عندما شرعت في تأسيس منصة "إنفوتايمز" قبل ثماني سنوات من الآن، لم أكن أملك ميزانية كبيرة حتى يُولد هذا المشروع بشكل مؤسسي ضخم. ما كان بحوزتي وقتها، لم يكن يكفي لشراء حاسوب واحد، لكنها كانت كافية لتدشين موقع إلكتروني بسيط بتقنية "وورد برس"، وتكوين فريق عمل من مصممين اثنين أعمل معهما أسبوعيًّا بدوام جزئي؛ على إنتاج بعض التقارير الصحفية المدفوعة بالبيانات والتصميمات البصرية لنشرها على الموقع الإلكتروني.
في الأشهر الأولى من العمل لم يكن يشغلنا هاجس جني الأرباح من هذه الموضوعات، بقدر ما كان يشغلنا تشجيع الجمهور على التفاعل معها عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وبناء قاعدة واسعة من المتابعين. والحقيقة أن نسبة التفاعل ظلت تتزايد شهرًا تلو الآخر، لكن لم تكن هذه الزيادة تُترجَم إلى تدفقات نقدية تساعدنا على الاستمرار في العمل.
وعند مرحلة ما أثناء عملنا، ونحن نراقب حجم تطور متابعينا، وجدنا أننا لن نقوى على منافسة المؤسسات الصحفية الكبيرة، ولن نستطيع جذب شريحة كبيرة من جمهورها. وفي سياق التأمل والتفكير في تطوير التجربة، قررنا أن ننتقل إلى استراتيجية أخرى تتمثل في بيع خدماتنا للمؤسسات الأخرى، بدلا من بذل الجهد لجذب جمهورها ومنافستها، وكان هذا التغير الأول في نموذج الأعمال الخاص بنا، وقد يبدو تغيرا بسيطا، لكنه في عالم المال والنموذج الاقتصادي يعدّ تحولا كبيرا، فتحديد الجمهور المستهدف من خدماتك على نحو دقيق يساعد في بناء نموذج ربحي فعال.
دهشة البدايات
في حقيقة الأمر، لم يكن لدينا تصور واضح في البداية عن شكل النموذج الربحي الذي سنتبنّاه، والقادر على التكيف مع التغيرات والعمل بشكل مستقل وجيّد. ساعدنا في ذلك تعطش السوق العربي لمثل هذه الخدمات التي كانت جديدة عليه وقتها، وعدم وجود نماذج مماثلة تقدّم ما نقدمه. تلك كانت أسبابًا مشجعة للغاية للبدء في تحويل ما لدينا من طموح وأفكار إلى شيء حقيقي، استنادًا إلى ما أملكه -كمؤسس لهذه التجربة- من خبرة ودراسة أكاديمية في مجال إدارة وتطوير الأعمال، خاصة أن مجال صحافة البيانات يعتمد -بشكل رئيسي- على تقديم الخدمات من الأبواب الخلفية للمؤسسات الكبرى.
وفي تلك اللحظة بدأت منصة "إنفوتايمز" في العمل كمكتب خلفي يقدم خدمات متعددة للمؤسسات الإعلامية التي لا تملك وحدات متخصصة في إنتاج قصص صحفية مدفوعة بالبيانات. وأنتجت المنصة -بالتعاون مع مؤسسات دولية- عددا من الأدلة التدريبية لصحافة البيانات، وعدة مطويات ومطبوعات تشرح قواعد محددة في التعامل مع البيانات، أو تعرّف بأدوات أساسية في هذا النوع من المعرفة.
كان أحد أكبر التحديات التي نواجهها باستمرار هو تطوير نموذج الأعمال الخاص بنا، لدرجة دفعتنا إلى تعلّم مهارات جديدة في التسويق والمبيعات. نضع دائما على لوحة اجتماعاتنا مخططًا لمواردنا المالية ومصادرها، ونفكر في كيفية تطويرها وضمان استمراريتها. الآن خمسة من أعضاء الفريق يدرجون "تطوير الأعمال" كجزء من وظائفهم اليومية، ثلاثة منهم أيضا لديهم مسؤوليات تحريرية.
كما أننا تغلبنا على مشكلة وجود كوادر صحفية متخصصة في هذا المجال، بتوفير فرص زمالة صيفية أمام الصحفيين الراغبين في تطوير وصقل مهاراتهم في التعامل مع البيانات؛ للانضمام إلينا وتدريبهم عمليًّا على التعامل مع البيانات في شتى مراحلها، مثل البحث عنها وجمعها واستخلاصها وتنظيفها وترتيبها وتحليلها وسردها بصريًّا، وكل ذلك في ضوء المعالجة الصحفية للموضوعات والقضايا القيّمة التي تهم المستخدمين وتؤثر على حياتهم.
وعلى الرغم من أن النموذج الربحي صرفنا لبعض الوقت عن شغفنا كصحفيين في إنتاج قصص خاصة بنا، فإننا خصصنا بعض الوقت الذي لم نكن فيه نعمل لصالح مؤسسات أخرى؛ لإنتاج عدد محدود من قصصنا الصحفية التي نعتز بها.
تلك القصص، قدمنا فيها مزيجا متنوعا من الموضوعات في مجالات عدة كالسياسة والاقتصاد والثقافة والفن والرياضة. لم نحصر البيانات على قطاع بعينه، لكن حاولنا إثبات أنها موجودة في كل شيء حولنا، وليست حكرًا فقط على التحقيقات الاستقصائية أو الموضوعات السياسية.
