العام الأمريكي حيال الحرب في الفيتنام. مرورا بإدوارد سنودن الذي سرّب في 2013 مواد ومضامين مصنفة على أنها سرية للغاية من وكالة الأمن القومي، منها برنامج "بريسم" المختص في التجسس على الصحفيين إلى صحيفة "الغارديان" وصحيفة "الواشنطن بوست"، وليس انتهاء بـ"جون دوي" (اسم مستعار) الذي كان من بين مسربي وثائق بنما للصحافة العالمية، أو بـ"مارك ويليام فيلت" - تم الكشف عن هويته الحقيقية في 2005-، وهو الكنز المعلوماتي للصحفيين المتميزين بوب وودوارد وكارل برنستين في فضيحة "ووتر غايت Watergate" والتي دفعت بالرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة من منصبه في الثامن من أغسطس/آب 1974. ولا ننسى أيضا العديد من المبلغين عن الفساد والتجاوزات -الذين لم تُكشف هوياتهم الأصلية إلى حدّ كتابة هذه الأسطر- بيد أنّهم وفروا المادّة الخامة لتسريبات كبرى غيّرت من مسار الإخبار وكشفت حقائق يخشى الفاعلون وأصحاب النفوذ من نشرها والتعريف بها لدى العموم، على غرار "ويكيليكس" و"تسريبات قيصر" التي كشفت عن صور الآلاف من المقتولين تحت التعذيب في السجون السورية الرسمية.
ولم يجانب المُحقق الاستقصائيّ الأمريكي سيمور هيرش في كتابه الأخير "مذكرات صحفي استقصائي"، الصواب؛ حين عرّف المبلغين عن الفساد والتجاوزات، بأولئك المتيقنين تمام اليقين والإدراك بأنهم "أقسموا على الولاء للوطن وليس للأشخاص".
ظهور هذه الطبقة من المصادر المهمة للغاية والأساسيّة، مرتبط أيضا بثقافة النفاذ إلى المعلومة وتملّك الرأي العام لهذا الحقّ وتمثل الفاعلين الرسميين لهذا الواجب. وهي ثقافة لا تزال بعيدة عن المنال في أقطارنا العربية التي -وإن سنت في منظومتها القانونية تشريعات تكفل هذا الحقّ- إلا أنّ التنفيذ يبقى بعيدا عن المنظّر إليه وعن المسوّق له وعن المأمول فيه.
بهذا المستوى، ووفق هذه الاعتبارات، لم يكن من السهل أن يعرف السياق التونسيّ التسريبات بملحقاتها والصحافة الاستقصائية بتوابعها أيضا، وهي فنون تحقيقية وأجناس صحفيّة لها سياقات استنبات خاصة وفضاءات ممارسة محدودة.
حد التسريبات وحدودها
وعلى هذا الأساس، بالإمكان القول: إنّ التسريبات كمفهوم وظاهرة تستلزم مجموعة من الشروط الموضوعية؛ أهمها:
-
الانطلاق من عبارة "حقائق وليست آراء" News and not views، حيث يفضي التسريب إلى كشف وقائع ومعطيات تهم الرأي العام، كانت غائبة أو مغيبة عنه. بمعنى آخر؛ إنّ الآراء والتقديرات والتحليلات، لا تعتبر من مواضيع التسريبات، وهو بالضبط ما يمكن رصده في غالبية التسريبات الكبرى، انطلاقا من وثائق البنتاغون إلى وثائق بنما، حيث التركيز والاكتفاء بالمعلومة.
-
الاهتمام بمجال القضايا والشخصيات العامة خلال أدائها لواجباتها في الفضاء العام. وبناء عليه، فالحياة الخاصة للأشخاص ولعائلاتهم -ضمن الحيز الخاص- لا تعتبر مواضيع تسريبات. وهنا يمكن فهم الفرق بين التسريبات وبين صحافة الفضائح والتي تتطرق إلى نشر صور خاصة للمشاهير والشخصيات العامة.
-
قوة الكشف من حيث الجدة والحداثة والأهمية والتأثير في مسار الأحداث، فلا يكون التسريب تسريبا إلا إذا ارتبط بالجديد وغير المعروف، وإلا افتقد التسريب أهميته وقوته الرمزية ضمن مكافحته لمبدأ السرية الحاكم للمعلومة الأصلية. فلا يكون التسريب مبنيا على معلومات معروفة ومعلنة وإلا انتهت قيمة التسريب، وهذا ما يفسر الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تكشف -مؤخرا- عن كافة الوثائق المرتبطة بوثائق "البنتاغون"، ذلك أن القضية قتلت بحثا واستيعابا.
