لا أعرف من أين أبدأ. هل انطلاقا من كوني صحفية تغطي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أم بصفتي نازحة أم زوجة لصحفي أيضا؟
عرفت سابقا أن للعمل في الصحافة ثمنا باهظا، ندفعه نحن الصحفيين والصحفيات من صحتنا النفسية والجسدية، ولا سيما في غزة التي تشهد نموذجا استثنائيا في التغطية؛ إذ بلغت حصيلة الشهداء من الصحفيين 133 منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي.
منذ اللحظات الأولى لبدء عملية "طوفان الأقصى"، أدركنا جيدا أن "القيامة" ستقوم على غزة. في العادة يجهز الفلسطينيون حقيبة يسمونها "حقيبة الحرب" تضم أوراقهم الثبوتية وبعض المال والمدخرات، فيما لو أجبروا على إخلاء المنزل بسرعة، لكن قصتي أنا على سبيل المثال لا الحصر كانت مختلفة.
في العادة يجهز الفلسطينيون حقيبة يسمونها "حقيبة الحرب" تضم أوراقهم الثبوتية وبعض المال والمدخرات، فيما لو أجبروا على إخلاء المنزل بسرعة، لكن قصتي أنا على سبيل المثال لا الحصر كانت مختلفة.
أنا وزوجي أنس أبو دية صحفيان في القطاع الرقمي بشبكة الجزيرة، نسكن بمنطقة "الأمن العام" أو شارع المخابرات في الشمال الغربي لمدينة غزة، أجبرنا على إخلاء منزلنا عند فجر اليوم الثالث من الحرب، تحت الغارات الجنونية التي لم نعهدها رغم مأساوية الأوضاع في الحروب السابقة.
ماذا عن "حقيبة الحرب" بالنسبة للصحفيين؟ بالتأكيد سوف تكون معدات العمل؛ الكاميرات وأجهزة الحواسيب وبعض معدات التصوير، فهي كل رصيدنا من منزلنا الذي تعرض للتدمير لاحقا. نعُدّها بمنزلة أبناء لنا. فضّلناها على حصتنا من الملابس والمستلزمات، وعلى كثير من الأشياء الثمينة التي ربما أصبحت ذكرى لنا الآن.
ننزح في داخل غزة مثل المدنيين الفلسطينيين في أماكن مختلفة في اليوم بسبب القصف. نحمل المعدّات ونركض بها. نخاف أن تبقى في السيارة، نضعها بيننا حتى في الأماكن الضيقة. وهنا يجب أن أعترف أن تحقيق التوازن بين السلامة الشخصية وتوفير تغطية مستمرة كان في غاية الصعوبة، حتى وصل بنا الأمر إلى الوصول إلى جنوبي القطاع. أمَّنّا على عُمَر ثم انطلقنا.
لوهلة تشعر أن وجود طفل بين زوجين صحفيين "يكسر الظهر". نعيش في توتر دائم، يتضاعف الخوف كلما خرجنا للتغطية؛ ليس على أنفسنا بل على أن يصيبه قصف بأذى أو يستهدف عوائلنا وأحبابنا الذين يفكرون بنا كذلك. ولعل أكثر ما ضاعف الأمر هذه المرة شراسةُ إسرائيل في استهداف الصحفيين وعائلاتهم.
لوهلة تشعر أن وجود طفل بين زوجين صحفيين "يكسر الظهر". نعيش في توتر دائم، يتضاعف الخوف كلما خرجنا للتغطية؛ ليس على أنفسنا بل على أن يصيبه قصف بأذى أو يستهدف عوائلنا وأحبابنا الذين يفكرون بنا كذلك.
لا حصانة لأحد منا أمام تعطشهم لدمائنا. مرّت علينا أيام شعرت فيها أنني لو لم أمت بالقصف فسأموت بسكتة قلبية بسبب الأصوات التي تضرب أعماق قلوبنا من هولها. أحاول تجاوز كل مشاعري وكتمها في داخلي لأُطمئِن من حولي. يظهر الخوف علي في كثير من الأحيان، وبدلا من المواساة لبعض "الأقوياء" من حولي كانت تقتلني جملة "صحفية وبتخافي؟"، ألا يحق للصحفي أن يخاف يا عالم؟
في طبيعة عملي، أنا شغوفة بالبحث عن القصص الإنسانية، أهتم لسماع أدق التفاصيل المتعلقة بالفقد خاصة.
وبالعودة إلى طبيعة التغطية التي لن أمل من وصفها بأنها "استثنائية"، منذ السابع من أكتوبر أغلقت إسرائيل المعابر مع قطاع غزة إغلاقا تاما، فمنعت دخول الغذاء والدواء والسولار وقصفت محطات الكهرباء وأخذت تقطع الإرسال والإنترنت لفترات بعضها امتد إلى أكثر من أسبوع.
