كنت ابنة عشر سنوات حين قتلوا والدي. كان عضوا في المجلس البلدي لإحدى بلدات الشمال الكولومبي، وكان يتحدث في العلن عن فساد المحافظ، وفي عام 1997 ولغايات الانتقام أمر المحافظ بقتله. نهر من الدماء سال في هذا الإقليم العنيف، مجموعات من العصابات المسلحة والقوات شبه العسكرية مدعومة من الدولة هاجمت الناس وأرعبتهم، كل من يستنكر الأمر سيُقتل. فضّل الناس الصمت، ألزموا أنفسهم به آليّة للحماية، لكن اغتيال أبي ظل يكبر كجرح عميق في داخلي، إلى أن حدد مصيري فيما بعد. أردت أن أصير صحفية وأن أكشف الحقيقة!
بالكاد كنت أعرف اسم القاتل، أردت أن أعرف لماذا أمر بقتله، كنت أعرف أنه المحافظ الذي سخّر قوته كلها لمنع تحقيق العدالة. كان يقود مجموعة إجرامية ارتكبت مجازر في المنطقة، العِلة كانت ذاتها في كل مرة، سحق معارضيه. قضاة ومدّعون عامون لم يجرؤوا على المساس بالقاتل، أما الإجراءات القضائية فدائما ما كانت تبوء بالفشل، حتى ملف قضية اغتيال والدي جرى توثيقه بعد أشهر من الحادثة، خوفا من الإبلاغ، أما ذوو الضحايا فلم يتبق أمامهم سوى استجداء العدالة الإلهية.
الالتزام الأخلاقي الأول في عمل كل صحفي يكون تجاه نفسه، الموضوعية والحياد في الصحافة خصائص طوباوية جدا.
نشأت حينها في بيئة يحفّها العنف والخوف، كنت أحلم أن أعرف الحقيقة كاملة، وأن أروي الحكاية يوما ما، هل كان والدي يستحق ذلك كله؟ لم قتلوه؟ ولِم لم يفعل أحد شيئا للدفاع عنه؟ حين نضجت جعلت أنظم قصائد شعرية أصف فيها معاناتي، هناك بدأت تنمو نزعة الكتابة لدي، وارتأيت أن دراسة الصحافة ستمنحني الأدوات اللازمة للبحث بعمق في القضية، بالقدر ذاته الذي ستؤلمني به. مضت السنوات الأولى مثقلة بالإحباط، كان القاتل، وقتها، قد ازداد نفوذه وغدا أشد خطرا، كان عدد ضحاياه قد تجاوز المائة، وكان لم يزل محافظ غواخيرا، وهي بلدة على الحدود مع فنزويلا، دمرها العنف والفساد والإهمال، أطفال الشعوب الأصلية ما زالوا حتى اليوم يموتون جوعا في تلك المنطقة.
بعد عشرين عاما تقريبا من مقتل والدي، كلفت محكمة العدل العليا في بوغوتا مدعيا عاما للتحقيق في القضية، ولأول مرة يستدعى القاتل للمثول أمام القاضي، كنت حينها قد دخلت عالم الصحافة، ورغم الخوف الشديد الذي كان يتملكني فقد أسهمت في ذلك التحقيق، ليس بشهادتي في القضية فحسب، بل أجريت بحثا موسعا أوصلني إلى فتح كثير من الملفات وإجراء مقابلات مع عدد من القتلة، والتحقق من مختصي الطب الشرعي، والأهم من ذلك التوغل في داخلي لمواجهة الألم الذي لطالما أجبرتني الخيبات وإفلات الجناة من العدالة على تأجيله.
خلال فترة المحاكمة كتبت عددا من السرديات الصحفية عن قصتي، وحينها بدأت الأسئلة تنخر رأسي عن مدى التزامي أخلاقيات الصحافة فيما أفعله، هل سأتمكن من فعلها؟ وهل كوني أنا الضحية في القصة ينزع صفة الموضوعية عن روايتي؟ سنتان من إجراءات المحاكمة وسنة إضافية للنطق بالحكم، ثم يقضى عليه بأربعين سنة في السجن، بعدها شرعت في تأليف كتاب لم أروِ فيه قصتي فحسب، وإنما - بسياق أوسع - رويت قصص آخرين وقعوا ضحايا للجاني نفسه.
