لم يبدأ الوعي بتحيّز الإعلام الغربي السائد لإسرائيل ولمشاريع الهيمنة والتوسّع الغربيّة في السابع من أكتوبر الماضي، غيرَ أنّ ما تكشّف على نحو صارخٍ هو مقادير ذلك التحيّز المرصود منذ عقود، والذي تبيّن أنّه يتزايد طرداً مع حجم الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال. واليوم، وبعد انقضاء عامٍ على الحرب، يتواصل هذا السلوك الصريح وتتطوّر آلياته، مع التزامٍ تامٍّ ومنهجيّ بالرواية الإسرائيلية، وهذا ما يكشفه اثنان من أبرز العناوين الجديدة التي صدرت في هذا السياق؛ الأول من وكالة رويترز، والثاني من صحيفة نيويورك تايمز.
رويترز.. "تعقيدات سياسيّة"
في الخامس من تشرين أول/أكتوبر الجاري، نشرت وكالة رويترز حلقة بودكاست بمناسبة الذكرى الأولى لما بات يعرف عربياً باسم "طوفان الأقصى". كان عنوان الحلقة: "7 أكتوبر: الألم المتواصل و[تعقيدات] السياسة"، ونُشرت ضمن تأطيرٍ متّسق ومحدّد بدقّة عالية، إذ جاء في الوصف المكتوب للحلقة: "بعد عام من هجمات حماس المفاجئة نتحدث إلى نساء من إسرائيل وغزّة عن آلامهنّ التي لم تنقطع". أمّا بداية الحلقة نفسها، فجرعةٌ مكثّفة من السرد الصحفي الدراميّ عن رسائل أخيرة تلقّتها أمّ إسرائيليّة من ابنها قبل أن يُختطف ويؤخذ رهينة إلى غزّة. هذه السيّدة معروفة الاسم بالنسبة إلى رويترز. إنها "إيناف"، أمّا ابنها، فهو "ماتان".
في مقابل هذه الصورة الدراميّة الحيّة المليئة بالتفاصيل في المقطع الأول من الحلقة، سنسمعُ جملة ثانويّة باهتة عن "سيّدة أخرى"، لم ترَ الوكالة البريطانية ألمها إلا عبرَ مرآة تلك السيّدة الإسرائيلية ومأساتها مع ابنها. هذا ما تقوله الحلقة حرفياً، قبل أن تبدأ بسرد تفاصيل معاناتها، عبر حديث لها مع مراسل الوكالة في القدس المحتلّة، مايان لوبيل، والذي راح يسرد القصّة للضحيّة الأساسية المستحقّة للعزاء غير المشروط في الجزء الأول والأطول من الحلقة.
في مقابل الصورة الدراميّة الحيّة المليئة بالتفاصيل في المقطع الأول من الحلقة، سنسمعُ جملة ثانويّة باهتة عن "سيّدة أخرى"، لم ترَ الوكالة البريطانية ألمها إلا عبرَ مرآة تلك السيّدة الإسرائيلية ومأساتها مع ابنها.
سينتظر المستمع دقائق كثيرة حتى يستمع إلى القصّة المقابلة ويعرف من هي الضحيّة الأخرى. كان المقصود هو السيّدة الفلسطينية إيناس أبو معمر، والتي انتشرت صورة لها في مستشفى ناصر في خان يونس، وهي تدفن وجهها في كفن ابنة شقيقها، سالي، بعد أن استشهدت في قصف إسرائيلي في الأيام الأولى للحرب. في البودكاست، سنسمع قصّتها ضمن التأطير المحدّد الآتي: "كانت تلك الصورة واحدة من أقوى صور المعاناة الفلسطينية خلال عام من القصف على غزّة، والذي كان ردّ إسرائيل على هجمات حماس في السابع من أكتوبر"، في صياغة تترك الباب موارباً للمستمع الغربيّ ليحكم فيما إذا كان مقتل تلك الطفلة الصغيرة ثمناً معقولاً ما دام أنّه حصل في سياق مطاردة جناة بدأوا بالاعتداء، وفق السياق الذي بدأت به الحلقة وتوقّفت عنده. أمّا اختيار تلك الصورة تحديداً، على فجاعتها، فيدلّ أيضاً على العدسة التي ينظر من خلالها الإعلام الغربيّ إلى الفلسطيني؛ فهو بعيدٌ ومُبهمٌ وغير مفهوم ولا مألوف، تغطّي وجهه حجبٌ وأكفان، والأهمّ من ذلك أنّه لا يتكلّم، أو ممنوعٌ من الكلام. على المقلب الآخر، يتصوّر المستمع للبودكاست تلك الأمّ الإسرائيلية، في صورة هي أيضاً صورةٌ "ثقافية"، بمعنى أنّها نمطيّة ومتحيّزة. فتلك السيّدة ذات صوتٍ وذات فاعليّة، وهي "تتحدث بانتقادات جريئة"، كما أنّها "تتظاهر دوماً وتقطع الطرقات وتشعل النيران، وتلف جسدها بالسلاسل".