لم تكن المواصلات متوفرة لانقطاع السولار والبنزين. لم يكن لدينا معدات سلامة مهنية؛ لا درع ولا خوذة ولا حتى شنطة إسعافات صغيرة. كنا نسير أنا وأنس لمسافات طويلة تحت تهديد القصف نحمل معدات التصوير فوق ظهورنا، ويحالفنا الحظ عندما نجد عربة تجرها دواب لتوصلنا إلى موقع التصوير. لم يكن يهمّنا التعب بقدر ما يهمّنا أن نصل رغم انعدام فرص الأمان.
لم تكن الظروف مناسبة للعمل، لكنّه عملنا الذي نفخر به ويراه الناس مساحة ضرورية لنروي قصصهم! نحن الذين نرفض أن يكون الضحايا مجرّد "أرقام" في عدّاد الموت الذي لا يتوقف أمام الحرب التي تفرض علينا أثقل ما يمكن للمرء عيشه. نحن الذين اخترنا مهنة الصحافة ولن نتوانى يوما عن الاستمرار فيها حتى في أحلك الظروف، لكن هذه المرة وفق المتاح فعلا.
وفي جزئية ربما تكون طريفة، شكّلت مراكز الإيواء وأبرزها المدارس مكانا لاستيعابنا في عملية شحن الهواتف والحواسيب وبطاريات الكاميرات؛ لأن الكهرباء تصلها لساعات محدودة بخلاف الخيام والمنازل الناجية من القصف.
وفي النزوح وتفاصيل العيش، لا يوم يشبه الآخر؛ لليوم الواحد فصول عديدة يكون أولها تأمين المياه، وليس مُهِمًّا إن كانت صالحة، يكفي أن نجدها لغسل وجوهنا العابسة الشاحبة تحت حمم القصف الطويلة، ثم المرور في مرحلة البحث عن الخبز والطعام وإشعال نيران الحطب للطهو في ظل انقطاع الغاز.
لم يكن لدينا معدات سلامة مهنية؛ لا درع ولا خوذة ولا حتى شنطة إسعافات صغيرة. كنا نسير أنا وأنس لمسافات طويلة تحت تهديد القصف نحمل معدات التصوير فوق ظهورنا، ويحالفنا الحظ عندما نجد عربة تجرها دواب لتوصلنا إلى موقع التصوير. لم يكن يهمّنا التعب بقدر ما يهمّنا أن نصل رغم انعدام فرص الأمان.
أذكر في أحد الأيام أنني استيقظت على صوت طفلي يطلب قطعة من الخبز، لم يكن متوفرًا، ولم يقتنع بذلك، استيقظ رفاق النزوح على صوته الذي صار يعلو، وصار الجميع يبحث عن رغيف ربما تُرك في إحدى زوايا المطبخ من دون جدوى. حاولنا إقناعه ببسكويت يُغمس بالشاي لكنه رفض؛ كيف سيفهم عُمر ابن الأعوام الأربعة مأساة الجوع التي جعلتنا إسرائيل نعاني منها؟ لن يفهم بالتأكيد.
حرمت نفسي في كثير من الأيام من شرب الماء لتوفيره له، من حصتي بالخبز لأجله! هذا ما أستطيع توفيره وصولا لمشاعري التي أرفض التعبير عنها كي لا يراني منهارة. في الحقيقة أنا أبكي من دون صوت ولا دموع، أشعر أن الله يحتضنني بعنايته ويجعلني أتماسك، لكن لا أعرف كيف سيكون انهياري في النهاية.
كأني ولدت في الحرب. عشتها. مت فيها. أموت فيها كل يوم وأحيا لأعيش جولات التصعيد والحصار والحروب اللاحقة وصولا إلى يومنا هذا. القصص ذاتها. العدو ذاته. المأساة ذاتها. قتل وتشريد وتهجير وتدمير ونزوح وتجويع وحرمان، هذه إسرائيل لم تترك لنا مجالا لنعيش يوما طبيعيا من دون حزن.
حرمت نفسي في كثير من الأيام من شرب الماء لتوفيره لابني، من حصتي بالخبز لأجله! هذا ما أستطيع توفيره وصولا لمشاعري التي أرفض التعبير عنها كي لا يراني منهارة. في الحقيقة أنا أبكي من دون صوت ولا دموع، أشعر أن الله يحتضنني بعنايته ويجعلني أتماسك، لكن لا أعرف كيف سيكون انهياري في النهاية.
"لسنا بخير"... أقل ما يمكن قوله بعد أكثر من 200 يوم في تغطية حرب الاحتلال على قطاع غزة، وهذه رسالة لأي إنسان من خارج القطاع يسألني: كيف حالك؟ هكذا أجيبك في قلبي، فلا تصدّق كل يوم كذبت عليك فيه وقلت إنني بخير.