الالتزام الأخلاقي الأول في عمل كل صحفي يكون تجاه نفسه، الموضوعية والحياد في الصحافة خصائص طوباوية جدا. الذين يعدون التقارير دائما ما يكونون واقفين في مكان ما، يرون الأمور من منظور واحد فقط من بين أبعاد كثيرة. لأجل ذلك لا بد للصحفي أن يلتزم موضوعية جزئية، غير محددة ولا حاسمة، ولذلك أيضا دائما ما تسمع روايات متنوعة على لسان كثير من الصحفيين لحدث واحد فقط.
إن الصحفي الجيد يقرر على الأرض متى يفتح الباب ليروي ملامح عامة عن المأساة، ومتى يغلقه على خصوصيات الضحايا.
صياغة لغة تقاريرك من الأمور التي لك حرية التصرف فيها، توجهك ورؤيتك للموضوع والأسئلة التي تطرحها على من تقابلهم هي علامات تميز العمل الصحفي. ليست هناك منهجية قابلة للقياس أو قائمة محددة للفحص يمكن توظيفها على كل التقارير عموما، لكن لن نكون موضوعيين حين نركز منذ بدء إعداد التقرير على أحكام مسبقة لدينا في بعض الجوانب. إن الصحفي الجيد يقرر على الأرض متى يفتح الباب ليروي ملامح عامة عن المأساة، ومتى يغلقه على خصوصيات الضحايا.
ربما لن يستطيع الصحفي أبدا أن يكون موضوعيا تماما حين يبحث في القصة ويرويها، لكنّ لديه التزاما أخلاقيا لا مفر منه، أن يكون شفافا وصادقا مع جمهوره. من الطبيعي أن تكون لدى الصحفي اعتبارات مسبقة في أي موضوع. كلنا كذلك. لكن في الوقت ذاته فإن من واجبه البحث عما يخالف هذه الاعتبارات، بإمكانه التماهي مع بعض الأفكار، لكن عليه أن يتحرر من الشعارات والتسميات الثابتة أحيانا، بل ينبغي له أن يكون منفتحا تجاه التفسيرات المختلفة، حتى التي تتعارض مع معتقداته، ما يسمونها اليوم "الصحافة المتشددة" ما هي إلا إهانة للعمل الصحفي، إذا كانت لدينا فكرة استثنائية فليس لنا أن نتشدد فيها، بل أن نبرزها في سياق عام جنبا إلى جنب مع الأفكار الأخرى.
واحدة من الكليشيهات المعروفة أنه ليست هناك حقيقة مطلقة للأحداث، لكن الحقيقة الصحفية يمكنها أن تكون، بعيدة جدا عن الحقيقة المتعلقة بالمجريات أمامنا، حتى وإن كان أمر ما غير مثبت أمام القضاء، يمكننا معالجته والتحقيق فيه من خلال الصحافة، بإبراز الأدلة والشهود والوثائق التي تدعم ذلك. وهنا ينبغي الشك في كل شيء، حتى في الحقائق التي أثبتتها الهيئات القضائية، ذاك هو عمل الصحافة، الشك لا اليقين، وإن كان هناك جانب نجهله أو ثغرات في المعلومات التي نقدمها فعلينا أن نكون واضحين أمام القارئ، أن نقول ذلك منذ السطر الأول، أين هو موقعنا من حقيقة الحدث الذي نرويه، إنها الشفافية: "أنبه القارئ إلى أن ما سأحكيه تاليا زلزل حياتي كصحفية، وقد قررت أن أتتبع أثر القاتل حتى أنزع القناع عن وجهه".
الأخلاقيات هي ذاتها دائما، أيا كان من يتبناها، أن تكون ضحية وتعاني آلامك الخاصة فهذا لا يمنحك الحق أن ترمي اتهاماتك هكذا بلا أدلة، أما أن تكون ضحية وصحفية في الوقت ذاته فذلك يتطلب أن تبحث بخلاف معاييرك الخاصة، أن توسع النطاق وتنظر إلى حيث تصعب الرؤية وتستحيل. رغم كل الألم والغضب اللذين يخنقانك، على قصتك الصحفية أن تحيط بجوانب الحدث كلها وأن تقدمها من أكثر من منظور. فحين تحكي عن وقائع جلسة المحاكمة، إياك أن تكتفي بنقل شهادات من أدانوا الجاني، عليك أن تنقل شهادات من وقفوا معه أيضا، إبراز هذه التناقضات ضروري حتى يكون القارئ هو وحده من يستخلص نتائجه وقناعاته الخاصة. كَوني ضحية فهذا لا يعطيني رخصة باسم التاريخ كي أختلق أحداثا أو أبالغ في سردها بما يناسب روايتي.