بدا إصرار الوكالة على استحضار هذا الإطار السياقيّ المشوّه هوسياً وغير إنسانيّ، حتى في سياق الحديث عن قصّة مأساة إنسانيّة من القطاع، وهو أمر يتّضح المدى الأبعدُ لفداحته المهنيّة وازدواجيّته الأخلاقية عند ملاحظة إمعان الوكالة، على غرار سواها من وسائل الإعلام الغربية المهيمنة، في إسقاط السياق الذي حصلت فيه هجمات السابع من أكتوبر، وهو سياقٌ معلومٌ وموثّقٌ ومديدٌ من الاحتلال والقهر وسلب الكرامة الإنسانيّة والعقاب الجماعيّ، الواقع على سكّانٍ يقبعون في قطاع محتلّ يمثل أكبر سجن مفتوحٍ عرفته البشريّة، بحسب توصيفات كبرى المنظمات الإنسانية العالميّة، قبل أن يتحوّل إلى أكبر مقبرة، للكبار وللصغار معاً، بحسب ما تؤكّد اليونيسيف.
إلى جانب هذا التأطير الانتقائي، اتّكأت الحلقة تحريرياً على أساليب أخرى للتخفيف من اتهام الطرف الإسرائيليّ بأي مسؤوليّة عن الجرائم التي ارتكبتها بحق المدنيين في قطاع غزّة. فالطفلة سالي "قُتلت مع أمّها"، أمّا عمّتها إيناس فعادت إلى بيتها "الذي لحقه الدمار"، ثم تتكرر الأفعال غير المسندة إلى فاعلٍ محدد، مع التذكير المستمر باللازمة التأطيرية: "بعد عام من هجمات السابع من أكتوبر"، وكأنّه إعلانٌ من المحرّر بإخلاء المسؤولية أمام الرقيب الإسرائيلي، أو تعبيرٌ عن تماهٍ طبيعيّ مع سرديّته، وفي تخلٍّ فجّ حتّى عن تلك الشفافية الموضوعية التي تدّعي الوكالة تقليدياً التقيّد بها وتعتبرها جزءاً من تعريفها وهويّتها المهنيّة.
اتّكأت الحلقة تحريرياً على أساليب أخرى للتخفيف من اتهام الطرف الإسرائيليّ بأي مسؤوليّة عن الجرائم التي ارتكبتها بحق المدنيين في قطاع غزّة. فالطفلة سالي "قُتلت مع أمّها"، أمّا عمّتها إيناس فعادت إلى بيتها "الذي لحقه الدمار"، ثم تتكرر الأفعال غير المسندة إلى فاعلٍ محدد، مع التذكير المستمر باللازمة التأطيرية: "بعد عام من هجمات السابع من أكتوبر".
نيويورك تايمز.. "الحرب التي لا تكفّ عن الانتهاء"!
على ذات المنوال، بدأت نيويورك تايمز تقريرها الرئيسي عن سنويّة الحرب على غزّة، بتصدير قصّة إنسانيّة عن رجل إسرائيلي، فرّ من منزله في السابع من أكتوبر بعد "اجتياح إرهابيين من غزّة جنوبي إسرائيل"، قبل أن تنتقل إلى قصّة رجل فلسطيني، فرّ هو الآخر من منزله، بعد أن "ردّت القوات الجوية الإسرائيلية بقصف على شمالي غزّة". يحدث ذلك في حربٍ هي الأطول "بين الإسرائيليين والعرب" على حدّ وصف التقرير، الذي يستلهم هنا لغة التأريخ والدعاية الإسرائيلية الرسميّة للحديث عن الفلسطينيين، بوصفهم مجرّد "عرب"، ليست فلسطين أرضَهم، وأنّ التهجير لو حصل، فإنه يحصل بحقّ "عربٍ" ينتقلون إلى دول عربيّة في الجوار.
جاء التقرير بعنوان لافت يرسم الإطار العامّ لكل ما حصل: "الحرب التي لا تكفّ عن الانتهاء: كيف أشعل 7 أكتوبر عاماً من الصراع". أما متن التقرير فيحاول ضمن هذا الإطار الحاسم الإيحاء باتزانٍ موضوعي بين الطرفين، مع إسقاط حقبةٍ بأكملها من فارق التشبيه، وسقوط في التضليل الذي يوهم القارئ بأن الهجمات الفلسطينية "إرهاب محض" وأنّها قد حدثت في فراغ، وأن الحرب إنما تقع بين جهتين متكافئتين في القوّة والإمكانات.