-
كشف التشبيك القائم بين الفاعلين المؤثرين المعروفين وبين الفاعلين المؤثرين غير المعروفين، فالكثير من الأسماء المغمورة بأكوام الأخبار اليومية، كثيرا ما يقع كشف تورطها وحقيقة أدوارها في التسريبات مهما كان نوعها.
-
التحقّق، ونعني به تثبتّ الصحفي من صحة التسريب فلا يسقط بذلك في فخّ الوثائق المسربة المغلوطة على غرار الصحفية الاستقصائية الأمريكية السابقة ماري مابس والتي سقطت هي وفريقها الاستقصائي في برنامج 60 دقيقة في فخ نشر وثيقة مسربة غير صحيحة.
-
الاستيعاب، بمعنى وضع التسريب في سياقه العامّ الزماني والمكاني والفاعلين المشاركين فيه، والسعي إلى ربطه بما سبق وبما لحق، فلا يكون التسريب معلومة مقتطفة أو مجتزأة عن سياقها.
بهذه السُداسيّة، نفهم الأسباب التي تجعل التسريبات تنتصر في غالبية حروب النشر، وتكون كفة الإعلان والإعلام -وإن خرقت مقتضيات السريّة الإدارية والقانونية- أقوى من كفة الحَجْب، وإن نصت الأخيرة على قوانين الكتمان المهني.
ولئن كان للإدارة الحق في تصنيف المعلومة ضمن خانة الـ"سري للغاية"، فمن حق الشعب والرأي العام الحصول على المعلومة والنفاذ لها، فلا يغلب حق الإدارة، حقوق المواطنة. ولا يغلب استثناء الحجب قاعدة الإعلام والإعلان؛ ذلك أن الحجب يصنع عبودية رمزية جديدة في حين أن الصحافة تصنع المواطنة الحرة والعقلانية والمسؤولة.
تأسيسا على كل ما سبق، فإن إدراج التسجيلات المنشورة في الفضاء الإعلامي التونسي وخاصة تسجيلات راشد الخياري، في سياق "التسريبات" كما ظهرت في مهدها وتمظهرت في أشكالها المتطرق إليها آنفا، تبقى مجازفة غير آمنة علميا ومهنيا، بل نعتقد أننا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أن غالبيتها لا ترقى إلى حد التسريبات وإلى حدودها الاعتبارية والرمزية.
أنواع "التسريبات" في السياق التونسي
إن نظرة استقرائية لغالبية التسجيلات والوثائق المقدمة في المشهد الإعلامي والاتصالي التونسي -على أنها تسريبات- تسمح لنا بإدراجها ضمن 4 أنواع كبرى؛ وهي على الشكل الآتي:
-
تسجيلات الآراء والتقديرات والتحليلات، وهي التسجيلات التي تعبّر عن توقعات أطراف سياسية في الغالب في جهات سياسية معارضة وغير مرتبطة عضويا بالواقعة المتحدث عنها. على غرار تسريبات "الغرف المظلمة" والتي يتحدث فيها نائب معارض في البرلمان عن حزب التيار الديمقراطي عن مآلات الحكومة ورئيسها، وهي في المحصلة خليط هجين من التقديرات والمعلومات والتطلعات والحسابات السياسية أكثر منها حقائق ثابتة ووقائع ملموسة.
-
ما يمكن أن نسميه بـ "تسجيلات الصحافة الصفراء"، وهي تسجيلات الضجة الإعلامية، من حيث تركيزها على الحياة الشخصية للأفراد وكشفها لمواقف بعض الإعلاميين والمشاهير حيال مشاهير آخرين من عالم الفن والغناء.
-
تسجيلات ووثائق تبرير وشرعنة سياسات الفاعل الرسمي، حيث تعمد هذه النوعية من التسريبات إلى تقديم الذرائع للفاعل الرسمي بعد اتخاذه قرارا سياسيا معينا، وبالإمكان تسميته بالتسريب المقلوب. إذ يقع التسريب لفائدة الفاعل الرسمي لتبرير قراراته وليس العكس. نقصد التسريب من داخل أجهزة الدولة ضد سياسات الفاعل الرسمي، وفي هذا الباب، وفيه ندرج تسريب وثيقة قرار وزير الداخلية المُقال السيد توفيق نور الدين نقْل بعض الأمنيين من مراكزهم إلى مراكز أخرى، وهو القرار الذي كان سببا في إقالته من قبل رئيس الحكومة هشام المشيشي.