ينبغي الشك في كل شيء، حتى في الحقائق التي أثبتتها الهيئات القضائية، ذاك هو عمل الصحافة، الشك لا اليقين، وإن كان هناك جانب نجهله أو ثغرات في المعلومات التي نقدمها فعلينا أن نكون واضحين أمام القارئ، أن نقول ذلك منذ السطر الأول.
أن تكون أخلاقيا يعني أن تبرز الجوانب المضيئة والمعتمة في الحكاية وفي الضحايا أيضا، لا في الجناة فقط، عادة ما يقع كثيرون في خطأ إظهار الضحايا الأنقياء، الصالحين، بلا أخطاء، كأننا نقول للقارئ إن الضحية لا تستحق ما حدث لها، لكن واجب الصحفي إظهار تلك الشقوق الخفية في الضحايا وفي غيرهم. وبالمناسبة، فإن إظهار تلك الجوانب لا يقلل من كونهم ضحايا، لكنه يجعل القصة أكثر إنسانية، هذا ما فعلت تماما، وهذا ما أوصي به: إظهار المواضع التي تترنح فيها القصة والضحايا والجناة هو ميثاق أخلاقي بين الصحفي والقارئ. كان غابرييل غارسيا ماركيز يقول: "في الصحافة لا يمكن فصل الأخلاق عن التقنية، تماما كما لا يمكنك فصل النحل عن طنينها".
كونك صحفيا فذلك قد يمنحك في كثير من الأحيان مزايا لا يتمتع بها القضاة وموظفو المحاكم، هناك شهود ممن يفضلون الإدلاء بتصريحاتهم للصحفي دون الكشف عن هوياتهم، لكنهم لن يفعلوا ذلك أمام هيئة قضائية. لقد حدث ذلك معي أثناء التحقيق، القاتل أدين فعلا، لكن كانت هناك شهادات أساسية لم تعرف بها المحكمة، بينما أنا أستمع إليها وأستخدمها في بحثي، هناك تفاصيل غير مهمة بالنسبة إلى العدالة، لكنها للصحفي قد تعدل منجما من ذهب.
الحديث عن حالة الطقس في مكان أنت لست فيه، أو رواية حدث لم يحضره الصحفي هو أمر غير موضوعي، لكنه سيكون أكثر موضوعية لو زار الصحفي المكان، لو توصل إلى بعض التفاصيل المهمة، أو تحدث إلى أبطال الحكاية. بالنسبة لروايتي، حتى لو أنني رويتها مثلا بضمير الغائب/ الشخص الثالث، وحتى لو كتبها صحفي آخر، سيظل دائما هناك شخص أول بحث في الأحداث وتصفح الوثائق والملفات وأجرى المقابلات، المهم هنا، أن إظهار الثغرات التي يحتويها البحث نفسه أمر أخلاقي جدا.
اغتيال والدي لا يعطيني رخصة باسم التاريخ كي أختلق أحداثا أو أبالغ في سردها بما يناسب روايتي.
واحدة من أشد اللحظات تعقيدا وإثارة طوال مدة التحقيق ربما كانت جرأتي في التفتيش عن واحد من القتلة، كان قد بدل أقواله لصالح الجاني بعد شهادته الأولى أمام المحكمة. تهيأت نفسيا وتدربت كي أواجهه دون أن أفقد رباطة جأشي، ثم قابلته لساعات في السجن، وكذلك تحدثت إلى قتلة آخرين عن فظائع ارتكبوها، وقد آذوني جدا حينها، إنه لتحدٍ فاشل أن يحاول الصحفي الانفصال عن عواطفه.
ليست لدي وصفة جيدة كي لا تشعر بالحزن أو الخوف أو الألم حين تبحث وتحقق في حكايتك الخاصة، في الواقع لقد جلب لي هذا التحقيق كثيرا من التهديدات، حد أني ما زلت حتى اليوم مجبرة على الخروج مع مرافقين شخصيين عينتهما الدولة لذلك، لكني أعلم اليوم أكثر من أي وقت مضى أن الأخلاق متغلغلة في العمل الصحفي، حتى لو كنت ضحية، وحتى إن كان التحقيق يشملك، فالصحافة والأخلاق لا ينفصل أحدهما عن الآخر!