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، قال بوضوح بعد شهرٍ تقريباً من إعلان إسرائيل حربها المدمّرة على القطاع المحاصر منذ قرابة عقدين، إنّه "من المهم أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث في فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزّة"، إلا أنّه حتّى هذا الحدّ الأدنى من الحقيقة الموضوعية يغيب تماما في تقرير نيويورك تايمز.
لكن المقارنة بلغة الأرقام، وحّتى ضمن سياق السابع من أكتوبر، تكشف عن حالة مزرية من السقوط المهنيّ في المقارنة بين الضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين، ويكشف عن أنّ المساواة بينهم ليس إلا غطاء بلاغياً جديداً للتغطية على حجم الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين، والتي ترقى إلى إبادة إنسانية اكتملت أركانها الماديّة والقانونيّة.
إنّ انتقاء قصّة إنسانيّة لضحيّة من الطرفين في سياق هذه الإبادة التي دخلت عامها الثاني في قطاع غزّة، يحصل كذلك على حساب الأرقام والإحصاءات الأساسية. تناست نيويورك تايمز في تقريرها – مثلاً - أن عدد القنابل التي تزن ألفي طن وألقيت على الفلسطينيين المدنيين في غزّة منذ السابع من أكتوبر قد تجاوز 10،000 قنبلة، وأن عدد المستشفيات التي دمّرها الاحتلال هو 31 مستشفى من أصل 36، وأن الهجمات الإسرائيلية أتت على ثلثي المباني السكنية للغزّيين. يسقط تقرير التايمز، أيضا، عدد المفقودين الفلسطينيين في الحرب والذي تجاوز 10،000 إنسان، كما يتفادى ذكر عدد الأطفال الشهداء، والذي اقترب من 17،000 شهيد، من بينهم 171 طفلاً رضيعاً. كما لا يذكر التقرير شيئاً البتّة عن 11500 شهيدة من النساء، وحوالي ألفٍ من شهداء الطواقم الطبية. أمّا الصحفيون الشهداء، والذين تجاوز عددهم 175 صحفياً وصحفيّة، فليسوا ضمن هذا الإطار خسارةً يجدر الوقوف عندها في تقرير الصحيفة الأمريكية. أما واجب التأطير الموضوعي الأهمّ الذي لطالما أُسقط في تغطية الإعلام الغربي للحرب على غزّة، فهو أنّ القطاع خاضعٌ لاحتلالٍ كامل وحصار خانق، وأنّ 70 بالمئة من سكانه هم أصلا لاجئون طردوا من أراضيهم وقراهم إبان احتلالها عام 1948. هكذا تتعامى نيويورك تايمز عن الحقيقة الموضوعية التأسيسية لأيّ حديث عن قطاع غزة، الذي هو كذلك جزءٌ وحسب من الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967.
المقارنة بلغة الأرقام، وحّتى ضمن سياق السابع من أكتوبر، تكشف عن حالة مزرية من السقوط المهنيّ في المقارنة بين الضحايا الفلسطينيين والإسرائيليين، ويكشف عن أنّ المساواة بينهم ليس إلا غطاء بلاغياً جديداً للتغطية على حجم الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين، والتي ترقى إلى إبادة إنسانية اكتملت أركانها الماديّة والقانونيّة.
لم يتوقف هيجان آلة الدعاية الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر لتبرير حرب الإبادة الشاملة على الفلسطينيين، كما لم تتوقف وسائل إعلام غربية كبرى عن تقديم إسناد ذي صيغة أكثر "مهنية" للدعاية الإسرائيلية، والتعامل مع جرائم الاحتلال في القطاع إمّا باعتبارها "ردّاً" (من باب التسويغ المبدئيّ)، أو الإصرار على التخفيف من فظاعتها وتجنّب اتخاذ موقف أخلاقي منها، بخلاف عملية طوفان الأقصى. هذا التكامل بين الدعاية الرسمية والإعلام يؤكّد على أن وكالاتٍ إعلامية ووسائل إعلام كبرى هي "ظلال للقوى المهيمنة"، بتعبير الباحث الهنديّ المختص بنقد الإعلام الحديث، دايا توسو (1)، والذي يرى أنّها تعمل ضمن منظومة تسعى إلى تشكيل الخطاب العالمي والتحكّم به لصالحها، وهو خطاب يصوغ الحقّ بالحياة على نحوٍ عنصريٍ غير متساوٍ بين البشر. أمّا الضحيّة وفق هذا الخطاب، فواحدةٌ وأصليّة وقُتلت في فراغ، بينما بقيّة الضحايا فما يزالون حتّى اليوم، أضراراً جانبيّة، في طريق التخلّص من "المخرّبين" والقضاء على "الإرهاب"، ولو كان ذلك يعني سحقاً لواقع جماعة بأكملها من البشر وإبادة لأي مستقبل لهم، كما هو حاصل في فلسطين اليوم.
المراجع
1) Thussu, Daya Kishan. De-colonizing Global News Flows: A Historical Perspective, pg2