حاولنا كذلك تنويع مصادر بياناتنا، فقدمنا نماذج مختلفة لموضوعات لم نستند فيها إلى البيانات الرسمية المتاحة لدى المصادر الرسمية، وتوجهنا إلى مصادر لم يكن معتادًا الاعتراف بها في غرف الأخبار العربية، كاستطلاعات الرأي وشبكات التواصل الاجتماعي وأرشيف الصحف.
رغم قلة ما نشرناه، فإن سعينا انصبّ على تقديم محتوى هادف وملهم من قصص صحفية مدعومة بالبيانات، دون الركض خلف سُعار الأخبار اليومية. كما عملنا على ابتكار عدد من التقنيات الخاصة بنا، للتغلب على عقبات كثيرة تتعلق بشكل وصورة البيانات المتاحة، أو تلك التي تعوق طريق وصولنا إلى بيانات منظمة ومنسقة في شكل جداول "إكسل" صالحة للتحليل والفلترة والتبويب، حتى يتسنى لنا توظيف النتائج في شكل قصص صحفية مقدمة من خلال عناصر بصرية تخدم رواية ما اكتشفناه من معلومات.
نجاح بعد جهد
أهّلتنا هذه الموضوعات إلى الترشح للقائمة المختصرة لأفضل موقع مختص بالبيانات في جائزة "شبكة المحررين العالمية" عام 2016، ثم عدنا مرة أخرى للمشاركة في نفس الجائزة لنفوز بها عام 2018 كأفضل فريق صحفي مختص في صحافة البيانات عن فئة غرف الأخبار الصغيرة.
تهدف "إنفوتايمز" بشكل أساسي إلى نشر المعرفة الخاصة بصحافة البيانات، والتعريف بأدواتها وتقنياتها، وإنتاج محتوى أصيل موجّه إلى الصحفيين العرب، بهدف تزويدهم بالمعرفة اللازمة التي تجعلهم على دراية مستمرة بتطورات هذا الفن الآخذ في الانتشار، والذي بات جزءًا رئيسيًّا في عدة منصات صحفية عالمية.
وفي عام الجائحة، يمنعنا توقف السفر وعقد الدورات والمؤتمرات عن مهمتنا في نشر المعرفة، حيث عملنا على تأسيس مدرسة البيانات المنبثقة عن "إنفوتايمز"، لتصبح منصتها التدريبية. تعدّ المنصة الموقعَ الأول عربيًّا في التدريب عن بُعد في مجال علوم البيانات، حيث نخصص أقسامًا للتدريبات المعدة والمسجلة مسبقًا لتكون موردًا ومصدرًا معرفيًا للباحثين عن المعرفة في العالم العربي، فضلا عن عدد من الكتب والأدلة التدريبية.
حتى الآن، لا توجد وصفة سحرية يمكن القول إنها نموذج أعمال ناجح يمكن اتباعه. ربما أفضل ما كان في هذه التجربة حتى اليوم، هو حرية التنقل والمزج بين قطاعات متعددة كالصحافة والتدريب وبيع الخدمات للغير حفاظا على تدفق الموارد واستمرار العمل. الحفاظ على الاستقلالية عقيدة مهمة بالنسبة لنا، لكن لا يمكن الاعتماد فقط على عائدات مشاهدة الجمهور لقصصنا الصحفية كمورد أساسي.
لا يمكن القول إن ما قمنا به شيء فريد. أظن أن جميع المؤسسات الناجحة لديها نفس القدر من المرونة وسرعة التكيف مع الواقع المحيط لامتصاص الصدمات وتفادي التحديات. ما تعلمناه في هذه الرحلة هو أن نجعل المحنة منحة، ونصنع منها إنجازًا جديدًا، فبطاقم عمل صغير وموارد محدودة، وصلنا من غرفة صغيرة وسط العاصمة القاهرة، إلى مكانة عالمية نافسنا فيها مثيلتنا من شتى بلاد العالم.
تحديات عادية
لا يمكن الوقوف أمام التحديات الأخرى التي تواجه صحافة البيانات في العالم العربي، كشحّ البيانات وندرة الكوادر الصحفية المدربة على هذا النوع من العمل الصحفي، فنحن في "إنفوتايمز" نؤمن بأن هذه التحديات أبسط ما يمكن أن يواجهه الصحفي في عمله، فالبيانات لم تعد شحيحة كما نظن، ويمكن أن نحصل عليها من مصادر عدة.
إننا نعيش في عصر البيانات المفتوحة المصدر والتسريبات الكبرى، وكل شيء حولنا يمكن أن يكون مصدرًا متدفقًا بكمّ ضخم من البيانات. كذلك المهارات، فنحن لسنا بحاجة لأن نكون مبرمجين أو علماء بيانات لنصنع قصصا صحفية مدفوعة بالبيانات، بل يكفي فقط أن نكون صحفيين شغوفين بما نكتب عنه، ونجيد عددا من المعادلات الحسابية. التقنية اليوم باتت أسهل من أي وقت مضى، حتى لو كنا لا نملك إلا آلة حاسبة صغيرة، فهي وحدها تمكننا من تحليل حُزم ضخمة من البيانات.
إذا كنتَ قد وصلت إلى هذا السطر، فأنا أدعوك للتجربة والمغامرة، فلن تخسر شيئًا على الإطلاق. جرِّب الآن أن تتعلم صناعة القصص الصحفية المدفوعة بالبيانات من خلال المطالعة والتجربة، أو جرّب أن تنتقل من الصحافة إلى ريادة الأعمال، أو أن تمزج بينهما كما فعلنا في "إنفوتايمز"، فالتجربة تستحق، والرحلة ما زالت في أولها.