-
تسجيلات لبعض الاجتماعات الحزبية والإعلامية "شبه الخاصة وشبه العامة"، على غرار بعض التسجيلات المسربة من اجتماعات حركة النهضة وحركة نداء تونس.
بمقتضى هذه الأنواع من التسجيلات، يتضح لنا أن المشهد الإعلامي التونسي لم يعرف التسريبات بمضمونها ومقاصدها الحقيقية، باستثناء حالات قليلة على رأسها حالتي "الشيراتون غايت"، و"وثائق بنما" والتي شاركت منصة "انكيفادا" في التحقق من مصداقية الوثائق الخاصة بتونس ووضعها ضمن قصص صحفية استقصائية قبل نشرها، في حين أن غالبيتها "تسجيلات يحسبها ظمآن المعلومة تسريبات".
وللأسف، ستبقى قطاعات كبيرة من الفاعلين في المشهد الإعلامي، تلحق تسجيلات الأحاديث الجانبية والخطابات الداخلية لبعض الأحزاب الفاعلة، والفيديوهات الشخصية المنتهكة لحرمة الحريات الفردية، والمكالمات الهاتفية الثنائية البذيئة والرديئة، ضمن إطار التسريبات السرية الخطيرة، مادامت معظم الحوامل الصحفية -حتّى لا نُعمّم- تستهلك المضامين الإعلامية بلا مهنية تفرز الخبر عن الرأي، وبلا أخلاقيات صحفية تنأى بالرسالة الإعلامية عن الحياة الشخصية للأفراد، وبلا ميثاقية تحرّ وتقص في المعطيات قبل تقديم الإقرار والتحليل.
صحيح أنّ ظاهرة التسجيلات الساعية لإثارة الضجة، وتسجيل النقاط السياسية أو الاغتيال الرمزي للأفراد، موجودة في غالبية التجارب الصحفية بما فيها الدول ذات التقاليد الراسخة في الإعلام المهني والمحترف. غير أن الأصح يتمثل في قدرة وكفاءة الإعلاميين على التفرقة بين التسجيل الذي لا يرتقي إلى مستوى الخطاب الجانبي أو ما يمكن تسميته بالـ off record، وبين التسريب المبني على قوة كشف القضايا العامة الغائبة أو المغيبة عن الرأي العام.
يقول روبرت فيسك، الصحافي البريطاني، "إن دور الصحفيين كامن في الحيلولة دون استفراد السياسيين بكتابة التاريخ، دون كبير احتفاء يرتضيه المزاج الصحفي". ونستطيع القول: إنّ كثيرا من التسريبات والقصص الصحفية الاستقصائية والتغطيات الصحفية الكبرى ساهمت في إحداث منعرجات سياسية كبرى، من وثائق البنتاغون وأثرها على مسار الحرب في الفيتنام إلى ويكيليكس وأثرها على الحرب في أفغانستان، وليس انتهاء بتسريبات صور تعذيب السجناء في أبو غريب وتأثيرها البالغ في المزاج الأمريكي في الحرب بالعراق، وتسريبات صور قيصر ودورها في صناعة الموقف الدولي حيال النظام السوري.
بالتأكيد، هناك أسباب أخرى ساهمت بدورها في إحداث هذه المتغيرات، أو أنها كانت سببا في هذه التسريبات ولكن -وفي جميع الحالات- كانت الصحافة أداة لكتابة أخرى ولسردية مغايرة لما يريده السياسي من مؤرخي اللحظة ومن تمثل التاريخ لشخصه، ولسياساته.
هكذا نفهم التسريب ككشف لحقيقة الواقع بعيدا عن مراوغات الخطاب الاتصالي الرسمي، وقوة كشف في مقابل قوة الحجب الرسمية، أو هو بعبارة أدق "خطاب حق وحقيقة في مواجهة خطاب القوة"، على قول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد.
المراجع:
-
https://www.archives.gov/research/pentagon-papers رابط وثائق البنتاغون على شبكة الإنترنت.
-
علام، هشام، وثائق بنما الحكايات التي لم تُرْوَ، مكتبة Telegram Network، 2020.
-
سيمور هيرش، مذكرات صحفي استقصائي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2019.
-
Lavoinne Yves. Le journaliste, l'histoire et l'historien. Les avatars d'une identité professionnelle (1935-1991). In : Réseaux, volume 10, n°51, 1992. Sociologie des journalistes. pp. 39-53.
-
Moisy, claude, Nixon et le Watergate, La chute d’un président, Hachette livre, paris, 1994.